عــــــود الـــنـــــــد

كان اكاكي اكاكيفيتش يسير في اشد مشاعره ابتهاجا واحتفالا. وكان يحس في كل ثانية من الدقيقة أن على كتفيه معطفه الجديد. وضحك بسخرية عدة مرات خلسة، من فرط سروره الداخلي. ففي الواقع فائدتان: الأولى كونه دافئا والأخرى كونه جيدا.

لم يكن صاحب المعطف هذه المرة غوغول بل كانت السيدة أم راضي، التي كانت "تسير في اشد مشاعرها ابتهاجا واحتفالا. وكانت تحس في كل ثانية من الدقيقة أن على كتفيها معطفها الجديد. وضحكت بسخرية عدة مرات خلسة، من فرط سرورها الداخلي. ففي الواقع فائدتان: الأولى كونه دافئا والأخرى كونه جيدا."

القصة بدأت عندما كانت في زيارتها الأولى إلى مدينة حماة. كانت تحتسي الشاي بالنعناع رفقة الزوج بينما طلب الأبناء الحلويات السورية الشهيرة. كانت تتأمل النواعير القائمة مباشرة أمام مقهى فندق أفاميا الشام. انتهت للتو من رسم صورة متواضعة للنواعير بقلمها الرصاص، التي ظهرت خلفها مئذنة أحد أقدم المساجد في حماة.

وبينما (تعارك) الأبناء فيمن له الأولوية للحصول على هذه (الرائعة) الفنية، تجاوزت سيدة أمامها بمعطف جميل. تابعت السيدة أو حتى تابعت المعطف الأنيق وهو يمشي الهوينى على أنغام نواعير نهر العاصي. لاحظت أدق التفاصيل: المعطف واسع، اللون رمادي فاتح، الأكمام أنيقة تنتهي بازرار بلون مماثل. أضفت الياقة العسكرية المزيد من الفخامة على المعطف الذي يصل لحد الركبة. (سأسأل السيدة من أين ابتاعت معطفها).

قفزت وسط احتجاج الأولاد والزوج وعبارات التقطت منها: "عيب. لا تعرفين السيدة. جننت؟ مش معطف فرو المنك."

قفزت أمام السيدة: "معطفك جميل ورائع، هل يوجد مثله في حماة؟"

وضعت السيدة بكل فخر كلتي يديها على ياقة المعطف إما تعظيما وتبجيلا أو الاحتمال الثاني: خوفا من خطفه أو حسده: "نعم، هناك مخزن كبير في نزلة الرضوان."

"شكرا لك سيدتي."

وإلى نزلة الرضوان توجهت والأسرة بكافة أفرادها لابتياع المعطف.

عند عودتها للوطن من إجازتها السورية، ارتدت معطفها العزيز وتوجهت إلى منزل والديها للسلام وتقديم (خيرات الشام) من مكسرات طازجة وفستق حلبي وفاكهة مجففة وبقلاوة وهريسة النبك و... و...

تم تبادل القبلات والتحايا واختارت مقعدا واسع للجلوس استعدادا لتلقي الإعجاب بالمعطف الجديد. مرت الدقائق وانتهت الساعة الأولى. أحست بالعطش فنهضت لتشرب كوب من الماء.

"جبة راعي،" سمعت صوت الوالد. "من أين لك جبة الراعي هذه؟"

تلا ذلك ابتسامة وقهقهة فيما نسيت كوب الماء واستبدلته بشعور القهر:

(معطفي الجميل الأنيق يشبه معطف راعي الغنم! مع احترامي لجميع رعاة الأغنام وحتى رعاة قطعان الرنة في القطب الشمالي، فإن معطفي لا يشبه أبدا معاطفهم. لماذا يا والدي العزيز؟)

لم تنتظر دخول المنزل كي تخلع معطفها الجميل. خلال دقيقة واحدة تم نفيه إلى خزانة الملابس (غير النشطة)، أي بكلمة أخرى الملابس القابلة للارتداء في يوم ما او الواقعة تحت خانة (للتشحيد).

ودارت الأيام، وطالت شجرة الحور لتصبح أعلى من شرفة غرفة المعيشة. وفي يوم بارد استدعت أم راضي لتساعدها في الأعمال المنزلية كعادتها كل أسبوع.

انتهت أم راضي من العمل وارتدت رداء خفيف لا يحمي أبدا من قر (الأربعينية).

تذكرت معطفها الجميل. ومع ابتسامة مقرونة بالعتب على الوالد قدمت المعطف للسيدة أم راضي:

"شكرا سيدتي، كم هو جميل! في الواقع كنت أنوي شراء معطف بهذا اللون لابنتي العروس من سوق البالة (*).

(وهبط اكاكي السلم وتلاشت عنه ذاكرته ووعيه ورمت به رياح بطرسبيرغ في فراش الموت الذي استدركه مسرعا ورمى به إلى حتفه).

هبطت أم راضي السلم سعيدة وهي تجمع ذاكرتها ووعيها للقاء العروس، وساقتها برودة عمان في أواخر شهر كانون إلى المخيم لتضيف قطعة أخرى إلى جهاز ابنتها.

النتيجة: معطفي اسعد حالا من معطف غوغول، ومن الممكن أن يعيش الفقير أوقاتا سعيدة أكثر من تلك التي يعيشها الغني (بالنظر إلى السعادة العارمة التي اجتاحت أم راضي عندما ارتدت المعطف).

وبعيدا عن مقولة (إننا كلنا خرجنا من معطف غوغول) والشرائح المهشمة في المجتمع وهموم البسطاء والصراع الطبقي وإحباطات الإنسان:

قال تعالى: "وَلَوْ بَسَطَ الله الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ." (سورة الشورى. الآية 27).

وقال تعالى: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ." (سورة هود. الآية 118).

صدق الله العظيم.

= = =

البالة: تعريب للكلمة الإنجليزية (Bale)، وتعني رزمة كبيرة (من القطن مثلا).

سوق البالة: سوق للملابس المستعملة تستورد في رزم.

الأربعينية: مشتقة من العدد 40. يعتقد الناس أن في فصل الشتاء أربعين يوما هي الأبرد.