رامي أبو شهاب - فلسطين
نساء وطريق
تمهيد: جاء في لسان العرب في مادة (نسا): النِّسوة والنُّسوة، والنساء والنِّسوان. والنُّسوة: جمع المرأة من غير لفظه. وجاء أيضا نسيهُ ونِسياً ونسْياناً ونِسوة ونِساوة ونَساوة. وحكى ابن بري عن ابن خالويه في كتاب اللغات قال: نسيت الشيء نسياناً ونَسياً ونِسياً ونساوة ونِسوة. والنِّسيان ضد الذكر والحفظ. (لسان العرب، مادة (نسا)، مج 14، ص 250.)
منذ عشرين عاما ولا زالت تنبثق أمامي روائح بقيت في خلايا لحمي المتخم بالهزيمة والترحال، الرائحة مناخات عالقة إلى أن تتحلل كتل اللحم وتتلاشى في التراب. المدهش في الأمر هو أنني أينما يممت في الأرض تبقى تلك الروائح ساكنة في أزقة وحدتي لا يطويها النسيان، تأتيني كما كانت أول مرة، وكما انبعثت لأول وهلة، تأتي ككائن أثيري مستقل في أبجدية الوعي الهش والخام، وكيف يمكن أن يكون هنالك شيء بهذا القدر من الغرابة والألفة والحنين؟ إلى ماذا؟ إلى الذي لا أعرف أين انتهى.
بحثت عن سر هذا الحنين ولكن دون أن أعثر على إجابة تقيني لهاثي في الحياة التي أصبحت فيها ككلب طريد نحو ما لا أدرك أو أيقن، لعل ذلك الشيء، هو الحقيقة الوحيدة والكامنة لوجودي العبثي، ومع ذلك تبقى الذاكرة تطوح بي في البعيد، وتبقى هي الحاضرة بينما يتراجع كل شيء.
ما زلت أستعيد لهاثي عندما كنت أسير عبر الشارع في أحد أحياء المدينة، أحمل حقيبتي الصغيرة المنهكة بكثرة ما تنوء بمحمولات الكتب والدفاتر، وما زلت أيضا أذكر قميصي الأزرق بلون السماء الخالية من غيمة، دوما كان يتولد في داخلي إحساس بأن السماء تكسيني من خجلي بأن تجعلني أتماهي بلونها، فلا يراني أحد، أمضي خفيفا لا مرئيا نحو كل ما أريد، مثقلا برغبة مستأصلة بأن أعرف ما وراء الجدران، وما خلف الأبواب والنوافذ الموصدة أو المتروكة والمشرعة بلا استحياء؛ تنسدل ستائرها الرقيقة بين الفينة والأخرى، وخلفها ظلال بلا ملامح، كم كنت أحب تلك النوافذ المتروكة بحياء نصف مشقوقة على الشمس والهواء وللأعين الفضولية بتواطؤ شهي ولذيذ.
في تلك الطريق الممتدة نحو المدرسة، وفي الأزقة الخالية تعلمت أن أمارس هواياتي باكتشاف عالم طالما سحرني بما فيه –على بساطته– من مألوفية الحياة اليومية لأشخاص عاديين، غالبا ما كانت ترتبط رحلتي هذه بالتوقيت الزمني الذي كان يقتصر على شهر من كل شهرين، والسر في ذلك؛ إذ أن مدرستي كانت من مدارس الفترتين: الفترة الأولى الصباحية والفترة الثانية المسائية، وهي المفضلة لدي. إذ طالما شعرت بالضيق خلال الفترة الصباحية لأنها لم تكن تتيح لي أن أمارس هوايتي، فدوامي يبدأ الساعة السادسة والنصف وينتهي الساعة الثانية عشر، هذا التوقيت كان وقتا معارضا لواقع حلولي في زمن التقاطع مع لحيظات الدهشة على عكس الفترة المسائية التي تعد فترة خصب لممارسة هوايتي.
كنت أخرج إلى مدرستي الساعة الحادية عشرة، أمكث ساعة كاملة في طريق لا تحتاج إلى أكثر من عشر دقائق في أسوأ الظروف، ساعة كاملة تمضي في التسكع في الحواري المجاورة والأزقة المعتمة والرطبة، هناك تتحقق أعظم الاكتشافات التي تتحصل من رصد ما خلف الجدران في طريق حفظت فيها كل منزل بما يحتويه من أشخاص وطقوس وروائح، ولعل أهم ما فيها النساء اللواتي كنا في أغلبهن ربات بيوت أو فتيات عازبات أو عوانس لا مصير لهن سوى البيت الذي كان عالمهن الوحيد، ولاسيما فترة أطلقُ عليها الانعتاق من زمن الرجل سواء أكان زوجا أو أبا أو أخا أو ابنا. كانت متعتي السرية، تتلخص بأن أقتنص ما يدور داخل كل منزل، وأن أقاطع لحظة من لحظات تشكله اليومي والمكرور.
أعجب من مرأى سيدة عجوز تجلس على عتبة منزلها بتجريد كامل، تدخن سيجارة هيشي، تمج منها بلذة كاملة، مع أنها تنوء بحمل بسنواتها الثمانين، رائحة تبغها بقيت شيئا ساكنا في الظلال، ورطوبة الروح ونقائها، وأنا أمر قربها كل يوم، أطأطئ رأسي بخطى حثيثة وكاذبة، مع حرصي على ألا يفوتني أن أسترق نظرة نحوها ونحو تلك أخاديد وجهها الجاف، وعينيها اللامعتين وسخريتها الفاجرة من الزمن. أمضي ورائحة تبغها تلاحقني وتملأ خياشيم أنفي فتنبعث من وديان طفولتي فرحة صغيرة مصحوبة بضحكة مكتومة في جانب بعيد من روحي. تلك الرائحة تركتني مدمنا على عشق رائحة التبغ.
بعد خمس خطوات ومن بيت جارتها كانت تقلاية الثوم المضافة إلى الملوخية طقسا غير اعتيادي، رائحة تعلق إلى ما نهاية، وبمحاذاتها صوت محبب يتمثل بطشطشة الثوم في المقلاة، كل يوم كنت أدرك مقدار ما في هذا البيت من شهية تميز أصحابه إذ يعد لهم هذا الطعام الشهي والمطبوخ من قبل امرأة أدركت أنها أم حنون –لم أعرف منها سوى رائحة طعامها– ولكن وجهها غائب بطيبته المتخيلة والمحايدة.
بعد ذلك كان علي أن أوسع خطوتي كي أتجنب برك الماء وروافده وهي تندفع مزمجرة من منزل يُترك بابه مشرعا حتى تنتهي عملية شطف الحوش، وأكثر ما يميز هذا البيت رائحة صابون ومطهرات تصفع كل من يحاذيه، يولد لدى المار قربه إحساس منعش بمعنى الخفة المتولدة من الإحساس بالنظافة، ما زالت تلك السيدة كما هي، صورتها ملتصقة بجدران مخيلتي، سيدة في منتصف الثلاثينيات موكلة دوما بمهمة اعتادت عليها أو أدمنتها حتى أصبحت جزءا منها، وهنا بالتحديد كنت أتباطأ إلى قدر ما يتاح لي كي ألمحها وهي ترفع ثوبها عن ساقيها البيضاويين فأعجب من بطتي ساقيها الممتلئتين، وتتحرك في داخلي جرثومة شهوة بدائية خفية وخبيثة، كم كان يروق لي أحيانا أن تشد ثوبها إلى خصرها فينحسر القماش الرخيص على ردفيها حيث يبرزان بطريقة موجعة، وكمّا قميصها القصيرين الواسعين ينزلقان إلى أسفل فيكشفان عن حمالة صدرها السوداء، أبتعد وسياط الحزن تلمع في داخلي كون انقضاء الزمن كان سريعا وخاطفا ومصحوبا -كل ذلك- بندم وحشي، كوني اعتدت أن أمارس التعجل كي أصبح متماهيا بواقعية براءة مروري، وهنا لا يبقى لي منها سوى رائحة صابونها، وصورة الردفين، وهي ترقص في خيالاتي المنفلتة.
قبل نهاية الزقاق كانت أكثر مراحل رحلتي خطورة وخوفا، ولكن متعتها كانت لا توصف، ولاسيما أن هذا البيت كان مدججا برائحة عطر صبية حسناء أعتقد أن عمرها حينها لم يتجاوز الثامنة عشر، كانت تقف على نافذة منزلها المتهالك لتقف في مواجهة شاب في الجهة المقابلة، يتمركز في فسحة نافذة مشرعة بصافقة لا متناهية، كانت الصبية تطل من خلف النافذة، وهي تترك شعرها مطلقا ومتروكا للريح المتسربة عبر الستار الموارب حينا والمجرد أحايين كثيرة، تطل بقميصها الخفيف والمشقوق عن ثديين غرين ما زالا يستطيبان إحساسهما بالنمو والاكتمال، فيبدوان أكثر من خجولين بما يحملان من نهودة مستطابة إلى ما لا نهاية أو جنون. كنت أمر تحت النافذة بسرعة كبيرة ومفتعلة لا تخلو من ارتباك غبي، ولكن قبل ذلك بخطوات وبمسافة كافية أسدد نظراتي نحوها لأنعم بشيء من سحرها الذي كنت أشارك فيه حبيبها ولي أفضلية أن أتنشق عبير عطرها لأبقى هائما إلى نهاية الزقاق حتى تصفعني أشعة الشمس اللاهبة وشعاعها الذي يبدد عتمة الزقاق نحو جفاف الكون، حينها أدرك أن رحلتي باتت على وشك الغروب فيخلص حزن غامض يمكث في أعماقي كون ما مضى كان سريعا وما سيأتي يبدو ثقيلا.
سأجلس ساعات في غرفة الصف، وأنا أعاني من صخب التلاميذ ومتابعة الدروس، ومن مقعدي حيث أجلس في غرفة الصف وعلى غفلة من المدرس كنت أرنو إلى النافذة المفتوحة والهواء يتسلل باردا ورطبا ومحملا بروائح تداعب خيالاتي المنهكة وتساؤلا كبيرا: أين ذهبوا؟
◄ رامي أبو شهاب
▼ موضوعاتي