فنار عبد الغني - لبنان
مركب الصغير
أشعّت عينا الصغير حين فرغ من صنع مركبه الجديد. طرق عليه عدة طرقات قبل أن يعانقه بفرح ثم رفعه فوق رأسه، وأخذ يمشي مزهوا بنفسه رافعا كتفيه كقائد في طريقه لاستلام جائزة. بعد ذلك أطلق صرخات ملأت البيت. شعر أنّه قلبَ رأس العالم. وفيما هو يدور حول نفسه مردِّدا بعض العبارات التي يسمعها تتردد على ألسنة أبطال ونجوم الملاعب، قطعت فرحته خواطر غريبة: ماذا لو غرق هذا المركب أيضا كالمراكب الورقية؟
صمت كل عالمه وتوقف عن الدوران. لم يعِ ما يفعل. غير أنّه قرّب مركبه إلى صدره ثم أسرع دون خوف ملقيا به في البركة. اهتز المركب قليلا ثم تابع حركته، متهاديا في الماء بعد أن نفخ الصغير بقوة من أمامه وخلفه. سار المركب بنجاح. حينئذٍ وثب الصغير فرحا وأخذ يغنّي:
مـركـب مــن ورق
ســريــع الـغـــرق
لا يصــل للأفـــق
* * *
مركـب مـن خشــب
ســريـع كـالأرنــب
ومعه سألهو وألعب
في اليوم التالي رافق الصغير والده إلى النهر حيث لعب بمركبه الخشبي الجديد طيلة الوقت، وأخذ يحلم ويحلم ببناء المراكب الكثيرة والتي سيندهش منها كل أصدقائه ومعلميه حين يعود للمدرسة في الخريف المقبل. لن يستطيع أحد السخرية منه بعد اليوم حين سيهتف بثقة عالية: سأصبح صانع مراكب ماهرا. لكن أحلامه حطّت حين تبدل الطقس وازدادت سرعة الهواء وارتفعت مياه النهر فانطلق المركب معها بعيدا. أخذ الصغير يجري ولكن عبثا، فالتيّار جرف المركب، ومنعه من اللحاق به. اشتد صراخه:
"مركبي، مركبي."
ظل يصرخ ويصرخ حتى غاب صوته. أمسك به والده ووضعه خلفه على متن الدراجة النارية، وانطلقا بحثا عن المركب، على أمل أن يجداه عالقا بين الصخور أو مطروحا على إحدى ضفتي النهر.
أخيرا وصلا إلى الجسر حيث ترجّلا وراقبا المياه العذبة وهي تتدحرج في تناغم جميل جذب انتباه الصغير الذي رأى للمرة الأولى في حياته أين ينتهي النهر. ومع ذلك، ظل ينقّب المكان بعينيه باحثا عن مركبه، متذكرا كم عانى وهو يصنعه، لقد جمع الأخشاب من الحديقة وحده. أراده مركبا قويّا من خشب شجر الكرز. وقد أثبت قوته حين ألقاه في البركة ولم يغرق كالمراكب الورقية البيضاء والملونة. لقد راقب على المدى الطويل المراكب الخشبية البعيدة التي تجوب البحر ليلا نهارا. يا لحظّه العاثر! ماذا سيصنع الآن؟
تدحرجت دمعتان كبيرتان على وجنتيه. ربَّت والده على كتفه، وسار به وهو مطأطئ الرأس، لا يشغل تفكيره سوى هذه الكارثة التي حلّت به، وهذه الجراح الغائرة في يديه وقدميه، وتلك الندبة التي حفرها غصن الكرز عند عينه اليمنى وكادت تودي بها.
جلبة هائلة اخترقت ذهنه اليائس، وقلبه المحطّم. رفع رأسه قليلا، فتح عينيه على آخرهما، شهق ملء رئتيه، صرخ بأعلى صوته: "البحر."
إنّه البحر الذي يبتلع النهر، والذي ابتلع حُلمه الجميل أيضا. ها هو يقف أمامه، والمراكب تبدو أكبر بكثير مما كان يرى، والرجال الصغار اللذين يتحركون ببطء. إنهم أكثر طولا الآن ونشاطا، يعملون ويعملون دون كلل، لا يخشون الموج، ولا الريح، ولا الشمس. ما أسعدهم بقوتهم!
مسح دموعه بكفيه. شعر بوخز خفيف حين لامست دموعه الحارة الخدوش، لم يهتم بها، قفز يردّد، وهو يضحك عاليا، والبريق يقفز من عينيه:
مـركـب مـن خشــب
قـــوي كــالـذهـــب
ومعه سألهو وألعب
◄ فنار عبد الغني
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ