محمد السيد - الأردن
قراءة في مجموعة إنهن النساء لهيام ضمرة
صهوة من صهوات السرد الفني
قرأت المجموعة من أول حرف فيها إلى آخر حرف، واستمتعت بقصصها واحدة واحدة، ومما استذكرته أثناء القراءة: كيف أن العولمة أدخلت على حياة الناس عجائب من السلوك والاهتمام الحياتي، كما استذكرت في المناسبة المنفلوطي وجهوده التي وطّأت الرضا والقبول للقصة في عالمنا العربي، وكيف أنه رسخ الواقعية الاجتماعية النقدية الرومانسية في السرد، وجاء من بعده يوسف إدريس الذي نَهَجَ نَهْجَ الواقعية الاشتراكية، هذا فضلا عن إضافات نجيب محفوظ الذي تتبع طبقات قاع المجتمع، وأعطاها زخما في مسألة السرد، متقلدا بذلك موقف العديد من أدباء الغرب تجاه النقلة الصناعية والرأسمالية الكبرى، ذلك الموقف المأزوم المهزوم أمام الآلة والتغيرات الهائلة، الذي ملأ الصدور بالتقيح والفصام، فراحت الكتابات تنفث الكلام على القراطيس من نفوس مأزومة وصدور متقيحة، فلا يخرج منها في الغالب إلا صور الهزيمة الداخلية، ووقائع الانتقام من المجتمع وذلك باللجوء إلى قاع المجتمع في التصوير والسرد، وإن كان ذلك التصوير قد حُرِّر من بعضهم بفنية عالية أخذت صفة العالمية.
لكن المهم في الأمر القول بأن ستا وتسعين صفحة، ضمت تسع قصص احتوت على تجارب حياتية غنية، اختزنتها القاصة الإسلامية هيام ضمرة فضمنتها هذه القصص، وأن رؤية للكون والحياة تنطلق منها الكاتبة الأديبة، وهي رؤية نيرة، وفضاء إسلامي عام، يحوزان ملكة سردية مقتدرة، فيها المهارة، وفيها الكثير من ممتلكات السرد الفني، فهي توظف هذه الملكات من خلال ذاكرة واعية، وخيال بعيد المرامي، بهدف التغيير ؛ تغيير القارئ والسامع تجاه قضية أخذت من القراطيس مساحات شاسعة في أيامنا، فهي تلقي عليها الضوء بوعي عميق يقول: إن الرجل والمرأة في مجتمعاتنا الحالية مظلومان، من خلال الفرص المحاصَرة، والكلمة الحرة الغائبة، والرؤية الضبابية لما يجري من عولمة متوحشة للعالم، تفرض على الناس (الرجل والمرأة) طريقا واحدا ضيقا، ليمر منه العالم باتجاه واحد وإلا.
ثم إنها بعيدا عن المباشرة، وبعيدا عن الوعظ، وإن كان الوعظ في رأيي المتواضع ليس قادحا في السّرد، إن أُحسِن استخدامه، بل هو في بعض الأحيان يكون واجب الاستقدام.
أقول بعيدا عن كل ذلك، وبالاستهلالات الناجحة، وبالأسلوب الرشيق، والتمكن المكين من اللغة واستخدامها الموفق، وببعض الشاعرية، والحوار الفني الموظف توظيفا تقنيا دقيقا، والسرد السريع الحركة، وتكثيف اللحظة، والذاكرة الواعية والرؤية النيرة، وتوظيف المؤثرات مثل: التحليل النفسي العميق، واستخدام تيار الوعي في مكانه. أقول بذلك وغيره تُهدينا الأديبة الإسلامية هيام ضمرة ضمامة من وردِ صياغاتها المقتدرة في مجموعتها الأولى الموسومة بــ إنهن النساء، فهي مجموعة أنثوية النكهة، إنسانية الأبعاد، إسلامية الضمير المتخفي في ثنايا المعالجة، إنها تهدينا بوحا قادرا على لفتِ الأنظار، واستدراجِ التشويق، وتحقيقِ الإمتاع في آن.
ولست في تقديمي لهذه المجموعة، وصاحبتها الكريمة مستلا قلم النقد، الذي يحاكي البنيوية أو التفكيكية، لأعزل الكاتبة عن النص، ثم لأهوم كما يهوم أصحاب النظريتين في غياهب الوهم والأساطير النقدية، والطلاسم التي لا يكاد يفهم أصحابها معنى لها فضلا عن المتلقين، فهي ترجمات رديئة لنصوص نقدية، في غالبها لا تلزمنا في أدبنا العربي والإسلامي، وذلك لما تزخر به مسيرة وأهداف وبناء الأدبين الغربي والعربي من مفارقات، يصنعها بُعد التجربتين والخبرتين عن بعضهما.
لكنني في تناولي لمجموعة إنهن النساء سوف أجتمع مع الميزات، التي احتوت عليها هذه الباقة الكريمة من التجارب اليومية، مقارنا لها مع المقومات الفنية، التي أتيت على ذكرها في قراءتي هذه، وذلك لأشرك القراء الكرام في استجلاء مواطن الإجادة في هذه المجموعة، ولن أشدد على بعض الهنات التي أرى أنها ليست قادحة في التشكيل الجمالي الهادف لهذا الجهد المشكور من الأخت الكاتبة الفاضلة.
المجموعة وجه يدخل البيت على الخلط العولمي، الذي تثّاقل كلماته على دروب الناس، فتقعد لهم كل مرصد، وتدخل عليهم الأبواب دون استئذان، وتمتطي الألسن، وتسكن في بعض الحالات القلوب والعقول، ولكن وجه المجموعة يحاول تدارك الموقف، بأن يطلق صرخة في الجو، الذي تحاول العولمة جاهدة من خلاله اختراقا اجتماعيا إنسانيا متدنيا في أخلاقه. في طموحاته. في رؤاه. يحمل حكمة باردة مغرضة تقول: عندي التطور، عندي التقدم، عندي العصرنة، تروغ من بين أيديكم ومن خلفكم، ومن تحت أرجلكم.
ويتوجع قلب المجموعة القصصية، لعلها بالتوجع تبعد عن جدار المجتمع غربة تترعرع فوق أرصفتنا، وفي شوارعنا، وفي بيوتنا، وهي محاولة جادة تبتغي ألا تسقط أحلام بعض الناس فوق الحافات المدببة للعولمة، وكل ذلك تفعله المجموعة من خلال استهلالات خارقة لكل مقومات القصة، وداخلة في كل مسام تشكيلاتها ونهاياتها. إنها استهلالات ناجزة مشوقة، ونحن الآن أمام مثل استهلالي من قصة إنهن النساء يقول:
رهيبة هي لحظات الظهيرة على الطريق الوحيد، الذي يربط وسط البلد المعروف بالمشرق بمنطقة السالمية
وقد دخل هذا الاستهلال في كل جزئيات القصة فيما بعد، فهو الذي يحرك خيالا مريضا لرجل، نسج الحرُّ والزحام ومتابعة سيارة امرأة لسيارته كل تقنيات القصة حتى نهايتها، التي تفاجئ الرجل بإنارة الموقف، ليتبين له أن سيارة المرأة التي أثقلت خياله بشتى الأفكار المريضة، لم تكن متابعة له، وإنما هي سارت خلفه بالتتابع القريب؛ لأن صاحبة السيارة كانت امرأة متزوجة سعيدة بزوجها، وهي تسكن في البناية نفسها التي يسكنها.
وها هي قصة "مساواة خرقاء" تتقدم نحونا لنحتفي بها بالقول: أنتِ موطئُ اقتباسنا لمثل يدلل على شريط الذاكرة الواعية والرؤية النيرة، تستخدمهما الكاتبة باقتدار في تقنية القصة، لتقنعنا أن دخول الرجل على مجتمع النساء دون مسوغ أو ضرورة، خصوصا إن كان رجلا واحدا يلازم مجموعة نسائية بشكل مستفز، فهو يحضر جلسات عملهن ونقاشهن، ويعطل حريتهن في القول واتخاذ ما يلزم بشأن مهمتهن، لا يتركهن حتى وقت الطعام والراحة، إنها ذاكرة واعية للأصول والأخلاق المتبعة، ورؤية نيرة للواجب في مثل هذه المواقف، واسمع الكاتبة تصف الموقف قائلة:
الدخيل يظهر أينما ظهرنا، ويحل أينما حللنا، ينفث وجوده في أعيننا، نظرات الغيظ والاشمئزاز تهشم أريحيتنا، كلعنة قبيحة، خلال ورش العمل الصباحية والمسائية، خلال تناول الوجبات والاستراحات، يستمع إلى مناقشاتنا، يتابع حواراتنا، يرصد حركاتنا، يرقب خطواتنا، يعبئنا وجوده بالقشعريرة.
إنها ذاكرة تحتفظ بشيء من الخصوصية والرؤية القادرة على التمييز بين ما هو عقلي، وما هو غير منطقي في العلاقة بين الرجل والمرأة، وهي تدحر قضية عولمية تريد مساواة مطلقة، وليس تكاملا فذا في الأدوار والتكليف، ولقد أشاعت الكاتبة الإسلامية مثل هذه الذاكرة والرؤية النيرة في معظم قصصها بعيدا عن المباشرة.
ولا ننسى في هذا السياق أن نشير إلى ما يحتويه النص الذي اقتبسناه من تدفق سريع في وصف الموقف، تقتضيه اللحظة والمناسبة بجمل قصيرة متتابعة قاصمة، عبأت القارئ معها، خصوصا وهي تحمل شيئا من الشاعرية تضمنتها بعض هذه الجمل، مثل:
"ينفث وجوده في أعيننا، يعبئنا وجوده بالقشعريرة."
وهي جمل تزيد من حميمية تفاعل القارئ مع الموقف، وهذا الأسلوب يمتد في معظم قصص المجموعة، ليشكل طيفا من الأخيلة الرفيفة المؤثرة في مسيرة السرد، ومحاولة إقناع المتلقين بالموقف، ولا بد أن هذا التشكيل في استعمال الخيال بلمسة شاعرية، وتقنية التدفق السريع داخل بوتقة تيار من الوعي، ينبئ بأنه ليس دخيلا ولا معطلا لسير الحدث، بل هو يصب في لجته، ليلقي على المشهد كله حميمية قريبة من عاطفة القارئ وقناعاته إن لم تكن هي هي. هذا فضلا عن استعمال الألفاظ بمعانيها المستهدفة وتوظيفاتها في اللحظة والمكان المناسبين، مما يزيد من ارتقاء التصوير باتجاه التأثير الكامل:
"نظرات الغيظ، الاشمئزاز يهشم."
وأكاد أقول: إن هذا الإتقان حدث مع الكاتبة في كثير من مناحي السرد ليمتد إلى جميع القصص تقريبا.
ولا تنفك الكاتبة عن إهدائنا المؤثرات الفاعلة، وتوظيفها في السرد لإغناء الحدث، وبيان تفاعلاته، وذلك من أجل زيادة تفاعلنا _ نحن المتلقين _ معه، مما يؤثر على قناعاتنا وسلوكنا. فهي في قصة (بعمر الزيتون) تهدينا باقة من التحليل النفسي، واصفة حالة والد الطفلة الفلسطينية سوسن، المصابة برأسها بإصابة مباشرة من العدو، أثرت على جهازها الحركي، إذ تقول:
نقلت سوسن نظرها المشدوه إلى وجه والدها، وقد اختنقت في وجهه الحمرة، يجاهد ليحشر نفسه في جلباب المهابة، فإذا عيناه تغرورقان بالدموع الحارة، فتتراءى من خلفهما نظرات مجروحة مكبلة بالانكسار، انكسار مَن أُلبس ثوبَ الخضوع عنوة، وجثا على صدره القلق والغضب، حتى كاد أن يكتم أنفاسه، فراح صدره يجاهد هذا الثقل كمن أحاطه سياج القهر والاستبداد من كل جانب.
ولا تظنن أيها لقارئ أن الكاتبة جاءت بهذا التحليل لما يدور في نفسية الأب لمجرد الإمتاع والتسلية، أو لاستعراض قدرتها في استخدام اللغة، لا. إن السياق الذي أوردتُه من النص، هَدَفَ إلى وضعنا في صورة التشكيل العام للموقف العاطفي والسياسي والاجتماعي لشريحة كبيرة من سكان فلسطين المحتلة، الذين يرزحون تحت ثقل القهر والاحتلال الجاثم على الصدور. وهو ما أرادت أن تبديه هذه القصة لنا، وإذن فهو استخدام مؤثر، وتشكيل يرينا مدى ما تختزنه الصدور في فلسطين من قهر وإرادة للانتقام للكرامة، حيث تأتي نهاية القصة مناسبة لهذا السياق؛ إذ تخرج سوسن من المستشفى لتعود إلى المدرسة، وأول ما تفكر به الانتقام والانضمام إلى النضال، فتستهل مسيرتها بطعن الجندي الذي أصابها. ثم ها هي تختتم سيرتها بقولها:
ومن خلف القضبان تصرخ سوسن: سأخرج إلى حضن النضال، فقد نذرت نفسي لتحرير الوطن، ولن يثنيني شيء حتى أنال أحد الشرفين: النصر أو الشهادة.
ألا تلاحظون استخدام تجسيد المكان (المستشفى، السجن)؟ ثم ألا ترون أن الكاتبة استخدمت قبل لحظة التنوير الأخيرة التي أوردناها، وبعد التحليل النفسي الذي سقنا نصه، الكثير من المؤثرات، من مثل الإشارة إلى صمت العالم ومؤسساته الدولية عن برامج القتل والإهانة والقهر اليومي لأهل فلسطين، كما تستعمل أشياء المكان لتضفي على السياق ارتباطا بالتاريخ وامتدادا مع الحياة، ولتتفاعل كل هذه المؤثرات في السرد والنص، اقترابا من قناعات المتلقي، فاسمعها تقول:
ومع كل طعنة تطعنه فيها كان ينمو في داخلها العقل المنتفض بالحياة، حتى غدت الطفلة بعمر شجر الزيتون الفلسطيني، الذي ظل شموخه سامقا فوق هذا الثرى آلاف السنين.
وإذن فهو القهر الذي يسكن ساحات الرجل والمرأة في بلادنا، وليست هي معركة بين الرجل والمرأة، حتى إذا تحرر الجميع من القهر، وعاود الجميع (الرجل والمرأة) النظر إلى بعضهما من خلال الإسلام والإيمان استوت العلاقة على أساسات التكامل والتفاهم، وليس على الفصام والنكد.
كلماتي الآنفة لم توفِ النص حقه، ولم تضعكم في الصورة كاملة. وأكاد أجزم بأن هذه النصوص لو تخلصت من بعض الألفاظ، أو بعض الصياغات الجملية المُبالغ فيها، لكانت كاملة الأوصاف.
= = =
هيام ضمرة. إنهن النساء. الناشر: دار وجوه للنشر الإنتاج السعودية. 2008.
<emn2644|center>