تهميش المثقف الجزائري: من المسؤول؟
عمار بن طوبال
حين نطرح التساؤل بهذه الصيغة: "تهميش المثقف الجزائري واغتياله نفسيا: مسؤولية من؟" نكون بصدد استعداد نفسي لتبرئة المثقف من مسؤوليته عن الوضع الراهن الذي يتسم بكثير من الرداءة على مستوى الإنتاج الفكري من جهة وعلى مستوى الأداء الثقافي لما يسمى بالمؤسسات الثقافية من جهة ثانية.
وإلقاء اللائمة على جهات أخرى غير محددة مع أنها ومن خلال الإشكالية المطروحة تحيل على المسؤولين عن قطاع الثقافية الذين يشجعون الرداءة لعدة أسباب: قد يكون ذلك هو مستواهم وفكرتهم عن الثقافة التي لا تخرج في نظرهم عن الاحتفالات الكرنفالية، وقد يكون الإصرار على الرداءة ناتج عن كون أغلبية المسؤولين عن قطاع الثقافة في بلادنا هم من المبدعين والكتاب الأقل شهرة والأقل تميزا وحضورا داخل الحقل الثقافي، وبالتالي فتمييع الفعل الثقافي من طرفهم ما هو في النهاية سوى تغطية على رداءتهم.
بمعنى أن المثقف نفسه يتحمل نصيبا وافرا من مسؤولية الوضع الرديء الذي يعيشه الحقل الثقافي الجزائري، وهذه الوضعية نتاج تاريخي أكثر من كونها مجرد وضعية مستجدة، فافتقاد المثقف الجزائري للإمكانيات المادية التي تمنحه حرية في الإبداع والمبادرة، تجعله رهين تجاذبات حادة من طرف مؤسسات الدولة والهيئات الخاصة التي لا يهمها من النشاط الثقافي سوى تجميل صورته أمام الرأي العام المحلي وأمام المؤسسات الدولية التي تأخذ بالحراك الثقافي داخل أي مجتمع كمقياس دال على الديمقراطية والتقدم والنمو، أي أن الثقافة بالنسبة لتلك المؤسسات تبتعد عن كونها خلقا وإبداعا لتتحول لمجرد وسيلة لتحقيق أهداف أخرى غير ثقافية.
وفي ظل هذا الوضع يتحول المثقف إلى مجرد وسيلة للدعاية السياسية ويفقد جوهره وروحه الإبداعية ونظرته النقدية للأشياء، وبفقدان هذه المميزات يفقد المثقف مبرر وجوده ويتجول إلى مسخ.
هل يمكن اعتبار هذه الحالة التي يعانيها المثقف الجزائري، والعربي عموما، حالة ناتجة عن هيمنة الدولة على المجال الثقافي وعملها على إفراغه من محتواه النقدي والحر، مما أزم العلاقة بين المثقف والسياسي، أم أن نشوء وتطور الدولة والمجتمع ما كان لينتج غير هذه الحالة التي تضع الثقافة في ذيل قائمة الاهتمامات؟
بما أن مشكلة المثقف أو عامل النقص الذي يعانيه إزاء السياسي هو التجذر الاجتماعي المفقود، وكذا وسائل التأثير التي لا يمتلكها هذا المثقف، فإن الحديث عن البنية التحتية التي توفر للمثقف هذا المجال ذو أهمية قصوى، فالمعاهد والجامعات ومراكز الدراسات والمؤسسات الثقافية ودور النشر والمجلات والصحف وغيرها من الهيئات ذات العلاقة بالحقل الثقافي تشكل قاعدة مادية مهمة لعمل ونشاط المثقف تكتسي أهمية بالغة في توفير مناخ مناسب للمثقف يستطيع في ظله القيام بواجبه في نشر وعي معين وبالتالي في اكتساب سلطة معينة إزاء السياسي.
وهذا الطرح يقودنا لنقطة أساسية مرتبطة بعمل المثقف في جو تنافسي قوامه التنافس على خلق وتوليد الأفكار لا التنافس على تقاسم الريع كما هو حاصل لدينا، وهذه النقطة مرتبطة بدور الاقتصاديات الوطنية وبعبارة أدق دور رأس المال الوطني الخاص تحديدا في دعم ورفد هذه المؤسسات حتى تكون منبرا لحرية الفكر ومن ثم للخلق الفكري والإبداعي الذي يصب في خدمة المجتمع بصفة عامة حتى حين يكون هدفه الأولي هو خدمة هيئة معينة كحال الدراسات الاجتماعية والاقتصادية التي تنجر بطلب من مؤسسات حكومية أو خاصة.
من أهم الأسباب المعيقة لنشاط المثقف هي كونه موظفا عند الدولة وبالتالي فاقد للحرية إزاء نقد الدولة فهو في الغالب يعمل في مؤسسات ثقافية وإيديولوجية وتعليمية تابعة للدولة وخصوصا المؤسسات ذات الإمكانات الضخمة كالجامعات ومراكز البحث، ومن هنا فمن المنطقي ألا يكون عمله موجها ضد الدولة وضد خطاباتها السياسية والإيديولوجية، فالدولة هي التي تضمن رزقه وتوفر له رفاهية اقتصادية تمكنه من التميز الاجتماعي.
وهذه الامتيازات التي يحصل عليها المثقف نتيجة حاجة الدولة له كموظف في مجالات لا يمكن لسواه أن يحل محله فيها تجعله يميل لخدمتها مضحيا بحريته، أو يشاغب في حدود المسموح به فقط، دون أن يطلق ملكاته الإبداعية والفكرية لولوج مناطق غير مستوية تقوده للإخلاص للحقيقة وحدها بعيدا عن التوجهات السلطوية.
نحن في المجتمعات العربية الحديثة وعلى عكس المجتمعات الإسلامية في فترات تاريخية ماضية لم تنتشر عندنا ظاهرة "رعاة الثقافة" أي أشخاص يملكون رأس المال ويوظفونه في دعم النشاط الثقافي والفكري الذي يصب في خدمة المجتمع بصفة عامة.
رعاة الثقافة والأدب لعبوا دورا كبيرا في النهضة الأوروبية، كما أن ازدهار الثقافة في الحضارة العربية الإسلامية كان مرتبطا بهذه الظاهرة تحديدا، حيث امتدت رعاية الثقافة من الأمراء إلى العائلات الغنية والأفراد الذين يحملون هما فكريا وثقافيا.
يكفي الإشارة إلى مثال مهم في العصر الحديث حول دور هذه الرعاية في نشوء نظريات ومدارس فكرية، صبت مقارباتها في خدمة المجتمع، مثال كارل ماركس وانجلز يعطي دلالة بالغة على الدور الكبير الذي يمكن أن تلعبه هكذا رعاية ثقافية في نشوء تفكير حر يكون قادرا على زلزلة اليقينيات، ويعد بفتوحات معرفية متجددة.
فلم يكن من الممكن لكارل ماركس أن يصوغ مشروعه في نقد الرأسمالية وكذا تنظيره للاشتراكية العلمية لولا لقاءه بالملياردير فريديريك انجلز الذي كان رفيق الدرب في التنظيرات الماركسية؛ انجلز وفر لماركس كل المتطلبات المادية له ولأسرته بغية تفرغه لمشروعه الفكري وهذا ما ساعد ماركس على توجيه تفكيره إلى نقطة مركزية وبكل حرية.
في المجمعات العربية الحديثة، البورجوازية الوطنية هي بورجوازية هجينة، فهي لا تمتلك مشروع مجتمع. في نفس الوقت هي بعيدة عن الثقافة بسبب وضعها الهجين، ولكون غالبيتها بورجوازية كومبرادورية مرتبطة بالمصالح الأجنبية فهي لم تساهم في خلق مؤسسات تهتم بالمجال الفكري ولم تساهم بأي شكل من الأشكال في خلق أو الترويج لنظرية أو فكرة معينة تخدم المجتمع.
ومن هنا كان المثقف ملزما بمراعاة ظروف المعيشة أي بالبحث عن مصدر رزق كأي إنسان عادي، وبما أن دور المثقف هو التفكير وإنتاج وتسويق الرموز لغايات اجتماعية فقد استقطبته مؤسسات الدولة التي تعنى بالتفكير وإنتاج المعرفة.
في الوقت نفسه، كانت هذه المؤسسات عامل مراقبة حد من حرية التكفير الضرورية للمثقف، فسقف حرية البحث العلمي والإبداع في العالم العربي محدد ومؤطر بطابوهات لا يمكن الاقتراب منه.
وفي نفس الوقت الذي تدرج فيه الدولة المثقف ضمن مؤسساته، فهي تهمشه وتحوله لتكنوقراط ولكسول لا يتحرك إلا بمهماز نتيجة ضعف العناية الممنوحة لمجال البحث العلمي وللنشاط الفكري عموم، حيث وبسبب اللجوء للمثقفين بشكل مناسباتي يتحول المثقف العاطل عن التفكير إلى متسابق على ما تذره النشطات الثقافية التي ترعاها الدولة وتصرف عليها بسخاء لأهداف لا ثقافية أساسا مرتبطة بمصالح سياسية مرحلية.
إذن فمشكلة المثقف هي مشكلة البورجوازية الوطنية التي تخلت عن تحالفها مع المثقف لأنها لا تمتلك مشروع مجتمع، ومشكلة الدولة التي رأت في المثقف إنسانا مشاغبا ومزاحما لها على كسب سلطة معينة تكون معارضة ومناوئة لسلطتها. ولهذا سعت لتدجينه وتحويله لكائن داجن لا يتحرك إلا للتنافس على الريع الذي توزعه الدولة.
ومن هنا فإن الباب المفتوح والخطير الذي يجب على المثقف ولوجه في ظل هذه الظروف هو باب النضال، النضال من اجل الديمقراطية التي أساسها الحريات العامة وحقوق الإنسان، وأساسها أيضا العلاقة التضايفية بين المثقف الحقيقي والسياسي الواعي بدور الثقافة في نهضة الأمة، لا العلاقة الإقصائية والعدائية السائدة في الوقت الراهن نتيجة غياب الديمقراطية.