مختارات: عباس عبود - السودان
طقوس الرحيل (*)
أفاق. تقوس ظهره على ساق شجرة النيم. تحت قدميه تراب مبلول. لا يدري كم أغفى، ساعات أم لحظات. احتدمت بدماغه هواجس النجيع. لم يقبض على جمر اللحظات، ولم يهرب منها، والنهر يولد في الأدغال، يطلب الشمال. كانت شمس الضحى ساطعة. لبرهة أسند كفه على الساق، نهض مهمهما. مشى من درب إلى آخر حتَّى شارف العشش، بيوت الطين المبثوثة في فوضى، كأنها بُنِيَتْ على عجل قبل أن تغتالها يد الإنسان.
تذكَّر منزل خميس أبو مريومة والثعابين المرسومة على جداره الأبيض. خلاوي القرآن عند الطرف الشمالي، والرجل الذي قتل بسيفه حمَّال الأمتعة. حاصره رجال الشرطة، أمطروه رصاصا. لكنه شهر سيفه وطاردهم، لجأوا إلى سيارتهم، دهسوه بها، انكسرت عظام الحوض وحُجز بالمستشفى. هكذا نشرت صحف الدولة الخبر، وصورة المصاب بمستشفى الخرطوم.
نزل الخور الفاصل بين عشش فلاتة والسوق الشعبي في الخرطوم. لطمت أنفه الروائح النتنة، والقذارة، هرول. زعيق الأغاني، الباصات وزحام المسافرين. باعة المناديل والأطباق. الصبايا بائعات الفول السوداني والتسالي. الشحاذون. أطفال وصبية الورنيش. النسوة على البنابر يبعن الشاي والقهوة والحلبة. تجول بين المحلات التجارية جوار مكاتب السفر. مَرْوَحَ طويلا يتحسس جيوبه الخاوية. عاد مرة أخرى إلى مكاتب السفر؛ متردِّدا، بصق. الإنهاك يغزو جسده، تمهَّـل يتفحص اللافتات: سفريات التضامن الإسلامي، الهدى، التيسير، الرحمة الإسلامية.
على مشارف البلدة، ومن فوق جوالات الدقيق على ظهر لوري، أبصر طارق النخلة الوحيدة، المغروسة بين الرمال الذهبية وقت الشروق، والمياه الراقصة على لهيب الأفول. عند تلك النخلة اختصم سمَّاكان وصاحب القارب؛ كان صيدهم ذهبا:
مع الغناء والقارب المنساب، واصل الصائدان جذب الشَّبكة وجمع الأسماك. فجأة أضحت الشَّبكة ثقيلة، تعاون الاثنان، اصطادا جرة فخارية قديمة. اختلفوا. الصائدان طالبا بقسمة الذهب بالتساوي بين ثلاثتهم. صاحب القارب تمسَّك بحقه في نصف الجرة، تماما كما يقتسمون السمك. أوصلهم الخلاف إلى مركز الشرطة. صباح اليوم التالي، أرسل مكتب إعلام البلدة، برقية إلى صحف الدولة. قيل حينها إن مملكة ازدهرت على القوز الرملي شمال البلدة، عند نخلة الشاطئ، قبل ميلاد السيد المسيح بسنوات معدودة. والآن ترقد القطع الذهبية بمتحف السودان القومي.
هذا الصباح أفاقت مريم من رعشة الحلم. تململت على جمر التوجس حتَّى انبلجت قبسات شمس وليدة. توضَّأت ثم جلست على مصلاتها تحاور الأسئلة الحائرة، والقلق الفاجع.
هذا الصباح
الريح ساكن
والبلدة عابقة بنشيج الفجيعة
الظلال على الرصيف
مريم بدر الدين
تطلَّعت غربا
فوق الحائط الطيني القصير
بصدرها
نواح صامت متحفز
غازلتها نسمات النهر
الجاري إلى الشمال
بريئا
من دم الضحايا
وغمغمات الشهود
العجوز غادر كوخه عند الضحى، مستغرقا في التأمل كأنما تناهى إليه قبس من الأبدية. النهر ساج عند قدميه، وعلى الضفة الأخرى تلمع القبة البيضاء تحت الشمس الساطعة. رفرف الهدهد ثم حطَّ عند قدميه.
طارق عبد المجيد تطلَّع إلى هامات الجميز الباسقة وقال في نفسه: في هذه البلدة، هل غادر النهر مجراه للمرة الأولى؟ شاخت البلدة لقرون، هكذا رآها وخطواته تبارح المحطة. نخلتان حائرتان وسط بيوت العاملين في المستشفى.
صافحوه بحرارة. حمدوا الله على سلامته وفي عيونهم السؤال. بين المستشفى وأول البيوت، كانت بقايا الدهاسير تندب أمهاتها وأخواتها الشجر، اللائي ذهبن مع ندرة المطر، والاحتطاب الجائر. أشجار الطندب صامدة، تختزن أحزان صويحباتها اللائي انقرضن، وعلى خضرتهنَّ المغدورة، بقية من نشوة الحياة.
انداح بصره جنوبا إلى المقابر وأشجارها الكالحة، داهمه غبن ليلة البارحة؛ وترقرق الدمع بعينيه. قرب روضة الأطفال استوقفه رجل وامرأتان يسألون عن عاصم بدر الدين. تجمَّع حولهم صبيَّان وطفلة. تذكَّر قائد فريق الطلاب لبناء الروضة. كان المبنى جميلا عند اكتماله، ولكن الأهالي لم يزرعوا بها شجرة، ولا زهرة، ولا ارتادها طفل؛ وها هي خرائب تأوي إليها الحمير.
تحت النخلة طوقه الأطفال والصبيان، النساء، والرجال، والشباب. مريم بدر الدين وأمها، الأسئلة. وجميعهم على رحى التوقُّع.
وقع النبأ كصمصام
شجَّ جبين البلدة
فانبلج حزنها مضيئا
كنجمة
تخرُّ؛ إلى رمادها المحتوم
الأفق الغربي يعبق بأنين الشمس في احتضارها اليومي، والأفق الشرقي تلبَّد بسحب رمادية، تركض شمالا. سَرَتْ التكهنات والأقاويل، بلا دليل؛ أو يقين.
= = =
(*) مقطع من رواية بعنوان طقوس الرحيل الصادرة في عام 2005. صدرت الطبعة الثانية منها في القاهرة في شهر نيسان/أبريل 2009. الناشر: دار الحضارة. للمؤلف مجموعة قصصية بعنوان صهيل الفجر الغامض (دار الحضارة، 2008)، ورواية تحت الطبع بعنوان مرافئ السراب، نشر بعض من فصولها في أعداد مختلفة من عود الند.
◄ عباس علي عبود
▼ موضوعاتي