عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

صفاء صيد - الجزائر

على ضفة الحلم


.

مقدّمة

ما أروع أن تجد أبا يحثّك بكلمات بسيطة وجمل مختصرة على حفظ ولو بعض من القرآن الكريم، وبيت أو اثنين من الشّعر الفصيح، وكذا مطالعة الكتب راقيها ودانيها! وتزداد تلك الرّوعة رونقا عندما تجد أمّا تصرّ عليك أن تدون أيامك على صفحات بيضاء تنتظر أن تدبّ فيها الحياة. تصرّ، فتكاد تجبرك أن تكتب أيّامك كلمات تعزف حروفها حسن التنسيق بين الجمل، وكأنّ الجمل صارت تصنع الكلمات.

آه لو كان ذاك الشّعور يسمعني لرجوته أن يمتدّ سرمدا ويتخطّى كلّ حاجز يقف له متصديا دون أن يصاب بمكروه. لذيذ هو ذاك الشعور عندما تجد أملا يدفعه من ورائه حلم، ويجذبه من أمامه أب مصرّ وأمّ ملحّة.

أتمنى، أتمنى، أن تكون تلك الأحلام واقعا أستظلّ بأيامه، وأحكي لها، الأيّام، كم كانت أختها تتمنى أن تلقاها لكن للأسف الأيام لا تلتقي.

.

النص

لم أكن أدري. لم أكن أعرف، أنّ بعضا من هذه الكلمات (وبالصّيف موت وأقلام تكتب عن الألم) ستوقظ في نفسي ذكريات كانت غرقت في سبات عميق. ذكريات كنت قد دثّرتها وزمّلتها لكيلا تزعجني من جديد. ذكريات فررت منها بمجرّد أن استيقظتْ.

هربت منها إلى حيث لا تجدني ولا تعترض طريقي، لكنّها أفاقت بنشاط كانت قد اكتسبته من تلك الكلمات وشربته من ذكري لكتاب رياض الصّالحين. أخذت تلاحقني وأنا أركض وأصرخ. أدعو إلهي أن يساعدني أو يرسل من يغيثني. أبكي. أصرخ. أنادي ولا أحد يجيبني.

وبينما أنا كذلك، تراءى لي شبح يلوّح من بعيد ويشير إليّ بيديه أن أسرع، فعلمت أنّ الله قد أجاب دعائي. كان يشير إليّ ألا ألتفت إلى الوراء ولا يمينا ولا شمالا. "انظري فقط إلي."

لم أذكر من بعد ذلك شيئا غير أنّي وجدت نفسي في غرفة واسعة لم يفرش فيها غير سجّاد أحمر لأجلس عليه. انتابني الخوف والفزع، فأخذت أصرخ وأنادي وظللت على ذاك الحال ما شاء الله، وإذا بي أسمع دقّات حذاء تقترب شيئا فشيئا. تسمّرت في مكاني بعد أن مسحت عبراتي المنهملة بخماري، واتجهت بمقلتي نحو الباب أنتظر أن يدخل ذاك الشّخص.

إنّها هي. إنّها هي. أستاذة الأدب العربيّ تبتسم وتدنو مني.

وضعت كفّها على كتفي وهمست ببضع كلمات لم أفهمها، بل إني لم أسمعها. ثمّ ناولتني هديّة قد غلّفت بغلاف بنفسجيّ لامع، زادت جماله تلك النّقوش الفضّيّة التي تسحر العين برونقها. أنست بذلك كثيرا ورحت أتحسّس الهديّة وهممت بفتحها، ولم أكد أفعل حتى سمعت أستاذتي تقول:

"حين دخلت أوجست منك خيفة، لا تخافي فأنا ما أتيتك إلاّ لآخذ بيديك نحو الطّريق الصّحيح. واعلمي يا بنيّتي أنّك إذا اتخذت القرآن مرجعك الأوّل لن تضلّي أبدا. لن أطيل عليك. أتمنى لك التوفيق من كلّ قلبي."

أحسست بشيء غريب يتسلل إلى جسمي، واضطربت أفكاري فأوقدت نارا وقودها الذّكريات.

دخل أخي الغرفة وأضاءها فقطع حبل أفكاري، وقتل جسم الذّكريات. لم أكن أشاء أن يحدث ذلك لأني مللت الفرار وعدم المواجهة فصرخت في وجهه أن اخرج. تعجّب من ذلك وبهت ليس لأني صرخت فتلك عادتي، بل لأنّه لم يكن يعلم بوجودي. قتل الذّكريات دون أن يأخذ معه جثمانها، وتركني وحدي أتخبّط في فكّ طلاسم لغز ذكرى أستاذتي.

صحيح أنّ أستاذتي قد أهدتني كتابا ولكن لم تكن تلك هي التفاصيل، ولماذا فكّرت بها؟ أترى لأنّ نتائج نهاية السّنة ستعلن غدا؟ لا. لا. لا أظنّ ذلك. لملمت شتات أفكاري وذهبت إلى حيث يوجد أبي يشاهد نشرة الأخبار. رحت أتتبع بعيني الشّريط المتحرّك. نعم هذا ما كان يخيّل لأبي. التفت إليّ وقال:

"كاش ما كتبت؟"

أحسست بجسمي ترتفع حرارته وبقدمي ترتجف، ورأيت أستاذتي تضع خمارها الأبيض وتغطّيه بالرّمادي تقدّم لي الهديّة. التفت إلى والدي:

"لا، ما كتبتش."

تناولت خمار أمي وغطّيت به ما يظهر من شعري ورقبتي واتجهت مسرعة نحو الشّرفة أسأل نفسي: ما بالي؟ ليست هذه المرّة الأولى التي يسألني أبي. لماذا أتذكّر أستاذتي في كلّ لحظة وحين؟ لم أكد أكمل السؤال حتى ضربت جبيني بيدي:

"ماذا؟ كيف فعلت هذا؟ كيف نسيت؟"

نعم لقد وجدت الإجابة، فككت طلاسم اللّغز. نعم. مضت شهور كثيرة ولم أكلّف نفسي عناء حمل كتاب بين يدي، ولا قلم أداعب به الورق. أنا خائنة. كيف سأقابل الأوراق؟ ماذا سأقول لها؟ ترى هل غادرتني الموهبة أم أنا التي غادرتها؟ ترى هل أنا من ذاك الصّنف الذي حدّثني عنه أستاذتي؟ رجفة غريبة في جسدي. دقّات قلب متسارعة.

ذهبت أبحث عن خواطري القديمة. وجدت الأولى قد اعتلاها الغبار. ضممت كامل المجموعة إلى صدري واتكأت على الحائط من شدّة الوهن. رحت أبكي موهبتي الضّائعة وصديقتي الهاربة. استرسلت أضرب مؤخّرة رأسي على الحائط وأقول:

"أيّتها الموهبة الضّائعة: هجرني الأصدقاء وخانني الأحباب واليوم أنت ترحلين بروحك الطّاهرة إلى حيث لا أدري. لم تتركي لي غير الأوراق جثّة هامدة تعزّيني في فاجعتي الأليمة. لم تعلميني أنّك ستذهبين. خنتني. خنتني. مع أنّك تعلمين أني قد مللت الخيانة."

مضت الأيّام بنفس الأحداث وما زاد عليها شيء غير العصبية. لم أعد أتحمّل أيّ ضجّة ولا أيّ كلام إلاّ برغبتي. لم أعد أهدأ حتى وأنا على الفراش، كلّ أيّامي أصبحت فوضى وبكاء دون جدوى. اشتدّ بي التّعب وبلغ بي الألم من جرّاء التفكير، ولم أجد لنفسي سبيلا إلى الخلاص غير قراءة بعض من القرآن الحكيم. فعلت ذلك فوجدت ضالّتي: الرّاحة، فقد نقلتني كلمات الإله إلى عالم آخر. بثّت فيَّ الحياة بعد أن متُّ.

آه. آه. سرعان ما تلاشى ذاك الإحساس. رجعت إلى عالمي الحزين، ولكن ليس بالنفسية ذاتها فقد رجعت متحدّية الورق والقلم. أتيت عالمي مصرّة أن أكتب كلّ ما يخطر ببالي، أأعجب ذلك أم لم يعجب. سأجعل من هذه الحادثة بداية جديدة لمساري. سأكتبّ قصّة دون أن أعرف ما هي القصّة. سأدوّن رواية دون أن أعرف ما هي الرّواية.

سأتمرّد على الحروف والكلمات كما أشاء. سألقي خواطري في المدرسة والشارع وأعرضها على صفحات الجرائد. سأجعل لنفسي عالما أدبيّا دون قانون وليقل القائلون ما شاءوا. سأولد في الأوراق من جديد وسأحدّد هذه المرّة تاريخ مولدي.

وبقيت نسمة الأحلام تعزف سيمفونية آمالي، أخذت بيدي اليسرى القلم وباليمنى الورق. رحت أكتب كلّ فكرة تخطر ببالي ثمّ أعرضها على أختي فتشمئز لسوء ما أكتب فيزيدني ذلك إصرارا. مضت أيّام كثيرة وأنا على ذاك النّحو: أكتب وأمزّق. أفكّر وأتعصّب. صرت وحشا أدبيا. وحشا آدميا يكتب على الورق.

عقدت العزم على أن أدوّن كلّ ما حصل لي مع ذكرى الهديّة التي هدتني بإذن الله إلى حيث يجب أن أكون. أخذت القلم والكرّاس. رحت أدوّن الذّكرى وأنا أعلم أنّ تعبيري ركيك وكلماتي غير موزونة وأنّ حروفي غير جذّابة. ولكن ماذا سأفعل؟ أريد أن أطلق العنان لقلمي، أريد أن يرتاح بالي. لن أنثر أوراق خواطري من جديد ولن أيأس من الكتابة حتى وإن سرقت جُلّ وقتي. سأنتهج مقولة "أوّل الغيث قطرة ماء." سأكتب وسألقي أدبي حتى وإن كان أوّل الغيث جزءا صغيرا من قطرة ماء.

مضيت أفكّر وأفكّر حتى استدعيت الوساوس دون أن أدري، فقد تبادر إلى ذهني جمع أسئلة منها: من سيقرأ أو يستمع لكمات تكتبها بنت في الرابعة عشرة من عمرها؟ لم أستطع إبعادها لأنها الحقيقة التي لا مفرّ منها، فإذا قرأ أحد كلّ ما كتبت سيشمئزّ كما اشمأزّت أختي، وإن أعجب سيهزأ عندما يعرف من أكون، وإن لم يكن فأنا أعلم أنّ كلّ ما أكتبه سيبقى حبيس الدّرج ولن يجد لصوته صدى، بل وكيف سأحسّن أسلوبي الرّديء وأنا لا أجد أحدا ينتقدني؟ لا. بل نعم. هذه ليست وساوس، وإنّما هو الواقع.

ترى لماذا أنا دائما أفكّر في المستقبل ولا أعيش الحاضر؟ وإن لم أفكّر في المستقبل أذهب إلى الماضي. ألا يريد الحاضر أن أعيشه؟ أنا لم أطلب أن أكون المنفلوطي أو مستغانمي إنّما طلبت أن أكون أنا. أريد أن أرضى عن نفسي وعن كلّ ما أكتب دون المبالاة بالمستهزئين. أكذب على نفسي إن قلت لا أبالي بالنّقاد لأنّي أنتظر ذلك.

ليس من الأصدقاء، لأنّي أحيانا أحسّهم جميعا لي مجاملين. يحسبون أنّهم بذلك يحسنون صنعا ويبعدونني عن التشاؤم ولا يدرون أنّهم يفسدونني ويحطّمونني لأنّي في قرارة نفسي أريد أن أرقى إلى العلى، وإن كان ذلك كل سنة، لا أن أمدح نفسي وأعيش على وقع الذكريات فيفوتني الرّكب.

تشوشت أفكاري وزادت آمالي كما اشتدّ إصراري حتى وجدت نفسي أكتب من جديد بتعبير ليس بالرّاقي ولكنّه بالمقبول أقلّ من قليل. تعبير. أفكار كنت قد اخترت لها الأحلام ضفّة، والآمال نهرا، والقلم شجرا، والورق سماء. هيّأت ذلك دون علم فقد خدّرتني الآمال والأحلام التي شربت من كأسها حتّى ثملت. وددت أن أجعل من هذه الصّفحات بوابة نحو حلم ليس بجديد ولا بضعيف.

أن أكون أنا قبل أن أكون أيّ إنسان. أن يتجسّد فيّ الحلم والأمل لا أن أتجسّد أنا فيهما. ألا أمدح نفسي وأترك الذمّ والمدح لقرّاء الصّفحات. غرقت في عالمي أنشد له الكلمات. وجدتني أنهي كتابة ما أريد ولكني أخفت من جديد في تحديد تاريخ الميلاد. كلّ ما أذكره أنّي أتممت الكتابة قي الثالث من شهر جويلية (تموز/يوليو) عام 2009.

D 1 أيلول (سبتمبر) 2009     A صفاء صيد     C 0 تعليقات