ضحى المل - لبنان
أبو شلبي + نصان آخران
أبو شلبي
كــان يـجلس بصمت، وضجيج الأصوات يـرتفع في الساحة، حيث قهوة التل العليا، ينظر إلى الساعة القديمة التي تذكره بساعات أمضاها وهو يمسح الأحذية للمارة.
وأمامه المنشية، وهِي حديقة جميلة، ملونة بألوان الزهور المختلفة فيها، وشجيراتها الصغيرة المنسقة كأنها حوريات ذات جمال فتان.
نظرت إليه من بعيد. ملامحه رغــم مرور السنين لم تتغير، خــطوط صغيرة تشبه أشعة الشمس حـــول العيون الناعسة وأنامله الطويلة، التي كــنت أميزه بها وهو يلاعبني طفلة وأبي يستقبلني في محله القديم قرب بـركة الملاحة.
ابتسمت واقتربت منه: "عم أبو شلبي ما زلت حيا؟"
نظر إليّ نظرة استغراب بعد أن رفع عينيه ليتأملني وضحك: "أما زلت تتذكرين أبـا شلبي يا صغيرة؟"
ضحكت وقلت له: "ألم تنس يا صغيرة؟ تلك الكلمة التي كانت تــغضبني."
كانت أحلامه تــحظى برعاية كلماته التي طالما عشقتها وحكاياته التي كان يرويها لي حين أراه عند أبي رحمه الله.
وقف أمامي بشموخه المعتاد وقد أحــنى الدهر ظهره، ويداه ترتجفان. قال:
"انظري، هذه أكبر شجرة هــنا في ساحة التل وهي تــحظى برعاية البلدية ورعــاية زوارها، فهناك من يشذبها، يقلم أغصانها فتبدو يانعة فاتنة. أما أنا فأنظر إليها ولا أستطيع الاهتمام بها، وأنا الذي طالما وقف تـــحت ظلالها. وانظري هناك، إلى تلك الشجرة الشاحِبة الصفراء الهزيلة وإلى أوراقها الذابلة وعصافيرها المذعورة. كلما اقترب منها أحد، طارت العصافير هاربة من أغصانها."
هز رأسه، وأشار بيديه إلى ساعة متدلية من جيبه تمتم بكلمات، وأكمل:
"هي استسلمت للقدر حتى يئست من البشر الذين لا يقتربون منها ولا يهتمون بها. وها هي كئيبة حــزينة. سأقـــتلعها يوما لأجعلها تذكاراً لي، لأنها تذكرني بحياتي كلها التي مرّت."
مسح دمعة واستدار ومشى كأنه لا يراني أمامه. ناديته: "عم أبو شلبي كيف لي أن أزورك؟"
ابتسم ابتسامة سخرية وقــال: "أبعد كل هذا تسألين؟"
::
لحظات العمر الأخير
ابتعد الماضي وجلس في زوايا روح منفية، ولحظات العمر الأخيرة ما هي إلا خلايا متجددة في أجساد ترنو نحو حياة تضج بالسكينة والحب الصافي من أي نفس متعبة كأن لحظات العمر تبدأ من جديد لتزيل الموت من درب الجمال.
زمن الحب. زمن الولادة الحقيقية. شوق يترنح أمام مذبح الحب والحرية. يسقط كل ما هو مزيف أمام قدر أعلن اللقاء. كيف نواجه مصير كل هذا بقلب قوي ضعيف يثبت أمام الأمنيات المملوءة بحب رجل هو ملجأ لروحي بل هو زهرة بيضاء تعطرني فيتكون شذاي في عمر ربيعي جديد؟
كـــم من مرة شعرت بالمستحيل! وكم من مرة شعرت باليأس! لكنني لملمت بشائر الأمل من أطراف أعمارنا لأقفل سنوات الضياع والحزن وأطوي كتابي أمام عينيك لأفتح كتابك الجديد.
كل الذين مروا خلال رحلتي كانوا محاربين تحت لواء قائد عظيم. وكل الذين أقسموا بحبي كان الغدر رمز وفائهم، حتى غدت الضحى تشرق لتبحث عنك في كل فجر يشرق من عيون النور.
حبيبي، عرائش الياسمين تهتز وأنت تمسك بروح الفجر وتنتظرها كما ينتظر البحر غروب الشمس لتضع خدها بين كفيه وتنام نوم عروس في خدرها المضيء.
أين؟ كيف؟ متى؟ لا أدري. لعل اللقاء قريب قريب. فقلبي ما زال طفلا ينتظر الصبا في عهد بات غريب الأطوار، والعمر يودع لحظات في ربيع أشرق من جديد.
= = =
التاريخ: يوم ضَمّني الليل فشعرت بدفء روح وأنا كقطرة ماء تحيا من جديد.
::
زهــــرة اللوتس في ظـــلال العذارى
الضحى. ربما تكون الضّــحى أحيانا كالسجى. أدركت حاجتي إليه، أو ربّــما النظر إلى عينيه، لأكــون فــي ظلال العذارى أنــثى في مملكة تـحكمها امرأة. كــثيرة هي اللحظات الصامتة فــي الحياة وهِـــي بــلاغة كـــبرى في حياة كــل منا.
تــأملتها. نظرت إلى عــيون متعبة رسم السجى بـعضا مِن عـتمته فـي عـيون لم يـتركها الجمال، بـل استقر في العمق، فـبريق البصر الذي يـنظر إليه كـيف لا يكون كخمرة حب في دنان الشوق.
أحسست بأجراس الكــنائس تـقرع، كأنّ نِــهايتي قد دنت مِن حـلم أمسكت به بقوة وأنا فــي نهاية درب انتظرت الــوقوف فيه.
لــحظات صـمت تـرتجف مِــنها جــوارحي، وكأن المـوت دنا مني وعناقيد الحب حبات تتجمع. أراها مِن بعيد ولا أستطيع مدّ يدي لأتذوق حبة واحدة مِنها.
جــنون. تـصوف. سِــحر. شـعوذة. حب. كدت أصرخ مِـن نوره الذي أراه أمام عيوني يـتجلى لأصرخ بلوعة عاشقة هائمة انتظرت حبيبها لِـتجده في مملكة يصعب الوصول إليها. جـمر المستحيل، أم رماد لـيل يـصعب لملمته في عتمتي التي باتت دون أقمار أو نجوم. لـمست طيفها فرأيت وجه أمي، وجه امرأة مـناضلة، قتلتني.
شـعرت برائحة المسك تـنبعث مِـن يديها وهِـي ترمي عنها أثواب كل أنثى لِترسم بين راحتيها عـمرا فـــيه عـذاب. لـم أر مكاناً لي في قلب تسكنه امرأة وهِـي تـشعل شموع الكآبة، فتذوب أحلامي قـبل أن أرى نور شموعها.
هي بالتأكيد نِـهايتي التي ستطهرني مِن كل هذا الحـزن الذي رسمته امرأة تحت ظِلال العذارى، فأي قدر هذا الذي يــرمي بزهرة اللوتس في الماء فيتورد خدها مِن عشق بات في عمق روحها والماء يحيط بها مِـن كل جانب؟
= = =
التاريخ: يوم وقــفت تحت ظلال العذارى، فلم أجـد إلا زهر اللوتس يرقص على صـفحات الماء.
◄ ضحى المل
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ