خالد سامح - الأردن
الفراغ (*)
انطلقت سيارة التكسي في عمق الظلام تسابق السكون الذي يمتد بكل الاتجاهات. الأرصفة فارغة تماما من المشاة، والأشجار العارية بدت ككائنات أسطورية متشنجة من شدة البرد. فجأة قال السائق:
"وين بتشتغل بلا زغرة؟"
ردّ وعيناه محدقتان في الخارج:
"أنا صحفي."
"آها. مهنة المتاعب مثل ما بنسمع."
لم تكن لديه تلك الرغبة في مسايرة السائق والدخول معه في نقاش يطول ويستمر على امتداد الطريق. وكالعادة مع كل السائقين يبدأ الحديث بسؤال عن المهنة، فتتوالد أسئلة أخرى حتى الوصول لباب منزله متناولةً العمر، والحالة الاجتماعية، وعدد الأولاد وما إلى ذلك. صمت السائق لثوان ثم قال:
"كيف الراتب؟ إن شا الله كويس؟"
ردّ عليه وهو يشعل سيجارته بضجر واضح: "ماشي حاله."
تابع السائق أسالته ذات الصبغة التحقيقية:
"متزوج؟"
"لا."
"ليش؟ كم عمرك؟"
"أربعين."
أربعين سنة ومش متزوج؟ حرام عليك يا رجل. متى رح تشوف أولادك؟"
"ا لله كريم."
"ساكن مع أهلك أكيد؟"
"لا والله عايش بشقة لحالي."
"بصراحة يا أخي أنا بتعجب من الناس اللي مثلك، حياتهم كلها فراغ. لا زوجة، ولا أولاد، ولا واجبات. صحيح الزواج مسؤولية وتعب، بس كمان الحياة في الفراغ مش حلوة. "
قبل أيام كان يستهزئ مما قاله صديقه له حول سائقي التكسيات حين أشار إلى انهم باتوا يشكلون خطرا على حياتنا الشخصية، وأعاد ذلك إلى أسئلتهم المتكررة التي تنتهك خصوصيات الراكب عنوة. الآن يدرك صحة ما ذهب إليه الصديق. لم يعد يطيق الإجابة عن أي من الأسئلة المتدفقة دون توقف. رغب للحظة أن يأمره بالوقوف والتقاط تكسي آخر. هالته ظلمة الشوارع والبرد القارس المتسلل من زوايا الزجاج، فآثر ان يتحمل لدقائق شهوة السائق الجامحة للثرثرة وطرح مزيد من الأسئلة والاستفسارات حتى وصوله إلى منزله.
تنهد السائق فجأة، وبنبرة وعظ تمتم قائلا: "يا سيدي، الله يبعثلك بنت الحلال ويرزقك بأبناء يملوا عليك حياتك."
لم يرد ولو حتى مجاملة. بقي الرجلان صامتين حتى نهاية المشوار.
عندما فتح باب الشقة، باغتته رائحة الرطوبة. أشعل الضوء. لا شيء سوى وطأة الفراغ والبرودة المنبعثة من السقف والجدران والصحف المتناثرة على المقاعد والطاولات والتي لملمها على عجل متقززا من رائحتها التي باتت تشبه رائحة العفن. ألقى بتعبه وضجر يومه الطويل على الكنبة المركونة في زاوية الصالون الصغير. بدأ باستعادة كلام السائق. توقف عند حديثه عن الفراغ والحياة التي تملأها الزوجة والأولاد.
لم تكن المرة الأولى التي يسمع فيها مثل ذلك. قبل أيام قالت له زميلته بالعمل وبلهجة الأخت الحنون: "يا أخي لمتى رح تبقى بدون زوجة ولا أولاد؟ بصراحة، ولا تزعل مني، حياتك فارغة وبدون معنى."
كذلك الأمر حدثه عمه العجوز الذي زاره قبل أسبوع عن شيخوخة لا ترحم، وعن صعوبة الحياة بدون ولد يقدم له حبة الدواء وكأس الماء إذا مرض و ... و ... و ... إلى آخر درس الوعظ والإرشاد ذي الإيقاع الرتيب، الذي يبتلعه بصمت وملل كل يوم.
وبالنسبة لصديقه الثري الذي تجاوز الخامسة والثلاثين ولا زال يعيش كطفل مدلل فدوافع الزواج والإنجاب مختلفة. سأله في آخر مرة التقيا فيها عن قراره المفاجئ بالزواج فرد:
"يعني بعد ما أموت لمين رح اترك كل هالفلوس والعقارات؟ يا صديقي لازم يكون لي وريث من صلبي."
صدم بما سمع، فلم يتوقع يوما أن رمز اللهو واللامبالاة بالنسبة له يفكر بذلك الأسلوب (الناضج). إلا أن بعض زملائه ينصحونه من منطلق ديني فيحاولون تذكيره بأن الزواج نصف الدين وحماية للإنسان من هوى النفس وشهوات الجسد وشرور الإملاءات (الشيطانية).
كل ما استعاده دفعه للتساؤل في تلك الليلة عن سر اهتمام الجميع بقضية زواجه: لماذا هم حريصون عليه ألا يبقى في الفراغ، كما يسمونه؟ لم يشتك إليهم يوما. لم يبد أي رغبة في أن يشاركه الآخرون قراره، ولم يحاول هو طوال عمره أن يتدخل في شؤونهم الخاصة.
الوقت موحش والليل ككأس مليئة بدواء مر تجرعها بقرف حتى التفت إلى الساعة التي أشارت للثانية فجرا. قام وأشعل التلفزيون كي يطرد بعضا من فراغ ليلته. صوت إحدى الشخصيات السياسية كان مرتفعا للغاية وهو يحذر من الفراغ الذي قد تغرق فيه البلاد. انتقل إلى قناة أخرى. كانت تبث برنامجا حواريا مع راقصة وفي أسفل الشاشة التقط كلمة الفراغ. تكررت عدة مرات: الفراغ الأمني. الفراغ السياسي. الفراغ الاقتصادي. لم يلحظ أي ذكر للفراغ الذي يتهمونه به. ضحك وألقى بجثته على الكنبة. ضم فراغه إلى صدره ونام.
= = =
(*) إحدى القصص المنشورة في مجموعة صدرت مؤخرا بعنوان نافذة هروب. الناشر: دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع، عمان-الأردن (2008).
◄ خالد سامح
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ