عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

عباس علي عبود - السودان

مرافئ السراب (*)


(*) أحد فصول رواية بهذا العنوان. الفصول الأخرى تنشر تباعا في الأعداد القادمة. يمكن الرجوع إلى فصول أخرى نشرت في الأعداد 14 و 23 و 33 و 34.

.

هل كان صدرُك حامضا

ويداك أشرعةُ الرحيل؟

جسدان في أوج الصهيل

جسدُ القصيدة والمطر

بين قمع الجسد في الشرق وامتهانه في الغرب، تضيع ملامح الحرية، ومشروعيتها. حضارة الآلة تستبيح الجسد؛ تهندس المدن والأفكار لصالح السوق. بينما يعمل أساطين الظلام في الشرق، على إقصاء الجسد، كمقدمة لمصادرة العقل؛ والعودة إلى أقبية التاريخ. وبين القمع والامتهان، يضيع حق الجسد في الطعام والصحة، وحق العقل في التعليم، والتفكير الحر. معظم البشر على وجه البسيطة، يلفهم إخطبوط الفقر المدقع، والجهل، والمرض، تحت سمع شركات العولمة، وبصر القنوات الفضائية.

عباس علي عبودانهمك طارق عبد المجيد في التحصيل، يلازمه الأمل في عودة ناتاشا تومانوفا، أو وصول رسالة منها تخبره بأحوالها الصحية. هائم على ضفاف النيفا، غرّد بوجدانه نغم حائر. قادته خطواته إلى امرأة ساهمة في البعيد. هسهست بوجدانه جذوة العناق، فداعب طفلتها قائلا:

"إنها جميلة."

"وذكية كذلك. انظر إلى عينيها."

"لونها جميل."

"جميل ربما عندكم، ولكنه غريب في هذه البلاد."

تجاذبا أطراف الحديث والطفلة السمراء تمرح بينهما. رشقته بنظرة حائرة، ثم قالت في نفسها: طفلتي جميلة ولكني أخاف عليها.

ترافقا يُضمّد كلّ منهما جراح الآخر. وكأنها مرفأ أخير، يلتقط عنده بقايا الأماني، والذكريات. إيلينا ماروزفا حاولت صادقة أنْ تنفخ في روحه طاقة جديدة، عسى أنْ تنعش آمالهما الخابية.

قالت له: "لست مسؤولا عن شقائي، يمكنك الانصراف وقتما تشاء."

طيف عابر راود خيالها ثم نقّر صدرها، فقالت في نفسها: ما هو وجه الشبه بين زوجي وهذا الشاب؟ كان زوجي يبدو مهذبا، أنيقا، منفتحا على الدنيا. لكنه آثر الهروب وتركني وحيدة مع ابنته الرضيعة. هل سيعود يوما ما؟

طاف بخيالها وجه أبيها بعد عودته من سيبريا. كانت في التاسعة من عمرها، بدا لها حينها رجلا غارقا في الصمت. أمها حدثتها كثيرا عنه. قالت إنه آمن بإمكانية انتصار الإنسان، ولكنة ضاع نتيجة لظلم حاق به من قبل زملائه في الحزب، وفي النضال.

كانت الأم تصمتُ أحيانا وكأنها لا تريد الكلام عنه، لكن شيئا ما كان يرغمها. كانت تبدو خائفة ومتردّدة. وحينما سألت إيلينا أمها: "هل عاد أبي من سيبريا طبيعيا؟ وهل فقد إيمانه بالاشتراكية؟"

راوغت الأم في الإجابة لكنها سرعان ما أشارت من بعيد إلى إنه ربما فقد عقله، ثم أضافت: "عاد أبوك من سيبريا رجلا غير الذي عرفته، ورغم هذا لم يتركوه لحاله. بعد شهور من عودته على حافة الذهول اختفى، هكذا كطيف عابر."

والد إيلينا درس هندسة الماكينات الزراعية في موسكو، ثم عمل تسع سنوات في الحقول الجماعية. وذات صباح تمّ استدعاؤه إلى لجنة المحاسبة الحزبية. خاطبه رئيس اللجنة بصوت جاف:

"لقد وصلتْ عدة شكاوى ضدك أيها الرفيق."

"أعرف."

"إذن لماذا لم تغيّر سلوكك؟ إنّ التقارير الأخيرة تشير إلى إنّك بدأت في تحريض العمال على التقاعس عن العمل."

"لم أحرضهم على شيء."

"وماذا فعلت معهم؟"

"تشاورنا في أمور العمل."

"وما هي مهنتك؟"

"مهندس زراعي."

"هل تؤدي عملك بأمانة وإخلاص؟"

"نعم، قدر استطاعتي."

"ومما تشكو؟"

"يقولون إنّ الذين يتجسسون على العمال يتقاضون رواتب أكثر، وحوافز."

"ومنْ قال ذلك؟"

"الجميع يتهامسون بذلك، ولكن لا أحد يجرؤ على الجهر به."

"المراقبة ضرورية لإنجاز الثورة الزراعية والتحول الاشتراكي."

"العمال يكدحون لمصلحتهم أليس كذلك؟"

"نعم."

"إذن لماذا نراقبهم ونراقب من يراقبهم؟"

"الإدارةُ علم وانضباط أيها الرفيق."

وكان مصيره النفي إلى سيبريا. ذات نهار ساكن حطّت طائرة مروحية وسط الثلوج الشاسعة. تراكمت الغيوم في السماوات القريبة. فتحوا أبواب منزل من حجرتين وصالة ومطبخ، وأدخلوا المؤن. خلعوا معاطف الشتاء الصوفية الثقيلة وأشعلوا مواقد التدفئة، ثم تحلقوا حول مائدة عامرة بالخمر والطعام. احتسوا كأساتهم على مهل، وقالوا له:

"سنترك لك عددا من زجاجات الفودكا. ثم أضافوا: خشب التدفئة يكفي حتى الصيف. نهارا يمكنك التجوُّل حول المكان، وعند حلول الظلام أغلق الأبواب بإحكام، وأسدل الستائر، فلا أحد يدري ربما تمرُّ الدببة من هنا."

تركوا على المائدة شرائح اللحم المشوي، وقطع البطاطس المسلوقة، وزجاجتي فودكا. تركوا له كمية من البطاطس والدقيق والزيت، وقالوا إنها كافية لحين عودتنا بعد شهرين، ولكن عليك الاحتياط فقد نتأخر. تركوا له أقلاما وأوراقا وقالوا:

"أكتب اعترافاتك كاملة، وكلّ ما تعرفه عن الخونة، والمتقاعسين، فنحن لا نطلب شيئا سوى الحقيقة."

ودّعوه مبتسمين وانصرفوا. تركوا الأبواب مشرعة وسط الثلوج الشاسعة. تابع صوت المروحية يهدر في البعيد. تركوه وحيدا في أعماق سيبريا. كان أول ما فعله بعد مغادرتهم هو تفقد أخشاب التدفئة، وقال في نفسه: حجرة مليئة بقطع الأخشاب، هل تكفي حتى الصيف كما قالوا؟ سأتدبر أمري معها، ولكن هل يكفي ما تركوه من طعام لشهرين؟ ومتى سيعودون؟ أم أنهم سيتأخرون؟ وكم من الوقت؟

قبع يتأمل قدميه واللحظات تمرُّ بطيئة عنيدة. وقال في نفسه: يعملون لصالح الدولة كما يقولون، ولكن ضد منْ؟ منْ يحكم هذه البلاد؟ ولصالح منْ؟

عندما بدأت خيوط الظلام تتناسل، دار حول المنزل متطلعا إلى مساحات الثلوج الشاسعة. ريح باردة تهبُّ من الشمال. أوصد أبوابه وأسدل الستائر، ثم أوقد شمعة صغيرة، وقال في نفسه: لن أكتب شيئا، لأنهم يعرفون ما يريدون. أرادوا إبعادي عن زملائي، ولكن مما يخافون؟ إذا كانت الثورة ثورة العمال، والدولة دولتهم، فلم يحاصرونهم، ويراقبونهم، ويخافون منهم؟ منْ يحكم من؟

خيّم الظلام الدامس والشمعة تزداد توهجا. سمع صوتا يأتي من بعيد، وربما توهّم، وقال في نفسه: ليلتي الأولى هل ستمرُّ بسلام؟

مرة أخرى عاد يناوشه السؤال عن كمية الطعام الموجودة، وكيف سيتصرف فيها. وقال في نفسه: إنهم لا يريدون قتلي، فلو أرادوا لفعلوها ولا أحد سيحاسبهم. هل للإنسان قيمة في هذه البلاد؟ زوجتي وطفلتي ما مصيرهما؟ هل ستذهب زوجتي إلى لجنة الحزب لتقديم شكوى؟ وهل تمّ استدعاؤها وإبلاغها بما حدث؟ لقد نصحتني دوما أنْ ألزم الحيطة والحذر، فالجواسيس في كل مكان. كم مواطن ضاع ولا أحد يعرف عن مصيره شيئا!؟ لماذا يخاف هؤلاء الحكام؟ ألم يقولوا لنا إنّ رأس المال اندحر في هذه الجمهورية الفتية، مرة وإلى الأبد، ولأول مرة في تاريخ البشرية؟

تمضي اللحظات ثقيلة وترتفع وتائر الحيرة والقلق، وبراعمُ غبن تعتمل في صدر خافق بالأسئلة. ما جدوى حياة الإنسان تحت مطرقة الخوف؟ حين خفقت الشمعة، همّ بأنّ يوقد واحدة أخرى، لكنه واصل مراقبتها وهي تقاوم حتى انطفأت بعد محاولات لإضاءة أطول. وقال في نفسه: هل أوقدُ شمعة أخرى؟ وكيف حال زملائي في سجون المدن التي قالوا إنها حرة. إنهم أبناء الكولاك، وأصحاب الرتب العالية، عادوا مرة أخرى للتحكم في البشر. إلى أيّ مصير يسير الإنسان؟ وإذا لم تكن هنالك عدالة في السماء كما يقولون، فمنْ سيدفع ثمن أخطاء الأرض؟ وهل ضاعت هدرا، تضحيات الملايين، عبر السنين؟

يتوغل الليل وصدره محتقن بالهواجس. وقال في نفسه: هل سيتركون زوجتي وطفلتي؟ منذ اعتقالي انقطعتْ أخبارهما عني. كانت إجابتهم واحدة عندما أسأل عنهما: "لا تقلق". كلّ منْ سألته عنهما أجاب بكلمة واحدة. حارس الزنزانة وضابط الاستجواب، وحتى قائد الطائرة المروحية، حين سألته ونحن نغادر الطائرة إلى هذا المنزل، أجاب بنفس الكلمة: "لا تقلق." هل اتفقوا عليها أم إنها مصادفة؟ هل هو منهج لتعذيب البشر؟ لست أدري. وكيف لا أقلق؟ أم إنهم أرادوا زيادة قلقي وهذا ما حدث.

يتوغل الليل. تمضي اللحظاتُ طاحنة والقلق يجوس في دماغ ثمل بالأفكار المضطربة، ويتململ بين الضلوع. وقال في نفسه: ما معنى هذا ولصالح منْ؟ بعدما روجوا بأنّ طبقة الرأسماليين تعفنت، ومصيرها المحتوم هو مزبلة التاريخ، ظلّوا يحكمون باسم الكادحين. تُرى إلى أين يقودون المجتمع؟ ومتى ستعصف بهم رياح التاريخ؟

يتوغل الليل وتحتدم الأحزان وهو جالس على مقعد خشبي يتأمل النيران تتوهج في المدفأة. ثم قال في نفسه: هل أنهض لأنام أم أنني أستطيع النوم متى ما أشاء، فهناك متسع من الوقت. طلبوا مني كتابة اعترافاتي. لقد قلت لهم كل ما أعرف وهم متأكّدون من ذلك.

أوقد شمعة ثانية ثم استدار إلى الطاولة وكتب:

الليلة الأولى، ظلام دامس. متى يشرق الصباح؟

وضع القلم وصبّ لنفسه كأسين من الفودكا. التهم قطعة من اللحم والبطاطس، ثم بدأ في تنظيف المائدة. وضع شرائح اللحم والبطاطس في إناء واحد وغطاه. مسح الطاولة ثم صبّ لنفسه كأسا ثالثة واتجه مرة أخرى إلى المدفأة. حين حاصره الملل، وتصاعدت بصدره الهواجس، أطفأ الشمعة، اندس في فراشه وتدثّر. كانت الحجرة دافئة لكن زمهرير الليل يعوي في الخارج. حين سمع طرقا على الباب الخشبي السميك قال في نفسه: إنها الريح.

أوقد الشمعة مرة أخرى، ثم دار حول المائدة منصتا. هل يفتح الباب؟ عاد إلى الفراش. همّ بالنهوض لإطفاء الشمعة، لكنه قال في نفسه: دعها تنطفئ لوحدها.

قام إلى المدفأة ورمى بداخلها قطعتين من الخشب، وانتظر يراقب اشتعال اللهيب. وقال في نفسه: يوما ما سينتصر الحق ويتحرر الإنسان الباحث عن الخبز والحرية. من الواضح إنّ هنالك قوة تحكم الكون، وإليها سوف تعود خيوط العدالة. هل يمكن أنْ تمضي البشرية هكذا بلا دليل، أو هداية؟ أكلما ظهر نبي، أو فيلسوف، أو زعيم، ذهبت أقواله أدراج الرياح، وتحكّم الظالمون في مصير الإنسان؟ وما معنى الحياة بلا كرامة، ولا عدالة؟ نعم هنالك قصاص، ومستقبل آمن ينتظر الأجيال القادمة. ولكن متى، وكيف؟

يتوغل الليل. اللحظاتُ مريرة والغبن ينهش بين الضلوع. جمح خياله إلى عوالم أخرى. كوّن في أحلام اليقظة مجتمعا فاضلا، بلا أكذوبة. مجتمع لا مكان فيه للقتل أو التجسس. القانون هو سيّدُ الجميع. عاد من مدينته الفاضلة بسؤال مبرح: ومن ينفذ القانون، لا بدّ أنْ هنالك خلل ما.

صارع الكوابيس في نوم متقطع. أحلام غامضة عصفت بدماغه فاستيقظ قبيل الصباح. ظلّ على فراشه يحاول تجميع خيوط أفكاره المشوشة. نهض من الفراش. تناول قطعا خشبية ورماها داخل المدفأة. لبس المعطف الشتوي الثقيل، والحذاء الجلدي السميك، ثم وضع الشابكا على رأسه. فتح الباب وانسلّ إلى الخارج. تنفس عميقا الهواء البارد، بينما ضوء الصباح يغمر المساحات البيضاء الشاسعة بلا حدود.

D 1 نيسان (أبريل) 2009     A عباس علي عبود     C 0 تعليقات