هيام ضمرة - الأردن
ملامح الأسرة والطفولة في شعر خالد فوزي عبده (*)
(*) خالد فوزي عبده: شاعر فلسطيني من مواليد مدينة نابلس عام 1927.
خالد فوزي عبده من الشعراء الذين انجذبوا إلى واقعيتهم الرصينة، فقد رابض في خندق الانتماء الأسري مفجرا مشاعر نجواه، ومسيرا قاربه على محاذاة شطآن آمنة، ليمنح ذاته وغيره مما يعتق ولج المشاعر والخيال، ونفح الأنفاس، مطوعا الكلمات والعبارات أجمل تطويع ومسجلا أوزانا وأبياتا سامية المعاني، أصدقها مشاعر وأنصفها استحقاقا .
وعبده كأي من أبناء فلسطين المحتلة، قد أرهقهم الشتات وأرقهم هاجس البحث عن فرص العمل وتأمين الاستقرار، ونال الاغتراب عن الأوطان منهم ما نال، فتوهجت مشاعره، وانبجس الإحساس فيه أضعافا ، مما عزز مشاعر الانتماء للأسرة والأوطان على السواء، كان بيان حصيدها أن توثقت عرى العلاقة وانتعشت فيوض الاستجاشة، وانطلقت أعنة البوح لتعتاش في رحاب الود والرحمة والمساكنة بارتواء مكين، من خلال المناسبات الأسرية وأحداث سعدها، أو آلام ترحها.
فالخوض في الشعر الأسري هو ثمرة تلاحم يجمع إيمان الجوارح وإيمان الفرائض، طالما أن العواطف الإنسانية تجاه أفراد الأسرة في موقع الصدقة والعبادة، هي مطابقة حثيثة وزاخرة للفطرة الإنسانية البليغة في الود والتراحم والتلاحم، وهي مشاعر التئام وانسكاب وارتواء تدغدغ القلب وتسري من خلاله إلى شعب النفس، أحاسيس غامرة تفيض أنسا وبهجة وتفتح قريحة مجلجلة، وتولج معاني وألفاظ جميلة وقوية، لتصوغ المعاني على أعنة سامية، تشيد أعمدة موزونة، وأبيات بخمائل موصوفة بين سطر وشطر، وبين تفعيلة وتفعيلة، وبين قافية محركة وقافية مسكنة، قصائد تحكمها البلاغة وترسمها وهجات الصور.
والشاعر خالد فوزي عبده من الشعراء القلة الذين خاضوا القصيد وأطلقوا الشعر من نبع وافر العطاء، زاخر المواضيع، متدفق المشاعر والتعابير، يخوض في مخزون غني يكاد لا ينضب، ويجوب أجواء تنفتح على سعة في التصوير، وارتياد للخيال معبر ومتنوع، هو شاعر خصب رصف أرضية شعره بمكعبات جميلة، ووجه جزءا غير قليل منها باتجاه الأسرة، وإن كان أجزل العطاء في قصائد وصف المدن التي ارتبطت بها مشاعره أو ذكرياته، وكذلك بشعر المناسبات الذي أحرز فيه قدرا كبيرا حتى لتكاد تجد لكل مناسبة أو حادثة قصيدة، ولا غرابة فالشاعر عبده من الشعراء المعطاءين، فبعد وفاة زوجته وزواج جميع أبنائه وتقاعده عن العمل، تفرغ للشعر، وأوقف جل وقته لارتياد صالات الثقافة والتفاعل الثقافي على أوسع مداه والالتفات إلى قضايا مجتمعه وبلده ومناسباتها الوطنية وهو ما زال معبأ بعطائه الأدبي الشعري، تغشاه دوما الجملة الشعرية فيصطادها بمهارة دون تعقيد، ويصوغها بفنية واضحة وهي مشحونة بالمؤثرات الفاعلة في بوتقة دافئة الجياش.
وقد تمكنت من رصد مجموعة تنوف على خمس وثلاثين قصيدة تدور رحاها في نطاق التغني بأفراد الأسرة وبالطفولة، وتبرز من خلال دواوينه التسعة مثل الصواري الباذخة، تكتنز بالمعاني الإيجابية، ففي ديوان قوس قزح قصائد ربت على العشر تدور في هذا الحقل. ومثل ذلك في ديوان زهور لا تذبل كان هناك حوالي تسع قصائد، والباقي توزعت بين الدواوين المطبوعة والمخطوطة، وقد تنوعت مضامينها وبحورها ومحاكاتها، فهناك ما هو معبأ بمعاني البر للوالدين، وهوى الزوجة وافتقادها بعد الرحيل وحب الأبناء والأحفاد والأخوة وأبنائهم، وفي لحظات بوحه نراه يعلن ما استتر في خلده من جياش المشاعر دون ابتذال، ويحمل أشعاره قيما فاضلة.
الطفولة وملاعبها في وجدان الشاعر
ومن الواضح أن الطفولة بقدر ما حازت على اهتمام الشاعر، ظلت أخيلته تدور في فلكها مع كل حالة أو حادثة تتراءى أمامه وهو الجد الذي جاوز الثمانين من عمره المديد، وقد استحوذ عليه التأمل والتقاط الصور، لأتمكن من رصد مجموعة غير قليلة تؤكد المقولة المتداولة (في داخل كل منا طفل على أهبة الظهور) فالشاعر وجد على مسرح الطفولة ما أثار مخيلته وأطلق عنان أشعاره، مستجيبا لمحفزاته الداخلية، ملتقطا الصور بقصائد تتناسب وبحورها مع مواضيع الطفولة، وربما طرق الشاعر عوالم الطفولة لسعة فضائها واستحواذها الكلي على الأحاسيس والمكنونات بشتى أشكال جياشها فللطفولة صور براءة مؤثرة تتغلغل بحبها إلى أعماق النفس البشرية التي فطرها الله عز وجل عليها بكل ما يكتنف هذه المشاعر من حب ورحمة ورفق وانجذاب، ولذلك فهي الذكرى المقيمة التي تتصدر شاشة العرض كلما استحضرتها المناسبات.
فها هي قصيدة "ومضة من الماضي" (قوس قزح، ص 36) التي يتحدث مضمونها عن استنهاض فيض مشاعره خلال مرافقته لوالده في زيارة لمدينة السلط وهو ما زال بعد طفلا، تستعذبه ملاعب الطبيعة الأم، وتبش ملامحه لبهجة إغداقها الوفير، فينطلق بمراتعها يغرف من مبهراتها ما يشبع وداد وأنس طفولته، وما تركته تلك الزيارة من أثر في نفسه استعصى رغم الزمن عن الاندثار حتى أسكنها قصيدته بالقافية المسكونة، ربما للتعبير عما سكنه من جميل المشاعر نحو هذه المدينة وأهلها، فللمكان مكانة أثيرة في نفوس الشعراء، كثيرا ما جال خيالهم بين تضاريسه، فكيف إذا ما ارتبط باستعذابات نفس مهتدية ببراءتها وسليقتها. فيشير إلى ذلك في مطلع القصيدة:
يــا لمــاض إذا وثـــب = = بالذي فيــه مـن عجــب
جـــاء يســعى بحقبـــة = = لم تــزل أجمل الحقـب
إلى قوله
كـــم ريــاض ولجتهـــا = = وحقـــول فلـــم أهــــب
ليـــس فيــهن زاجـــــر = = ينفث السخط والغضب
كـــــم تخيلــــــت أنهــــــــا = = مـــــــــن جمــان ومن ذهب
رف طرفي لدى الوداع = = من الحــزن فـانتحــب
القصيدة أتت في سبعة وثلاثين بيتا مما يؤكد صفة التدفق في شعر الشاعر، وامتلاءه بالصور الشعرية المسترسلة، فغلبت الإطالة على قصائده رغم تنوع البحور، فمن الواضح أن القريحة تعج بالكثير وأن القدرة أكيدة وواضحة في العطاء، وأنّ الأبيات تتوالد معه بيسر واقتدار.
ففي ديوان قوس قزح وحده هناك عدد غير قليل من قصائد الطفولة كمثل "ومضة من الماضي" (ص 36)، "طفل في العيد" (ص 57)، "طفل وطير الكناري" (ص 59)، "السيوف الخشبية (ص 75)، "طفلة تدعى يافا" (ص 102)، وغيرها، تتبدى فيها المتانة وحسن السبك واسترسال التعبير، وهي تعطي فكرة مستوفاة برهافة حس الشاعر التي تجعله ملتقطا جيدا لصور البراءة ونصاعة النظرة للجاذبية الكامنة بها وهو يعبئ قصائده بشعاعات الإغداق والحدب والصور المستحضرة من الذاكرة والمتشكلة في قيعان العقل النابض بشتى التصاوير، لتظل الطفولة بجاذبيتها وإشراق صورها وحضورها الزاهي إحدى ملهماته في التعبير الصادق بعدد لا بأس به من القصائد.
ملامح الإنسانية تبدت بكل أوجها عبر قصيدة "غناء كالبكاء" (قوس قزح، ص 280) التي تحرك داخل المتلقي عواطف رحمة وهاجة، فقد استلهم الشاعر قصيدته خلال زيارة له لقرية الأطفال (sos) مرافقا مركز التوعية والإرشاد الأسري الذي يؤكد حضوره الاجتماعي الإنساني، فتحرك داخله بوجيب مكتوم بدرجة حرارة فائقة كان يعقص فؤاده بتوجع، حتى اندفعت منه الآهة لتفتح مجالا للقصيدة، فليس أكثر مرارة وإثارة للألم من مظهر طفولة بريئة محرومة من نعمة الحضن الأسري الطبيعي، فكل نزلاء الدار من الأطفال إما أيتام أو لا أهل لهم هم إخوة تعنى بهم مربيتهم وهي الأم الحاضنة الرؤوم، التي لا يعرفون أما سواها، الأمر الذي أفجع الشاعر وهو يقرأ ملامح البراءة على وجوههم وهم لا يكادون يدركون ما هم فيه أو أي مآل يستقبلهم، وتساءل بحرقة : كيف تلقى الطفولة على قارعة المجهول؟ وكيف تتحجر القلوب و تنسلخ الرحمة والإنسانية والفطرة عن أفئدة أمهاتهم وآبائهم ؟ وهذه مقتطفات من القصيدة:
إنمـا بسمـة الطفولــــة بــرء = = وشـفـــاءٌ لكــل جـــرح عنيـــد
جـلّ مـن جمّـل الحيـاة بطفـل = = فهو أبهى وخير ما في الوجـود
أي نــار تهيــج فـي قلــب أم = = وهي تنــأى عن طفلها المــوؤد
على أن قصيدة "الطفل وطير الكناري" (قوس قزح، ص 59) ترسم صورة حية لنقاء الطفولة التي تنزع للحرية وتنبذ القيد وهي صفة تتواءم والطبيعة الطفولية المنطلقة على سجيتها، والتي تثيرها الأشياء الحية بحسيتها كالحيوانات الأليفة والطيور، فنرى الشاعر ينطق بلسان الطفل ويكتسي رهافة نفسه، فيلتفت إلى الطير الملون السجين ومشاعره تختلط بين الدهشة والإعجاب وفي الوقت ذاته يتشكل في ذاته الرفض لتقييد حريته والاعتراض على سجنه وهو الذي خلق ليُطلق أجنحته المعززة بالريش في فضاء الحرية اللا محدود، منازله أفنان الشجر وموطنه مراح لا يعرف الحدود، هي النزعة الرحيمة والشفوق في نفس الشاعر. فيقول:
بلحاظ الإعجاب والإكبار = = راح طفـل يرنو لطيـر الكنـاري
إذ رآه يزهو بحمرة بطن = = واخضرار في صدره واصفرار
وكأنــي بــه يــود فـرارا = = من إسار ومــا لــه مــن فــرار
لم يدار اعتزازه وهواه = = وســـرورا لم يخـــل من إنكــار
وفي قصيدة "السيوف الخشبية" (قوس قزح، ص 75) حيث يعمد فيها إلى المباشرة كما في غالبية أشعاره، يستعيد الشاعر ذكرى السيوف الخشبية التي خاض بها معارك ملاعب طفولته والخيال يستحوذه، وساءه عندما كبر أن يتيقن أن الأسلحة الحقيقية التي أضحت بيد العرب هي الأخرى مجرد سيوف خشبية لا تحمي حمى ولا تذود عن أوطان في ظل هيمنة قوى متسلطة وانتفاء فرص التكافؤ بالقوة، وهو بذلك يعبر عن رؤى واعية لواقع صعب.
الوفاء الأسري
ينطلق الشاعر مفجرا فحوى مشاعره الذاتية والانتمائية لأفراد أسرته، متكئا على منطق العقل والفطرة السوية، بداية بوالديه الشيخين وقد أفاض لهما البرّ بمكنونات متسامية، ثم زوجته ورفيقة خطى حياته التي أسكنها الفؤاد فملأت له كأس الهناء بسخاء، ومنحته الأبناء، وسارت معه على الدرب وأكتافهما أوفى اتكاء، فأبناؤه وبناته فلذات كبده وقد استوفت فيهم الصورة لما تمناه لهم، ثم إخوته وما يكتنفه لهم من مشاعر أخوية عابقة بالود والإخلاص والواجب، فأبناء إخوته وأحفاده، وكل صورة أو حادثة مؤثرة حدثت معهم فجرت في داخله قافية شعرية لأبيات موزونة.
ومن عمق مطارحاته لهذه المشاعر الفياضة، راح عبده ينشد لأفراد أسرته ومحيطه مغلفا قصائده بالضياء، ناحتا الحروف والكلمات بمعان شيقة، لتتشكل بين أنامله منحوتات شعرية بشتى لجج المشاعر واختلاجاتها التي اكتنفته مع كل حالة، فرحا كانت أم زهوا أم حنينا ، حزنا أم شجنا أم رثاء، مدركا قيم تراثه العظيم متمسكا بانتمائه الأسري حيث الود والأصالة.
من أعماق قصيدته "حواء والكون" (مخطوطة) نجد الشاعر يتحدث عن خمس من الصور لحواء أحبهنّ في حياته وكنّ ذوات أثر راسخ على مشاعره وشخصيته، بل وكان لحضورهنّ في حياته معنى عميقا ، كن مبعث فرحه وسعادته وفخره وإلهاماته، تعلوهن بالمقام والدته، والوالدان يقترن برهما بالإيمان بالله، أي أنّ إكرامهما والوفاء لفضلهما والقيام على رعايتهما وخدمتهما في عمر الوهن، وحمل أسمى المشاعر لهما هو في أساسه عبادة وتقرّب إلى الله، فيقول الشاعر في والدته:
آيــات إيثــارها هيهـات أجحــدها = = ما كـان أجملها ذكرى من الصغـر
مـا زلـت أحمـل بالتقديـر مشعـلها = = حتى أضيء به دربي على الكبـر
وجـدتــها دوحــة فيحــاء وارفـــة = = فلـذت بالفيء أزجـي الشكر للقـدر
ثم ينتقل الشاعر واصفا مشاعره السامية تجاه شقيقتين له كانتا نعم الأخوات كما كان لهما نعم الأخ الحنون الراعي والمؤتمن، متمثلا بذلك الخلق المتراحم والظل الوارف الحاني والجامع:
ونلت من دوحتي أختين قد بدتا = = أغلـى وأروع ما أعطـت من ثـمر
ما كـان أسعدني لمـا غدوت أخا = = للنبـل والطهـر والإيمان والخفـر
أرى بوجهيهـما وجهي فيفعمني = = سرور قربى جلا إحساس مفتخر
ثم نجد الشاعر ينتقل مسهبا في تعداد مناقب زوجته، شريكة الدرب الجميلة والنضرة، وكانت متعة قلبه وبصره، منحته هناء العشرة ورحابة يسرها وأنسها، ووجد في صفاتها صورة لما كان يتمناه ويتأمله، شريكة صابرة تقاسمه كل محطات الحياة، وكان مقدّرا له أن يُفجع بفقدانها، فنراه يتأسى على وفاتها وغيابها عن حياته بكلمات ترسم حالة وفاء عظيم.
كم خلتها الحلم لم يمح الصباح له = = حقيقـــة فـــغدا أجـــرا لمنتظـــر
أو خلتـها الشهـد وافتـني حلاوتـه = = من غير كـد ولا لسـع من الإبر
مهرتـها مـن عقـود الـود أجملــها = = فقـــد تخيرتهـــا مجلـــوة الــدرر
ثم لا يفتأُ الشاعر يُبدي تفجعه على فراقها ويُؤكد وفاءه لذكراها واكتفاءه بطيفها الملازم، ويبثّها نجواهُ ويُناوحها بشكواه، ليُظهر بعد ذلك عزاءه بوجود الابنة الخلوق البارة والطيبة التي أدت الحق تجاه والدها بمروءة ورضى بالغين، مبديا أقصى سعادته عندما أهدته ابنته من يحمل بعضا من صفاته الجينية بالحفيدة الغالية، فكانت أجمل المُنى لحياته لتهبه لذة الإحساس بالامتداد والإشراق، فيقول:
فصار لي في ابنتي خير العزاء كما = = يصبو له الدوح أُملوده النضـر
فإن تكن زهرة قد صوحت ومضت = = فإن لي زهـرة تسمو على الزهر
أوردتهــا نهـَــرا من طيبـة وتقى = = وما لها عن زلال الحق من صدر
حـــق الأبـــوة صانتـه مروءتـها = = معنى يحـدث عن أخلاقـها الأخر
ومن الواضح أن الشاعر يعاني ألم الفقدان لشريكة العمر الراحلة ويعيش الأيام الباقية من عمره يقتات الصبر على ذكراها، وقد عبر عن مشاعره في ذلك بعدد من القصائد المتمثلة في رثائها محملا إياها فيضا من مشاعر الشوق لها والتصبر على قضاء الله وقدره. ففي قصيدة "لثوبها أقول" يوقد ظهور ثوب زوجته أمام ناظريه لهيب الذكرى وعفر قلب الشاعر بالوجد والحزن فراح يطلق بوح وجده ومواجعه بأسى وحرقة بالغين.
وددت لــو أن جرحي ظــل مندمــلا = = فليــس ينكــأه مــا كنــت اكــتشف
غـــفوت بيـن بقايـــا في خزانتــــها = = كعابــد في سكــون الكهـف يعتكف
فأيقظتـــك بـــناني وهــي راعـــشة = = وقــد تحفــز فيك الوجــد والشغف
لو يملك الموت للإفصاح عن أسف = = حــق اعتــذار لـرق العذر والأسف
وشاعرنا المرهف الأحاسيس والمواجد يأبى إلا أن يكون ذلك العطوف المتعاطف الذي ينبري للاهتمام بشارد ووارد الخطوب التي تنال من أفراد عائلته، فنراه يتلوع لمصاب ابنة شقيقته وقد نال منها المرض العضال نيلا جامحا، وأسقطها في أتون العذاب طريحة الفراش وطيف المنون يحوم حول مرقدها، فيبث بها عزم الاستنهاض من قبضته لتقهر بعزيمتها المرض ويعاودها شروق الملامح وتتوضح النضرة على محياها من جديد:
عـودي إلى صبـحك الوضاح يا ليـنا = = حتـى يشــع ضحــاه في ليالينا
لوذي بصبـر على ما اشتـد من سقـم = = كم شدة بعد صبر أصبحت لينا
والدهــــر حينـــا عبــوس في تقلبـه = = لكنــه باســم مستبـــشر حيـــنا
ويستكمل الشاعر عبده فواصل مكنوناته الأسرية وهو يصور استغراقه بالحزن لوداع ولده وتلوعه على بعاده واغترابه طلبا للرزق حين ضنّت الأعمال بأرزاقها داخل الوطن، والشاعر هنا يستقرئ لوعة الغربة والافتراق وقد سبق أن ذاق هو مرارتها قبل عودته للوطن، ومن قصيدة "بعد الفراق" (قوس قزح، ص 79)، يقول:
نضال غاضت دموعي لست أذرفها = = ولــن تراهــا فإن القلـب ينزفــها
زرعـت فيــك بذور الخــير واعــدة = = وهــذه ثمــرات الخــير أقـطفــها
طموحــك الطــود ما تنــفك ذروتــه = = تصد ما هاج من ريح وتصرفها
وللأخ الشقيق تصدحُ معاني الأخوة في قصيدة بالغة تسطع بإشراقاتها الجميلة، ورغم اتكاء الشاعر على المعاني وجزالتها على حساب بلاغة الصور فإن القصائد تمنح وضوحا بالتعبير عن المقاصد دون مواربات أو ترميزات:
أحــس به في دمي نابضــا = = كذاك الذي سال من جرحـه
وأبــعث في ليــل أشجانــه = = ضيـــاء تـــلألأ في جنحـــه
لتبـقـــى قـــرابتـــنــا ذروة = = بطـود وليست على سفحه
وبعد، فهذا غيض من فيض قد لا يفي الشاعر حقه، إنما حسبنا أن الشاعر خالد فوزي عبده من الشعراء المرهفي الحس والوافري العطاء، معبأ بالمُثل، ومحمل بالقيم الناصعة. ودواوينه التسعة شاهدة تؤكد أنه ما نزع لغير ذلك ولا أسقط أدبه في معترك الوهم أو اللوث.
= = =
من مؤلفات الشاعر
قوس قزح. دار المأمون. عمان (2007).
إليك يا نابلس. بدعم من اتحاد الكتاب والأدباء الأردنيين (2006).
عندما ينزف الشعر. بدعم من وزارة الثقافة الأردنية (2004).
نفحات أردنية. بدعم من وزارة الثقافة الأردنية (2002).
زهور لا تذبل. بدعم من وزارة الثقافة الأردنية (1997).
شموع لا تنطفئ. دار النهضة. عمان (1992).
◄ هيام ضمرة
▼ موضوعاتي