هيام ضمرة - الأردن
معركة تسوق
للأسواق ومعروضاتها جاذبية عجيبة، وقدرة عظيمة على أن تجعلك تتبع رعشة الأهداب لتبصر إذكاءات الرغبة بالاقتناء، تحفزك على فك أقفال محفظتك دون تردد، تدفع ما حرصت على جمعه، وتتخلى على ما قضيت أياما وشهورا تعمل بلا كلل للحصول عليه، فالسوق رحلة إغراق واستغراق، إغراء مستحوذ ينسيك أولوياتك ويبدد حرصك، ليبدي بشاعة الانفلات بالإنفاق وسيطرة التبذير في طبعك، مرض العصر القبيح الذي يؤكد سذاجتك وأنت تغوص بحره بمجاديف الرغبة وتلج شواطئه بتهمة الإسراف حينا، والشطارة أحيانا.
ما أن تنزلق قدمك مع حاجتك لتسوق الملّح من احتياجاتك، حتى تجد نفسك وقد ابتعت ما تريد وما لا تريد، ما كنت بحاجته وما لم تكن، وأن منزلك ازدحم بالفائض والغير مجدي من الأشياء، وأن هدير الرغبة تمكن من هدير العقل وأسقطك في لجة إلحاحها فلا هدير يعلو على هدير رغبتك الملحة على الشراء، فهذا تشتريه لأنك تجد به مكسب لرخصه، وذاك جميل سابقتك الرغبة باقتنائه، وهذه حرصت على اقتنائها لأنها كانت يوما في الحلم مشتهى، وووو. هي حجج تقنع بها نفسك لتسقط بتهمة سافرة تضعك على مقصلة المبذرين، وتمنحك أقدام التبديد.
ها أنا أطل على شفير اكتشاف عجيب، يجعلني على بينة من أمر كنت قد اجتهدت لجعله مهارتي الذكية في التسوق، أستعرض قدرتي العجيبة على استخدام الحوار المتذاكي لجعل التاجر يرضخ لسعري المعروض أو لما يقاربه، وأخرج بأكياس مكتنزة معبأة بالانتصار، أو هكذا كان يخيل إليّ، لأني كنت أكتشف في بعض الأحيان أن ما دفعته من ثمن بعيد معركة المفاصلة، هو في واقعه الثمن الحقيقي في معرض آخر. ولكنها تظل في النهاية لعبة مقارعة في المفاصلة بين طرفي العلاقة التاجر الحصيف والزبون المتشاطر، تطلق بهجة النصر في أعقاب ضراوة الجدال.
كنت قد بدأت أتلمس الزيادة في وزني، وأن ما يملأ دولاب ملابسي من أثواب قديمة تصرخ لمظهرها الضيق معترضة في وجهي، فشلت تماما في تغذية نفسي بعزم المبادرة لاتخاذ نظام غذائي يعيدني إلى رشاقتي، كما فشلت في كبح جماح شهوة معدتي وضعفها أمام أطباق الحلويات، وأصناف المأكولات المعروضة صورها على أسطح إعلانات المطاعم، المطاعم الحديثة التي دخلت مأكولاتها إلى موائدنا بدهونها الصعبة وكيميائية تركيبتها المضافة لتشحننا بهرمونات التسمين، وتعطل نظامنا الصحي مع تغير مواعيد وجباتنا المعهودة، فصرنا نتناول وجباتنا لشهوة لعاب، لا لقرصة جوع، وصارت الدهون الثقيلة تثقل أدمغتنا إلى جانب أجسادنا، فما أن نستغرق منذ اللحظة الأولى برحلة التمتع في أحضان الأطعمة الدسمة لنصرف عن أرواحنا ضيقها بالهموم، حتى نصبح أسرى هذه العادة وتصيبنا ببلادة التغيب بين اصطخابات شهوة المطالب، وتتحول إلى إدمان غبي يفترسنا بقدر ما نفترس من أطعمة، لتصبح أجسادنا مجمعا للنفاية والمرض، نفغر للأطعمة أفواهنا، وبعد مدة نفاجأ على ما تنغلق عليه من أصناف عجيبة وخلطات غير اعتيادية، لتأخذ أجسادنا عزها في التمدد والانتفاخ، ولنتحول إلى كتلة آدمية ثقيلة تتهادى بشحومها ولحومها وكولسترولها وهي تجاهد ضيق أنفاسها، ومع السمنة يبدأ غزو الجيوش المستعمرة لأجهزته العتية فيوهنها، ويبدأ موال التشاكي في نحت الآذان.
وليس أبلغ من رسالة السنّة في كبح جماح المعدة، وعدم تمكينها من أن تأسرنا في أغلال (الشره) لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم (المعدة باب الداء) وتقسيمه المعدة لثلاث أجزاء، ثلث للطعام وثلث للشراب وثلث أخير للتنفس، هي حكمة العالم ونصيحة الغانم، ولكن أنى للنفوس الأمارة بالسوء أن تتساوى في قدرتها على الالتزام والإحتجام، وأنى للهموم من أن ترحم ضعفنا في أحد جوانب دفاعاتنا، ولا تزاحم علينا معترك غزوها وذهننا عنا متباعد، لنصحو على أنفسنا فجأة وإذا نحن وأمراض السمنة في سرير واحد وثالثنا الأنين.
وها هي قضيتي مع السمنة وهي ترفع من حولي سهام النفور، وها أنا أعلن فشلي في استعادة رشاقتي ولياقتي، وقد غدوت من أهل القاعدة في الأوزان الثقيلة والعقول . . . عذرا أقصد والدماء الخفيفة، وليت الشاعر الهمام أنصف أمثالي ولم يقل:
قوام مذهل والجسم غض = = يزلزل حينما تمشي كياني
وبدل ذلك قال (مع الاعتذار للشاعر):
قوام مدهن والجسم ثقل = = يزلزل حينما تمشي الأركان
والزيادة بالوزن كانت منحاة إجبار لي للتوجه إلى رحلة التسوق لشراء ما يلائم حجمي الجديد، تاركة خلفي لوثة عنادي وفشل محاولاتي، مجبرة على التأقلم مع وزني الجديد.
راحت أقدامي تحرث بلا كلل المحال التجارية والمعارض، محاولة بداية التعرف على حجمي الجديد من خلال التعرف على حقيقة مقاسي، وكأنما ملاح جسدي البيولوجي بدأ عمله للتو، مقدما قراءة جديدة لا يستوعبها عقلي رغم وضوحها، ولا يعترف إدراكي بها رغم مواجهتها لي بصراحة رسالتها، صراحة تثقب غروري وتنتزع اعترافي، ولمرات عدة كنت أعود من السوق أجرجر خيبتي وأمرّد على نفسي غضبي، وبدل أن يتجذر داخلي العزم على الالتزام بالنظام الغذائي الصحي، كنت أدس رأسي داخل الثلاجة و( أفش) غلي بالالتهام والازدراد حاملة بعد ذلك إلى فراشي كوابيسي، ومؤجلة كافة مشاريع زياراتي للأهل والخلان إلى حين أعثر لجسدي على ثوب يلائم اكتنازه، متحسرة على متعة في التسوق كنت فيما مضى أمارسها بشغف باتت تضرب مسمار الخيبة والأسى في دماغي.
آه. هي العين إذن، فلا بد أن الأمر يتعلق بنظرتي المعتادة إلى حجمي الغزلاني السابق ومقارنته بالحجم الجديد وصورة ضخامته القبيحة، وظننت أن مجرد اتخاذ القرار في السعي نحو تبديل مقاس ألبستي كاف لبسط اعترافي والإقرار بسمنتي، بعدما فشلت كل محاولاتي في تخفيض وزني، وقد كان الأمر ينجح في بدايته ومن ثم يعاود جسمي استرجاع وزنه السابق بعناد يفوق عنادي. "بعض الأحيان تهن عزائمنا أمام جحافل ضغوط الحياة وآلامها، قد نغلبها بالصبر عليها ولكنها قد تسلب منا بعضا من صحتنا ونحن نلجأ إلى الطعام تنفيسا، هي أقدار في بعض الأحيان لا سلطة لنا عليها".
عاودت رحلة التجوال في أروقة الأسواق الحديثة، رافعة راية الاستسلام ، وكنت بدأت أشعر بالإرهاق ومن ملل الحيرة بالاختيار، بل وبالاختناق من ضيق غرف القياس وهي تطبق بجدرانها على رئتيّ فأضيق أنا وهوائها المحبوس، ويزداد بي النفور من قبح حجمي الذي يطل من مرآتها كآلة اكتست عوالقها الكلسية من قيعان المحيطات، فكان لا بدّ من أن أتهمها بالزيف والتزوير، ففي عالم يمتلئ زيفا وتزويرا وفسادا لما لا تتواطأ المرآة فيه وترتكب في حقي جرم زيفها وتزييفها، فلا يعقل أن يحلّ بي هذا الشكل البغيض دون أن يكون لها يد في ذلك. ضحكت من قدرتي على الإسقاط وإن تجاوز بمنطقيته حدود العقل، فما أنا بحقيقته الآن يذهب العقل والاتزان.
وأنا أدلف من تلقاء نفسي مدخل أحد المحال وقد لفت نظري أحد أثوابها المعروضة، كافية بذلك على التاجر المرابط أمام باب المعرض لسأم الكساد عرض الدعوة بالدخول، وكنت قد اتخذت في سري قرارا، أن يكون معرضه آخر محاولات بحثي، ورحت أقلّب مجموعة الأثواب المصطفة على معلّق معدني، فيما البائع يصرّ أن يقحم دوره في اختياري. اقترب مني متسائلا:
"هل أستطيع أن أسألك طلبك؟"
نظرت نحوه ببرود من تعطي الإجابة مرغمة وقلت: "أبحث عن ثوب يلائمني ويعجبني تصميمه."
"هل أستطيع مساعدتك في الاختيار سيدتي؟"
ضقت ذرعا بعرضه فأنا أبحث منذ فترة عما يلائمني ولم أقتنع بشيء مما في السوق، وهو يظن نفسه ساحرا يخترق عقلي في لمحة سريعة ليتعرف مزاجي وذوقي وحاجة جسمي، كدت أتسرع الرد وأطلب إليه أن يتركني وشأني وأعده باللجوء إلية إذا ما وجدت حاجة لذلك، لكني عزفت عن ذلك لسبب لا أدري كنهه، قد يكون ذلك لتساقط أملي بوصولي أصلا لقرار التوفيق في مرادي، فرددت
"أريد ثوبا رسميا محتشما بلون هادئ، ولكن أستميحك عذرا فأنا أشك في قدرتك على الاستدلال على نوعية ذوقي في التصميم."
رد بثقة مستفزة وهو يتجه نحو معلّق في الناحية الأخرى، ويتناول ثوبا جنزاريا بيده اليمنى، وباليسرى يفرد ذيله ليتبدى أمامي التصميم، هززت رأسي بالرفض وقلت:
"لا أرجوك إنه كبير الحجم ولونه مغّم."
"ولكني أرجوك أن تجربيه فنحن لا نجني ربحا من خلال التجربة."
تناولته باستياء وهممت بدخول صندوق القياس السقيم وأنا أقول: "أرغب أن أجرب الثوب اللؤلؤي المعروض في الواجهة الزجاجية."
استفزتني حركته وهو يتوجه نحو المعلق ويتناول ذاك الثوب، فقد بدت ترجمة حركته وتعابير وجهه وكأنه غير مقتنع باختياري، الأمر الذي جعلني أجرب الثوب الذي اخترته قبلا نكاية به، ليصفعني ما بدوت عليه من قبح وعجبت أن هذا اللون وهذه التفصيلة كانت تلائمني بصورة مذهلة بالسابق، بينما فاجأني الثوب الآخر الذي لملم اكتنازات جسمي في لونه وتفصيلته فبدوت أقل سمنة واكتنازا، فقد أخفى الثوب ما أكره وأبدى ما أحب، وانعكس لونه بارتياح على لون بشرتي.
أزعجتني نظرة الفوز التي استشعرتها في عينيي البائع، وأنا أقدم الثوب إليه سائلة عن ثمنه برغم ما اجتاحني من حرج، لا أدري أهي نظرة انتصار لقدرته على إقناعي بالشراء، أو تشفي من انتصار ذوقه على ذوقي، ليس ذلك مهما على أي حال طالما وجدت ضالتي بالثوب، وسأعود إلى منزلي مكللة بالتوفيق.
سحب البائع حقيبة ورقية من زاوية خلفه ودس الثوب مطويا داخله وهو يقول:
"لا شيء يغلو عليك، اكتفي منك بمئة وأربعين دينارا."
شهقت وأظهرت دهشتي، وتمنعت عن دفع الثمن الذي لم أتوقعه، وطالبته بحسم قدر من سعره المرتفع، وأخبرته أن السوق يمتلئ بمثله وبسعر ينقص عن ذلك بخمسين دينارا.
لم ينبس بكلمة واكتفى بهز رأسه وهو يشير بإصبعه نحو إعلان كتب عليه "السعر محدود."
لم تقنعني إشارته، ولم أصدق فحوى العبارة المعلقة، وأصررت بعناد غبي على الخصم، ورحت أحدثه عن الأثواب الأخرى وسعرها المغري، وهو يقف قبالتي ببلادة عجيبة وابتسامة مستفزة، وبذات البرود اكتفى بقوله:
"آسف سيدتي لا مجال للتخفيض وذلك حسب قانون المحل."
أصر البائع ألا يتزحزح عن سعره قيد أنملة، وأصررت ألا أتزحزح عما طالبت به من تخفيض، وباستفزاز أقصى البائع الثوب إلى موقعه على المعلق، وبذات الاستفزاز أقصيت مالي داخل محفظتي، وهممت بالخروج وقهري يثقل جيوبي، إنما بخطوات من تنازعه فكرة عدم التخلي عن الثوب.
كان جميلا حين ملأه جسدي، وكأنما أعدّ لي خصيصا، ناعما في احتكاكه ببشرتي، منهدلا على امتشاق قامتي، يخفي ما أظهرته السمنة من عيوب، تستريح العين للونه وتصميمه، يعكس انطباع الاحترام والاتزان. وقع عليه اختياري بعدما أضناني الطواف على الأسواق والمتاجر، وجدت به ضالتي بعد جهد جهيد وبعد تكرار لرحلات التسوق، واقتنع عقلي بمواصفاته، فهل بعد ذلك أتخلى عنه بهذه البساطة؟
التفت نحو البائع لألقي اقتراحا مقبولا يرضي طرفينا، بحيث يتلاقى السعر بين عرضينا، فلا أكون منهزمة ولا مهزومة، وأمنح نفسي لذة الاقتطاف ونشوة الانتصار، لأفاجأ بالثوب بين يدي امرأة يرتسم الإعجاب على ملامحها، حينها غامت روحي بين شعب ضبابية، وجثا الصقيع على كياني،
لا. ليس بعد أن اهتديت إلى ما أرتاح إليه، ووجدت ما أرغب بشرائه، وماذا ينفعني عنادا يزرعني بعد ذلك قهرا.
فسارعت إليها، واستأذنتها كوني كنت أساوم البائع على شرائه، وقدمته إليه دون حتى أن أكلف نفسي مهمة محاولة قراءة دهشة المرأة أو فرحة البائع، ليعيده إلى الحقيبة الورقية ويدي تخرج كامل ثمنه دون أيّ تردد، بل وأنا أحمل نفس مشاعر الانتصار.
◄ هيام ضمرة
▼ موضوعاتي