عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » الأعداد الشهرية: 01-120 » السنة 3: 25-36 » العدد 35: 2009/04 » أوروبا والإسلام في عيون العروي وجعيط

كريمة كربية - تونس

أوروبا والإسلام في عيون العروي وجعيط


عبد الله العروي: باحث مغربي من مواليد عام 1933. من مؤلفاته: الأيديولوجيا العربية المعاصرة (1970). العرب والفكر التاريخي (1973). ثقافتنا في ضوء التاريخ (1983).

هشام جعيّط: باحث تونسي من مواليد عام 1935. من مؤلفاته: الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي (1974). أوروبا والإسلام (1978). أزمة الثقافة الإسلامية (2001).

.

عندما نتأمل بسرعة الزوج المفهومي الذي يشكل عنوان المقال، الإسلام وأوروبا، نكتشف أننا نواجه مفهومين غير متكافئين من ناحية الإحالة المرجعية، فالإسلام يُحيل إلى عقيدة بعينها، الإسلام كما نقول المسيحية – النصرانية – اليهودية – الإسلام المرجعية العامة، ديانة من ديانات الكتاب، وعندما نقول أوروبا، نُحيل إلى مستوى جغرافي.

هناك أمر آخر يضاعف الصعوبة، وهو أن هذا الموضوع موضوع مشاع، ويتحدث فيه المتحدثون من خلفيات مرجعية مختلفة، وفي بعض الأحيان تكون كثرة الأدبيات وكثرة الكتابات عن موضوع بعينه لا تُسعف بالرؤية، بل لعلها تساهم في مزيد من إدخاله في دائرة الغموض، فمن الكتابات الكثيرة ما يعمي البصيرة والبصائر، ولا يجعلنا نعرف ما هو المقصود لا بالإسلام ولا بأوروبا، وفي إطار البحث عن موضوع العلاقة بين الإسلام وأوروبا، نتجه في هذه المقارنة لتقديم آراء الباحث المغربي عبد الله العروي والباحث التونسي هشام جعيط.

وهذه الآراء مجتمعة أسست في نظري أفقاً جديداً في الثقافة المغاربية وفي الثقافة العربية وهي لا تزال بصدد تأسيس هذا الأفق وإعادة تأسيسه، وأفترض أن جهودها أثمرت في النهاية مساحة نظرية متميزة داخل مجال الفكر المغاربي والفكر العربي المعاصر.

يرد موضوع العلاقة بين الإسلام وأوروبا في إطار التفكير في كيفية النهوض العربي – كيف يستطيع العرب تجاوز تأخرهم، وما آلت إليه أوضاعهم اليوم؟

إنَ جعيط والعروي يعييان بقوة، الصراع القائم بيننا وبين أوروبا، ويستنكرون كل أساليب الهيمنة الغربية ولكن الموضوع الذي يهمهم أكبر من استنكار مواقف أو اتخاذ مواقف لأحداث بعينها، يهمهما التفكير في إمكانية تحقيق تواصل بين ذاتنا التاريخية وبين عالم يحفظ لذاتنا قوتها ومكانتها، ويسمح لنا بالتعلم من الآخرين دون إحساس بالدونية، ودون إحساس بأننا في مرتبة أدنى من الآخرين.

والجامع النظري بين أعمال هؤلاء هو الجامع التاريخي النقدي، فهما يعطيان اعتباراً وافياً لمسألة التاريخ فالعروي، وهشام جعيط، يعرفان جيداً أن لحظات الصعود الإسلامي التي نسميها بلهجة مؤدبة في كتبنا في المدارس الفتوحات الإسلامية "كانت لحظات هيمنة بالمعنى التاريخي للكلمة، عندما كان المسلمون في أوج قوتهم، ووصول الإسلام إلى مشـــارف فرنسا (جنوب فرنسا)، هو جزء من إرادة الهيمنة والقوة التي مارسها المسلمون في التاريخ.

وما حصل في أزمنة استعمارنا هو شكل من أشكال الهيمنة الغربية على العالم لذا يرى جعيط والعروي بألاَ نتعامل مع التاريخ بأكثر من معيار، إذا كنا نؤمن بأن الأمر كذلك، فيجب ألا نستجدي في علاقتنا بأوروبا أحداً، بل يجب أن نفكر في أفضل السبل التي تسمح لنا بأن نعيش زماننا وأن نتعلم من الآخرين، وألا نأسر ذواتنا في بقايا الماضي وألا نقدسه، وأن نواجه مشاكلنا، وأن نواجه ذاتنا بالنقد وليس بالتمجيد، ذلك أن مشاكلنا في الوقت الراهن على الأقل تحتاج إلى كثير من النقد. والنقد الذاتي بالدرجة الأولى، يقول عبد الله العروي، "المنهج المفيد والمطابق هو أن يضع الدارس نفسه، لا على مستوى المخلَفات الهامدة بل على مستوى الوعي المتحرَر من ثقل الأعمال الموروثة والمتأهب لتأسيس ثقافة جديدة في قلب المجتمع الثائر. وهذا الوعي النقدي، المتخفف من كلَ إرث، أوليس حضور المستقبل في الحاضر؟" [1].

وقد أنتج هذان المفكران نصوصاً هامة في الفكر العربي المعاصر، تبلورت ضمنها نظرتهما إلى العلاقة بين الإسلام وأوروبا، وهي علاقة توتر تاريخي وموضوعي، وما تأخرنا إلا نتيجة عوامل تاريخية. وتأخرنا ليس مطلقاً: إنه تأخر حصل في التاريخ بفعل عوامل التاريخ، ونحن ساهمنا فيما وصلنا إليه. قد يكون الآخرون ساهموا بدورهم فيما وصلنا إليه، ولكن نحن بإمكاننا أن نتجاوز ما آلت إليه أحوالنا متى تعلمنا كيف نجابه مصائرنا باللغة التي تقتضيها هذه المصائر، التمثل أو الاستيعاب النقدي والتاريخي لممكنات الحاضر المركب نحو تواصل نقدي خلاق بيننا وبين الآخرين، ولكنه تواصل يغلّب آلية النقد، لا يقبل الأمور على علاتها، بل يفهم الأمور في تاريخيتها ويضع مسافة بيننا وبين الآخرين، ويتسلح بالنقد. يقول هشام جعيط "تستطيع النظرة التاريخية النقديةـ، وحتى من الداخل أن تعيد وضع كلَ شيء ضمن منظور جديد" [2].

وعندما نستعين بالتاريخ على التاريخ، نستعين بتاريخ الآخرين على زماننا وعلى تاريخنا، يمكن أن نجد الحلول المناسبة لواقعنا ولأوضاعنا في ضوء الاستعانة بالتاريخ، لماذا؟ لأن عبد الله العروي يؤمن بما يسمى مبادئ الفكر التاريخي إن التاريخ واحد، تختلف ثقافتنا – خصوصياتنا – أساليب تغذيتنا – ليكن تطبيق كل هذه الأمور ما يريحنا كأشخاص، ولكن هناك نواظم مشتركة توحدنا كبشر، يجب أن نستفيد في هذه النواظم المشتركة من منجزات الآخرين.

لذلك ذهب جعيط والعروي إلى انتقاد التصرفات السلفية وانتقاد تلك النظرة التي تمجَد الذات الإسلامية التي تؤمن بضرورة العودة إلى تلك اللحظة المتألقة في تاريخ الإسلام في حين أن الإسلام ذات تاريخية قابلة للتحوَل في الزمن يقول العروي "نودع نهائيا المطلقات جميعها، نكف عن الاعتقاد أن النموذج الإنساني وراءنا لا أمامنا، وأن كل نقد إنما هو في جوهره تجسيد لأشباح الماضي وأن العلم تأويل أقوال العارفين، وأن العمل الإنساني يعيد ما كان ولا يبدع ما لم يكن وبذلك نتمثل لأول مرة معنى السياسة كتوافق مستمر بين ذهنيات جزئية، تميلها ممارسات الجماعات المستقلة وتتوحد شيئا فشيئا عن طريق النقاش الموضوعي والتجارب المستمرة، بحيث لا يمكن لأحد أن يدّعى فردا كان أو جماعة أنه يمتلك الحقيقة المطلقة عن طريق الوحي والمكاشفة، ويفرضها مع الآخرين" [3].

كما أن جعيط والعروي يقبلان التصوَرات الأكثر تاريخية أي التصوَِرات التي تقبل أن تنظر إلى واقعنا وإلى ماضينا نظرة موضوعية دون حسابات ظرفية عابرة فتاريخ الحضارات والثقافات هو تاريخ التواصل والمثاقفة وتاريخ النقد وإعادة النقد وتاريخ الاستيعاب والتجاوز لا تاريخ التموقعات على الذات يقول عبد الله العروي "إنّ علم الحضارة يستلزم وجود رواية تاريخية ولا يمكن أن يحلّ محلّها، وإلاّ اختفى نوع خاص من التعبير عن تجربة الإنسان. هناك إذن سياق ضروري لسرد الوقائع الإنسانية لا سبيل إلى تغييره لأنه عبارة عن منطق الزمان الإنساني. كلّ ما يمكن هو تجاوزه في نظام فكري جديد يغبّر تماما مفاهيم الواقعة والزمان والإنسان" [4].

من أجل ذلك يعتبر جعيط أنه لا وجود لحضارات، وإنما بقاع إنسانية منطبعة بأشكال ثقافية وحضارية مميزة. لقد قامت الحضارة بما يشبه الهجرة، فانتقلت من الشرق إلى الغرب. والثورة الحضارية التي جَرَتْ في الغرب يجب عدم النظر إليها باعتبارها ثورة أوروبية، إنما ثورة عالمية؛ إنها انقلاب عالمي جديد. واستمرار عدم إسهامنا فيها له أسبابا كثيرة. لقد عشنا اهتزازًا كبيرًا في نظرتنا إلى ذاتنا الحضارية، وفي طرح أسلوب النهوض الحضاري، ودخول أفق الحداثة. وكَثُرَ الحديث عن التصنيع والنموِّ الاقتصادي، وكذلك عن الديمقراطية، وقبلهما عن السيادة. وكلُّ ذلك محبذ بالتأكيد؛ ولكن لا اقتصاد ولا ديموقراطية من دون ثورة ثقافية.

ومن هنا انطلقت الدعوة الأخذ بمعطيات التاريخ وإتباع المنهج "التاريخاني" [5] على حد تعبير عبد الله العروي.

والتاريخانية دعوة لدراسة التاريخ الإسلامي وتاريخ أي أمّة ضمن دائرة شاملة وهي التاريخ العالمي بلحظاته المنتصرة الظافرة ومضطهدة المنهارة وكذلك بلحظاته المحذوفة.

وتعتبر التاريخانية بالنسبة إلى العروي الرد العملي على التخلف بنواحيه فهي برنامج جامع الأبعاد للنهوض بالمجتمعات المتخلفة والعربية تحديدا من وضع سمته الأساسية التأخر والمقصود بالتأخر التاريخي هو تحقق التاريخ أي التقدم في أوروبا وفواته في العالم الثالث يقول العروي "ليست التاريخانية مذهبا فلسفيا تأمليا وإنما هي موقف أخلاقي يرى في التاريخ بصفته مجموع الوقائع الإنسانية مخبرا للأخلاق وبالتالي للسياسة ولا يعني التاريخاني بالحقيقة بقدر ما يعني بالسلوك وبوقفة الفرد بين أبطال التاريخ في نظره هو معرفة علمية أولا وأخيرا" [6].

إنّ السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان الآن هو ما معنى أن جعيط والعروي ينتقدان التصورات السلفية؟

معناه أنهما لا يمجدان الذات، لأن الذات في نظرهما ذات تاريخية، والذات التاريخية قابلة للتحول في الزمان، يقول العروي "لا يقف الشيخ تجاه الغرب، ولا الغرب تجاه الشيخ، كما لو كانا كائنين منفصلين. كلاهما مندس في الآ خر، شعرا بذلك أو لم يشعرا به. فلم يعد أحدهما يستطيع أن يدرس الآخر من الخارج. لم يعد الغرب يستطيع أن يحكم على محمد عبده إلاَ بصفته لحظة من مسيرته هو أي الغرب، ولم يعد يستطيع الشيخ أن يعكس مجتمعه بكيفية شاملة وفيَة تمكنه من الحكم على الغرب باستقلال وتجرَد: الغرب حالَ فيه يلوَن إدراكه لذاته. القول بأن عبده أصاب أو أخطأ، فهم الغرب أو لم يفهمه، مجرَد لغو ما لم ننزله حيث يجب، أي حيث يتشابك المجتمعان وينعكس كل واحد منهما في وجدان الآخر" [7].

والحضارة الغربية ليست ملكا لأوروبا ولا للغرب، الحضارة الغربية اليوم هي فعل من أفعال الإبداع الحضاري في التاريخ، وله نصيب في هذه الأفعال المبدعة في التاريخ واضح أن من خصوصيات الفكر العربي المعاصر، احتواؤه على العديد من التناقضات؛ فبين التيارات التي تدعو إلى العقلانية والانخراط في المسار العالمي وما تقتضيه الظروف والسياق العام، ثمة تيار مهمين لازال يتخبط في الخرافة والأسطورة، ويمجد اللاوعي الزمني ويقدس كل ما هو ماض، بل ليس كل التراث، وإنما جانبا من هذا التراث، وعلى الخصوص الجانب اللاعقلاني بنظرته الأحادية والإطلاقية التي تزداد تفشيا ونموا. والفكر الخرافي الذي يعتمد على البعد الأسطوري قد ينجح في التعبئة وشحذ الأفراد وراء الشعارات التي تعد بالتحرير والتقدم وتحقيق الوحدة واستعادة المجد الضائع، كما أن الأسطورة قد تنجح في تقويض نظام أو إسقاط دولة، ولكنها تظل عاجزة عن الإسهام في بناء مجتمع جديد أو صنع عالم مغاير. ويمكن للأسطورة أن تساهم في التحام العصبيات وَلأم الهويات، لكنها تظل عاجزة عن أن تبني مجتمعا مدنيا يقوم على العقد والدستور والشراكة أو على العقلانية والحريات.

ولعل من المفارقات التي يعيشها العقل العربي المعاصر، هو هيمنة الفكر الأسطوري اللاتاريخي، في مقابل نفيه للآخر، ولكن مع الاستفادة واستغلال التقنيات والمنتجات الفكرية والعلمية المستوردة من الغرب.

فهل يفهم من خلال ما تقدَم أن القضية كامنة في العلاقة بالتراث؟

إن جزءا كبيرا من معضلة البؤس الذي يتخبط فيه العقل العربي، لا يمكن أن يدرك إلا بالبحث في حفرياته المعرفية، وما تسرب خلال تاريخ المعرفة الطويل. فالتاريخ الحقيقي لم يتحقق بعد، لأن العربي لا زال يخشاه، ولا زال لا يتعامل مع الماضي إلا بالتقديس أو بالخوف، أي إما أنه يخشاه ويخشى ما قد يجره عليه من حقائق لم يكن مهيأ لاكتشافها أو إنه، أصلا، لا يرى له المصلحة في ذلك فيلجأ إلى أسطرته واعتباره قطعة هناك هي ليست منه، بقدر ما أنه يمثل جزءا منها. يقول عبد الله العروي "أماَ المجتمع العربي فإنه يرفض أن تكون للمناهج الغربية قيمة مطلقة. فيدعي أنه وحده يستطيع أن يتعرف إلى ذاته بفضل حدس اختص به. لكنَه لكي يعيد بناء ذاته يستخدمه مثلا ويستأنس به وهو، بالتالي يأخذ من الغرب. فهذه الخطوة الإجرائية تكون في حد ذاتها اعترافا ضمنيا بامتياز الغرب، بمعنى أنَه يحتوي بالفعل على شيء يستحق أن يقتدي به غيره، أي صالح للتعميم على البشرية الجمعاء" [8]. لهذا السبب يرى العروي في النهاية أنه لا نهضة في العالم العربي دون حل إشكالية الإسلام والغرب بالاندراج في طريق الثقافة الغربية دون أن يعني هذا رفضنا للإسلام.

وقد تحدث هشام جعيط في أزمة الثقافة الإسلامية، عما سماه التقليد الأكبر واعتبر أن اليابانيين مارسوا في فترة ما سماه التقليد الأكبر، لعلكم تدركون أننا في العادة عندما نقول كلمة التقليد نقولها بالمعنى القدحي، ليس بالجميل أن نقلد، لكن جعيط عندما أضاف كلمة الأكبر إلى كلمة التقليد، جعل المفهوم ربما يتضمن شيئين متناقضين، وهو يريد أن يمرر لنا أن التقليد ليس دائماً مسألة معيبة أو تعاب، بل في بعض الظروف قد يكون التقليد مقبولاً خاصة في لحظات مماثلة للحظات التي نعيشها في العالم العربي، بل قد يكون تقليدا بناء عندما يكون عن وعي واستنادا إلى تحكيم العقل.

يقول جعيط: "يمكن للمثقفين ذوي الأصل الإسلامي، أن يتوجهوا، مع كلَ التعاطف الذي يريدونه، نحو الحضارة الغربية، لا يسلبونها سرَها بل ليفهموها من الداخل، ليسائلوها عن هويَتها بقلب ملتزم وبعيد في آن" [9] وهذا ما أكده العروي في كتاباته وهو يؤكد أن الأخذ من الغرب ضرورة أملتها ضروريات الانخراط ضمن حركة التاريخ يقول "كلَ ما أثبتناه هو أنَ الأيديولوجيا العربية المعاصرة، إذ تتأمل ذاتها، تكتشف في تلك الذات فترة من فترات الوعي الغربي في مسيرته نحو الأمام. وعوض أن نعتبر ذلك الكشف مجرَد اتفاق أو عبارة عن انتقاء عرضي، رأينا فيه إشارة موضوعية إلى الاتجاه نحو توحيد النوع البشري، توحيد هو هدف ونتيجة للتطوَر التاريخي" [10].

ويصل بنا العروي إلى النتيجة الآتية: آن الأوان لنعلن أنه يمكننا أن نتعلم من تجارب الغرب، ومكاسب الغرب – فالغرب اليوم هو صاحب المبادرة في مجال الكشوف العلمية، لا يمكنك أن تكون فيزيائياً اليوم دون أن تكون قد تتلمذت على النتائج الكبرى في مجال الفيزياء، وحتى تبتكر يجب أن تكون قد اندرجت في سياق النظريات، وفي المنظومات الفيزيائية.

إذن لابد من التعلم أولاً من الآخرين ويضع المسألة.. جعيط، يعمق توتره أكثر، يقول حرفيا: حين نطرح على العالم العربي المفاصلة الرهيبة والمخيفة بين بقاء الإسلام والولاء للماضي من جهة وبين الانطلاق في طريق المستقبل والتجديد والتغريب من جهة أخرى فإننا نحصره في جدلية "البؤس"، يجب أن نبحث عن طريق آخر لا طريق التغريب الخالص، ولا طريق الاكتفاء بالولاء للماضي. ويريد أن يستمر باحثاً عن سبيل يُفضي أكثر من غيره، أو يسمح أكثر من غيره بمعالجة مشاكلنا المستعصية، طريقا ينفتح نحو العالمية.

يقول جعيط: "يمكن لأوروبا أن تمهَد لتمجيد ذاتي يائس، ولا يمكنها أبدا تجاهل أصولها المتواضعة أو العالم الخارجي. بالمقابل لا يمكن للإسلام أن يتجاهل إلى ما لا نهاية ما كان في أصل قوة أوروبا ومادتها هدفها. كما لا يمكنه أن يستمرَ في رؤية ذاته بشكل خرافي ومتراص. إننا نتوجه اليوم نحو مواجهة بين الحضارات لم يسبق لها مثيل في التاريخ ... كلما توحد العالم أكثر كلَما تعرَض للتمايز " [11].

ويضيف قائلا في موضع آخر "إن الأمة العربية اليوم هي أمة ثقافية كما كانت الأمة أمة دينية، إنها ليست كذلك سياسيا، بمعنى أنها مغطاة ببنية الدولة القيصرية، ولكنها كذلك بالمعنى الذي تأكدت فيه بالنسبة للعالم الخارجي كمتحد صلب لا يتجزأ شبه أسطوري، وواع بعمق وحدة المصير، إنها البنية الفوقية التي تشرف على الدول –الأقطار وتمنحها وجودا في العالم وموقعا في التاريخ العالمي" [12].

أمَا العروي فتتسم نظرته بنظرة وضعية، ولهذا فهو ينظر إلى الإسلام مثلما ينظر إلى المسيحية واليهودية ديانات الكتاب، مصيرهما واحد في التاريخ، فالرجل وضعي لا يرفض الديانات – ولكن يقول: إن مصيرها في التاريخ متشابك – حاجة بشرية نعم – حاجة متواصلة – نعم – ولكن هناك أساليب أخرى تسعفنا بمواجهة أفضل في إشكالاتنا في الحياة في المجال الاقتصادي، وفي المجال السياسي والاجتماعي، لكن في المجال الروحي يمكن أن تكون الديانات سنداً لنا يغني رؤيتنا ويغني وجداننا ويغني روحنا ويسعفنا بهدوء البال، لهذا السبب يرى العروي في النهاية أنه لا نهضة في العالم العربي دون حل إشكالية الإسلام والغرب بالاندراج في طريق الثقافة الغربية –دون أن يعني هذا رفضنا للإسلام– إذ لا نزال دائماً في دائرة التوتر.

يقول جعيط: "الإسلام خلال مسيرته الطويلة كانت تقوده قيادة شعب أو ثقافة: في البداية قيادة عربية بحتة، ثمَ عربية–إيرانية ثمَ تركية إيرانية، ليعيش فيما بعد مقسَما بين مساحات ثقافية متينة وقاسية هذه الفكرة يمكن أن تكون خصبة إذا حددناها لأنها تنير مشكلة الاستمرارية والانقطاع بتعابير غير تلك لتعابير المزدوجة من المفاهيم الفارغة: قمة/انحدار، انحطاط/نهضة، عربي/غير عربي، دون ذكر الديالكتيك الحديث تقليد/حداثة. إذا الإسلام الأول الشامل والمتماسك كان تاريخا على عاتق شعب، يتمتع أو لا يتمتع بثقافة وطنيَة قوية. أما الإسلام الثاني فيتميز بتعدد الاتجاهات، ويتوقف حينئذ عن أن يكون موضوعا تاريخيا تاما: ذلك هو القطع الرئيسي في الإسلام" [13].

والمجموعة العربية حملت راية الإسلام، وتعلمت من المرجعية الغربية فالعلاقة بينهما علاقة مثاقفة وعلاقة تأثر وتأثير وعلاقة حوار لا علاقة صدام. إذا كانت نظرتهما للتاريخ نظرة نقدية صارمة، ففهموا أنَ الأحداث التاريخية ليست أحداثا متكرَرة وإنَما هي نتيجة عمليَة تطوَر، فإنَ الفكر العربي بقي بعيدا عن الواقع، متخلفا عنه بسبب اعتباره لأصل الوفاء لحقيقة واقعية. لذلك أكَد العروي أن الطريق الوحيد للتحديث في عالمنا العربي هو الأخذ بأسباب الحداثة الغربية من فردانية وعقلانية وعلم حديث...، استنادا إلى فلسفة تاريخية لا يغرب عنها المثال الغربي. فهل يمكن أن نتحقق من هذه القيم والمبادئ بعيدا عن التحقق من تاريخها (الثورة الاقتصادية والسياسية، والإصلاح الديني)؟ فيستحيل على البلاد العربية اليوم أن تعيش تاريخ شعوب أخرى وبالتالي تستجدي حداثتها، فهذا ليس من عادة التاريخ ودروسه، "فالتاريخ لا يعيد نفسه"، ولو في الفضاء الذي حدث فيه. فإذا كانت قوانين ونواميس الحداثة الغربية واضحة لدينا اليوم وعلى مستوى العالم، فإنها ليست مطلقة بحيث تصبح شرطا للتحديث في المستقبل ولأي طرف في العالم.

فالغرب الأوروبي في عصر النهضة وهو يصوغ طريقه نحو الحداثة الشاملة لم يأخذ بالحداثة الإسلامية السائدة آنذاك إلا في جوانب محدودة علمية وفلسفية وتقنية. والمواقف التي وقفها الغرب من تاريخه وتراثه الديني والفكري وهو يطلب الحداثة، والتي تمخضت عنها مبادئ التحديث من فردانية وعلمانية وعقلانية... ليست بالضرورة هي نفس المواقف التي يجب أن نقفها نحن، وذلك ببساطة شديدة، لأن تاريخنا مختلف تماما عن تاريخهم. ففي المسألة الدينية، على سبيل المثال، لا يمكننا أن نتخذ نفس الموقف الذي اتخذه رجال الإصلاح الديني في أوروبا كمارتن لوثر ... من الديانة المسيحية في شكلها الكاثوليكي، ذلك أن الكنيسة في العصر الوسيط كانت العائق الأساسي أمام تحرر إرادة وعقل الإنسان الغربي، وبالتالي كانت عائقا أمام التحرر السياسي والاقتصادي، الشيء الذي لا ينطبق تماما على الإسلام.

والعروي، وجعيط يعتبران أن العالم غير الأوروبي هو الذي يضفي على المفاهيم والنظريات الأوروبية طابعها الكوني. كل النظريات التي نشأت في الغرب غربية، في علم الاجتماع، في الأنتربولوجيا، هي غربية. ومتى تصبح كونية؟ وما هو المطلوب الآن؟ المطلوب أن نتجاوز أوروبا. ودعا العروي حرفياً: إن نقداً عنيفاً وقوياً لأوروبا يعيد بناءها لم تساهم فيه أوروبا وحدها بل ستساهم فيه أوروبا كما سيساهم فيه غير الأوروبيين، ونحن منهم. وانتقد أوروبا وبين دور الشعوب الأخرى والمعارف القادمة من قارات أخرى في إغناء المشروع الثقافي الأوروبي.

"ويكمن الدليل القاطع، على الوجود ذلك العقل الكوني الذي يشترك فيه كلَ البشر، في سيرورة الفكر الإصلاحي العربي نفسه. إذ قلنا إنه يتوجه تدريجيا بصعوبة وألم وتأسف، نحو التصالح مع الإنسانية الجديدة، إنسانية العهد الحديث. ومهما ظهر للبعض هذا المفهوم للعقل الكوني هزيلا عميقا، فإنه في نهاية المطاف أكثر عطاء من الدعوة إلى المخالفة والتميز." [14].

فدعوتهم تتمحور أساسا إلى الدعوة تحقيق مفهوم الكونية وأن ننظر إلى الإنسان لا على انه مسلم أو مسيحي أو أوروبي بل على أنه إنسان ينتمي إلى منظومة كونية يقول جعيط "من الواضح أننا إذا كنا نميل نحو العالمية فذلك لأنها لم تتحقق في الماضي، والتاريخ العالمي الماضي يرى حينئذ متماسك، كالسلسلة الطولية التي سنخرج منها الحداثة" [15].

نصل إلى القول إن أبحاثهما تتجه أساسا صوب المسألة الثقافية وتخاطب في الأساس نخبة من المثقفين من أجل أن يلحقوا الحداثة الغربية عموما وأفرزته من ثقافة تقنية بصفة خاصة، عسى أن يتمكن العرب من ولوج باب الكونية بثقافة جديدة عالمية وكونية شاملة

وإن شدَد العروي على أن الماركسية بالنسبة إلينا حاليا هي خلاصة المنهجية للتاريخ الغربي. فذلك لأننا لم نعش أطوار العالم الحديث المتتابعة ولم نستوعب بنيته الكامنة أي المنطق الديمقراطي الليبرالي:

"وإن اقتصر دور مثقف العالم الثالث على استلهام بعض أسس العلم الحديث، فإن العروي يثور على هذه الانتقائية التي تجزئ أفكار الغرب، ويدعو إلى أهمية اللجوء إلى نسق فكري متكامل وتعتبر الماركسية أفضل نظام فكري يحقق هدفه لأنها تزود بإيديولوجية قادرة على رفض التقليد دون أن تكون خاضعة لأوروبا، على رفض شكل خاص من المجتمع الأوروبي دون أن يكون مضطرا للرجوع للتقليد" [16]

وهو يبين أنّ المثقف غير الأوروبي يجد في الماركسية أيدولوجية يرفض بها التقاليد دون أن يخضع لأوروبا ويرفض بها كذلك شكلا من أشكال المجتمع الأوروبي دون أن يرجع إلى أحضان التقاليد.

لعل هذا البديل الذي اقترحه العروي أي الماركسية هو سبب تميزه، حيث اتفق أغلب النقاد على أنه أبرز مثقف مغربي أحسن توظيف الآلية النظرية الماركسية بديلا عاما، وليس بوصفها أيديولوجية البروليتاريا، وليس باعتبارها ذات قيمة كونية علمية، وإنما أداة فعَالة يجدر استخدامها ضمن المنطلقات الوطنية المحضة ذاتها.

إن ما يميز خطاب العروي وجعيط في الفكر العربي المعاصر هو اتجاهه إلى الغرب الحضاري لا الغرب الاستعماري. ويتميز النموذج الغربي بخروج بعض مفكريه الجدد عن الأطر التقليدية ليتبنوا فكرا كونيا. إنهما يهملان التراث الثقافي لحساب الشمولية الثقافية والكونية من جهة، وتاريخية أوروبا من جهة ثانية. وهما يريان أن التشبث باستمرارية الثقافة مجرد وهم، وكان نتيجة ضغط الثقافة الغربية، مما أفرز دفاعا غير مجد عن الثقافة الأصولية. وهما ينظران إلى الثقافة العربية من خلال مواكبتها المعاصرة وانخراطها في الثقافة الكونية وتفتحها الفعَال على الثقافات الأخرى.

= = =

المراجع

[1] العروي، عبد الله (2006). الأيديولوجيا العربية المعاصرة. المركز الثقافي العربي، المغرب، ط 3، ص27.

[2] جعيط، هشام (2001). أوروبا والإسلام: صدام الثقافة والحداثة. دار الطليعة، بيروت، ط 2 ص 8.

[3] العروي، عبد الله (1970). الأيديولوجيا العربية المعاصرة. دار الحقيقة، بيروت، ص 21.

[4] العروي، عبد الله (1984). ثقافتنا في ضوء التاريخ. دار التنوير للطباعة والنشر، لبنان، ط 2، ص 16.

[5] تاريخية: مصطلح يعني التضامن والوحدة بين الأنا التاريخي وبين الآنية، ويسمى الشعور بهذه الوحدة الشعور التاريخي، وعنده أن التاريخ بخلاف التأريخ والشعور التاريخي أو التاريخية بخلاف الشعور التأريخي أو التأريخية. فالتاريخ هو العلم بحوادث الماضي خلال التسلسل الزمني للعالم، والتاريخ هو شعور الذات بما حقّقته من مظاهر نشاطاتها المختلفة. والشعور التاريخي هو النور الذي يوضح تاريخية الآنية ويتبدى في كل حالة أريد فيها أن أدرك العلو أي أن أدرك أنني أريد من خلال المواقف التي أوجد فيها، الخروج عن هذه المواقف والعلو عليها ابتغاء تحقيق إمكانات جديدة. (المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة: عبد المنعم الحفني، ص 115).

[6] العروي، عبد الله. ثقافتنا في ضوء التاريخ، ص 16.

[7] العروي، عبد الله (2006). الايديولوجيا العربية المعاصرة. المركز الثقافي العربي، المغرب، ط 3، ص 62.

[8] نفس المصدر السابق: ص 202.

[9] جعيط، هشام. أوروبا والإسلام: صدام الثقافة والحداثة. ص 7.

[10] العروي، عبد الله. الإيديولوجيا العربية المعاصرة. ص 202.

[11] جعيط، هشام. أوروبا والإسلام: صدام الثقافة والحداثة. ص 98.

[12] نفس المصدر السابق، ص 8.

[13] نفسه: ص 87.

[14] العروي، عبد الله. الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ص 203.

[15] هشام، جعيط. أوروبا والإسلام: صدام الثقافة والحداثة. ص 76.

[16] العروي، عبد الله. أزمة المثقفين العرب: تقليدية أم تاريخانية. ترجمة ذوقان قرقوط (1978). المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت. ط 1، ص 120.

D 1 نيسان (أبريل) 2009     A كريمة كربية     C 0 تعليقات