تيسير الناشف - الولايات المتحدة
هيمنة الثقافة الغربية على الثقافات الأخرى
التنشئة على الاستهانة بالثقافة الأصلية وعلى إكبار الثقافة الغربية وسيلة للسيطرة الثقافية الغربية
من التعاريف الأكثر انتشارا للثقافة هو أن الثقافة طريقة فرد أو جماعة أو شعب للتعامل مع الناس أو مع الأشياء. من السهل في الوقت الحاضر اختراق الفضاء الثقافي للدول. وهذا الاختراق واقع في بلدان كثيرة على النطاق العالمي. سيركز التناول في هذا المقال على الاختراق الثقافي للبلدان النامية في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية. يتلقى كثيرون من أفراد الشعوب النامية من القنوات الفضائية وشبكة الإنترنت والوسائط الأخرى لنقل المعلومات مختلف أنواع الصور والأفكار والقيم والتوجهات الأيديولوجية المنبثقة عن المرجعيات والخلفيات والأجواء الثقافية والقيمية الغربية التي تتسم بسمات منها الغلو في النزعة المادية الاستهلاكية. وبوعي أو دون وعي يُقبل قسم كبير من أبناء الشعوب النامية على هذه المضامين. وللاختراق الثقافي الغربي هذا أثر سلبي قوي في حالة مجتمعات الشعوب النامية، فهو يضعف النسيج الاجتماعي والخلقي والقيمي ويسهم في عرقلة نشوء وتطور ثقافات تلك الشعوب.
عن طريق القنوات الفضائية والشبكة الدولية التي من الصعب منع إيصالها لرسائلها لا يستطيع المتولون للسلطة الرسمية في البلدان النامية أن يكونوا المحددين الرئيسيين للسياسة الثقافية والتوجه الثقافي للمجتمع. بهذا الاختراق الثقافي المتسم بالقوة والاستمرار يزداد صعوبة تحكم البلد النامي بالمواد الثقافية التي تقدم إلى الشعوب، وتنشأ وتتعمق منافسة ثقافات أجنبية للثقافة الأصلية. ويضعف ذلك الاختراقُ النسيج الاجتماعي والثقافي للشعب. ذلك التعرض يوجد ويعزز تبعيةََ ثقافات البلدان النامية.
وعن طريق المراقبة التقليدية من قِبل البلد النامي على بعض البرامج الثقافية وعن طريق تبني ذلك البلد لبعض هذه البرامج وتحديده للمناهج الدراسية كان للبلد النامي دور يصعب تحديده في حماية ثقافات الشعوب النامية. وباختراق جوانب من الثقافة الغربية للفضاء الثقافي العربي وسائر ثقافات الشعوب النامية ضعف أثر حماية البلدان النامية لثقافات شعوبها، ما جعل المجتمعات النامية عرضة لمزيد من التأثيرات الثقافية غير المراعية لخصائص تلك الثقافات.
والحاصل اليوم أن الشعوب النامية تتلقى وتقبل جوانب كثيرة من الثقافة الغربية على حساب ثقافات تلك البلدان. والضغط الكبير الذي تمارسه ثقافات غربية على ثقافات البلدان النامية يزيد من حجم وأهمية الدور الذي يتعين على الواعين من شعوب تلك البلدان أن يؤدوه لمقاومة هذا الضغط.
وتتباين الثقافات بعضها عن بعض فيما يتعلق بقوتها وشدة جاذبيتها وحيويتها وواقعيتها ومظهرها وشفافية أو عدم شفافية حقيقة فلسفتها، أهي مادية أو مفرطة في المادية أو محافظة أو تقليدية أو روحانية أو تأخذ سمات من مختلف أنواع الثقافات هذه.
وفي نشوء المنافسة بين الثقافة العربية والثقافات الغربية تكون جوانب من الثقافات الغربية غالبة على الثقافة العربية لأسباب منها ضعف التنشئة على القيم العربية الإسلامية والجهل ببعض جوانبها، وبالتالي يسهل على قيم أخرى منافسة هذه القيم، والميل الطبيعي لدى البشر إلى قبول الثقافة غير المقيِّدة وبريق مظاهر الثقافة الغربية دون اكتناه حقيقتها وآثارها.
ومن الجوانب الهامة جدا التي ينبغي الالتفات إليها إشاعة الغربيين لصورة طيبة عن أنفسهم ولصورة سلبية عن شعوب منتمية إلى ثقافات وأديان معينة والتحاملات ضد العرب والمسلمين وكثير من الشعوب النامية وثقافاتها، وهي التحاملات التي تتخلل قسما كبيرا من النتاجات الثقافية الغربية. فنظرا إلى هذه التحاملات والتحيزات ترتسم للشخص من البلدان النامية وشخصيته وثقافته صورة سلبية في تلك النتاجات. وبقبول الشعوب النامية، عن وعي أو دون وعي، لجوانب الثقافة الغربية تقبل مضامين هذه الصورة السلبية عن نفسها. وبالتالي تنشأ لدى أفراد تلك الشعوب نظرة سلبية إلى أنفسهم، وتنشطر شخصيتهم، ويصعب عليهم اكتشاف ومعرفة أنفسهم، ويميل عدد من الكتاب من الشعوب النامية إلى عزو خصال سيئة إلى تلك الشعوب دون أن تستحقها وإلى عزو خصال طيبة إلى الغربيين دون أن يستحقوها. ويتجلى هذا الموقف في حالات منها حالة المقارنة بين أنفسنا والغربيين، ويجرون هذه المقارنة دون أن تتوفر لديهم معلومات كافية عن الشعوب النامية والشعوب الغربية اللازم توفرها لتأمين سلامة إجراء تلك المقارنة. وبذلك يفتقر موقفهم إلى التوازن.
ومن الوسائل التي تتوسل الدول الاستعمارية بها لتسهّل الهيمنة الثقافية، ولتسهّل بالتالي السيطرة السياسية، قتل أو إضعاف روح الابتكار والإبداع وإشاعة الجدب الثقافي. وقد حققت تلك الدول قدرا من النجاح في ذلك عن طريق وسائل منها تفادي أو منع وضع مناهج تعليمية وبرامج تدريبية على مستوى المدارس الابتدائية والثانوية والجامعية تشجع التفكير المستقل والابتكار والإبداع. ومنها أيضا تفادي ومنع إنشاء مؤسسات تدريسية تكنولوجية، وإشاعة الشك لدى أفراد الشعب الخاضع للاستعمار في نفسه وفي أهمية ثقافته وحضارته وقدرته على الإبداع الفكري والأدبي والفني وتشجيع التشكيك في التراث الحضاري العلمي والعمراني للبلد المستعمَر.
ومن العوامل أيضا التي يعزى إليها نشوء هذا الموقف فكر قسم كبير من الناس، وهو الفكر الذي يتضمن اتخاذ الموقف الثنائي، أي فهم الموقف على نحو متطرف أو متعصب. وحسب ذلك الموقف، ظَنُّ شخص أن لشعب خصلة سيئة لا بد أن يعني أن تكون لشعب آخر خصلة طيبة، وبالعكس.
ومما له صلة بإشاعة الغربيين للقوالب النمطية المتحيزة ضد الشعوب النامية نظرة الغربيين إلى العالم النامي باعتباره ملقى النفايات الخُلقية والمعنوية، وليست النفايات المادية فقط. لقد أبرمت اتفاقات بين جهات رسمية في العالم النامي وجهات غربية تقضي بإلقاء نفايات نووية وكيميائية في البلدان الأخيرة مقابل تلقي تلك الجهات لمبالغ مالية. ويسبب عبور آلاف السفن الغربية الواقعة بالقرب من البلدان النامية التلوث الكيميائي والإشعاعي للمياه الإقليمية التابعة لتلك البلدان. وفضلا عن ذلك، فإن العالم غير الغربي هو "الآخر" الذي يلقي العالم الغربي فيه نفاياته في المجالين الثقافي والنفسي.
وكان الاستعمار الغربي وما فتئ يسعى إلى تحقيق الهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية وأيضا إلى تحقيق الهيمنة الثقافية. وإحدى وسائل تحقيق الهيمنة الثقافية إفقاد الشعوب النامية لثقتها بنفسها، ما يسهّل التغلغل في ثقافة الشعوب المستعمّرة. ومن الوسائل الهامة أيضا لتحقيق التغلغل تحري ثقافات هذه الشعوب لمعرفة وجوه الضعف في هذه الثقافات ولمعرفة الثغرات التي يمكن أن تتغلغل عن طريقها تلك الثقافة. والمبشرون والعملاء والمأجورون والوصوليون وكثير من المستشرقين أدوات الدراسة المتحرية لعيوب تلك الثقافات. والعولمة – التي تتضمن الاختراق الثقافي وعدم مراعاة الحدود السيادية للدول – إحدى الآليات المخططة وغير المخططة التي يحقق الاستعمار بها هيمنته. والهيمنة بمختلف أنواعها تسهل الاختراق الثقافي والتغلغل الاستعماري.
وقد عزز المستعمِرون شعورهم بالاختلاف عن شعب البلد الخاضع لاستعمارهم. وكان القول باختلاف المستعمِرين عن شعب البلد المستعمَر أحد الأسس التي قام عليها موقفهم. وكانوا يعتبرون ثقافة الشعب المستعمَر ثقافة دنيا وضيعة وأن ثقافتهم ثقافة راقية رفيعة. وزيادة التأكيد على الاختلاف الثقافي توجد التفرقة بين جانبين ثم توجد مفهوم كون الآخر شيئا منفصلا عنا وعن انتمائنا الإنساني الأوسع. وذلك ما أحدثه ويحدثه الاستعمار في موقفه إزاء الشعوب المستعمَرة، وكان ذلك تطورا لا بد من حدوثه توطئة وتسهيلا لبدء عملية الهيمنة الثقافية.
وعن طريق قيام الاستعمار بسلب ثقة الشعوب بأنفسها سهُل الغزو الفكري والقيمي الغربي، إذ بتضعضع الثقة بالنفس ازداد زيادة كبيرة استعداد الناس للانجراف وراء محاكاة الدول الغربية في ثقافتها على الرغم من أن قدرا كبيرا من جوانب هذه الثقافة لا يتفق مع ثقافة الشعوب الخاضعة للاستعمار ولا يتمشى مع مصالحها بل يتعارض معها. وذلك الاستعداد للمحاكاة والتقليد المقصود وغير المقصود سهَّل على الدول الاستعمارية دخولها في البلدان المستعمَرة وحكمها لها وإحكام قبضتها عليها.
ومن الصحيح يقينا أن يُعزى قسم من الدراسات التي شككت، دون وجه حق، في قيمة الحضارة الإنسانية المشرقة السامية لتراثنا العربي الإسلامي العظيم إلى تأثر الواضعين لتلك الدراسات بالمقولات المغرِضة التي قالها في الغرب أناس كانوا يروجون لحملة معادية للعرب والمسلمين أو إلى محاكاة أولئكم الواضعين للثقافة الغربية أو رغبتهم في إرضاء مختلف الجهات الغربية التي لها برنامجها الرامي إلى تحقيق الأهداف الاستعمارية أو خليط من هذه العوامل كلها. ويتجلى في هذه الدراسات استحواذ الشعور بالنقص على الذين وضعوا تلك الدراسات بتوجيه أو تأثير أو وحي المواقف الغربية التي تستلهم الفكرة الداعية إلى بسط النفوذ والثقافة الغربيين.
◄ تيسير الناشف
▼ موضوعاتي