عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

خالد سامح - الأردن

نافذة الهروب


خالد سامحاتكأت على حافة النافذة المطلة على عدد من المنازل ذات النوافذ المسدلة الستائر. عندما انتبه لي صاح بي:

"أرجوك ابعد عن الشباك، بلاش مشاكل مع صاحب العمارة والجيران."

سألته: "ولماذا يحتج صاحب العمارة أو الجيران على وقوفي بالشباك؟"

ابتسم باستهزاء وقال: "حفاظا على الأعراض وعورات البيوت."

تابع وعيناه على شاشة الكمبيوتر: "قبل ما نوقع عقد الإيجار اشترط علينا صاحب البيت ألا نرفع صوت التلفزيون أو الراديو وألا نصدر أي إزعاج، وان نراعي حرمة العائلات الساكنة حولنا كوننا طبعا غريبين وعازبين."

قلت: "إنها شروط قاسية. أمعقول أن تستمروا بالالتزام بها؟"

رد بضحكة واثقة: "من قال لك إننا سنظل في عمّان على طول، بالنسبة لي على الأقل؟"

تذكرت أنه سيلتحق بخطيبته الأميركية التي تعرف عليها عبر الإنترنت قبل أشهر. سألته ماذا حصل بالنسبة للفيزا، رد بالتأكيد أنها ستكون جاهزة وفي حوزته قريبا، وأن ليس باقيا سوى بعض الإجراءات الروتينية البسيطة بعدها يسافر إلى آخر الدنيا: أميركا، أرض الأحلام التي ستنسيه كل معاناته، وتريحه من التشرد المرير، والمنازل ذات الشروط الأخلاقية، والنوافذ الممنوع الاقتراب منها. قال كل ذلك بسخرية مريرة.

ذكرني حاله وحال آلاف الشباب العراقيين الذين توافدوا إلى عمان في أعقاب ربيع بغداد الشهير عام 2003 بما قرأته للشاعر العراقي المهاجر فرج الحطاب في إحدى قصائده، حيث جاء فيها:

هل كانت بغداد كافية

لرسم حياتنا ...؟

الشوارع ما زالت مطبوعة بالطين

والحياة

بينما عمّان – نافذة هروبنا –

تبصقنا إلى ما وراء المحيطات

بلا رغبة،

بلا وداع،

أو حتى عناق مخادع

في زاوية الغرفة تلفزيون قديم يعود طرازه إلى خمسة وعشرين عاما على الأقل. حاولت تشغيله ولم أفلح. نهض من خلف جهاز الكمبيوتر بتثاقل. أدار زر التشغيل بعنف. بقيت الشاشة سوداء لثوان، وفجأة ظهرت مذيعة الأخبار. تابعت النشرة مبتسمة وقالت:

"الخبر الأخير: هددّ تنظيم القاعدة بالعراق بمزيد من الهجمات على مراكز الشرطة العراقية، وأكد في بيان له نشر على شبكة الإنترنت أن جيشا من الانتحاريين موجود الآن داخل العراق لتنفيذ مزيد من الهجمات ضد القوات الأميركية ومن اسماهم عملاء الاحتلال. انتهى الموجز. شكرا لمتابعتكم. نلتقي في نشرة الثامنة مساء."

وبعد لحظات كانت متسابقة برنامج السوبر ستار، ديانا كرزون، تختال بفرح قبالة صخرة الروشة ببيروت داعية جميع المشاهدين للتصويت لها لتفوز باللقب الذي بات حلم ملايين الشباب العربي، وفي أسفل الشاشة تذكير بأن التصويت لديانا واجب وطني، تبعته تعليمات التصويت، وتكلفة الرسالة عبر الهاتف النقال، وما إلى ذلك.

ثم عاد شريط الأخبار الرفيع أسفل الشاشة وكان فيه: "قائد القوات الأميركية بالعراق يعلن أن القبض على صدام حسين بات وشيكا. عشرات القتلى والجرحي في تفجير انتحاري داخل أحد المساجد الشيعية ببغداد. واشنطن تدعو الدول المجاورة للعراق بضرورة ضبط الحدود ... الخ."

صاح فجأة:

"شايف، كل مصايب العراق من العرب. بيقتلوا فينا وبيعتبروا هذا مقاومة. والله كندرة الأمريكي أشرف من رؤوسهم كلهم."

لم أتفاجأ بما قال وأبديت الحياد، وقبل أن يتابع شتائمه قلت مداريا:

"أسامة أرجوك، أنا أتفهم مشاعرك ولكن ما عندي رغبة بالخوض بهالموضوع مرة ثانية. كل ما آجي لزيارتكو بيستهلك منا هالحديث الجلسة كلها."

وفي محاولة للهرب سألته عن تمسكهما بذلك التلفزيون العتيق. رد بالتأكيد على أن وجودهما في عمان مؤقت وتابع:

"أنا رح أسافر عن قريب لأمريكا، ورح أعيش هناك في فيلا كبيرة فيها أكثر من تلفزيون فخم ومتطور. وحيدر، والله ما بعرف عنه. ممكن رح يسافر للإمارات، أو يخطب بنت خاله بالمغرب ويسافر هناك، او ... والله ما أدري عنه. المهم انه ما رح يظل بعمّان، وما رح كمان يرجع للعراق."

حاولت أن أحصي عدد المرات التي قال فيها "رح" و"ما رح" قبل أن أسأله عمّا يفعل مساء، وكيف يقضي أوقاته. قال:

"أبقى للفجر على المسنجر (*) مع خطيبتي بأمريكا، نحكي عن مستقبلنا ونخطط لحياتنا وحياة أولادنا القادمين."

تذكرت أن حيدر أخبرني بأسى قبل أيام أن خطيبته كبيرة بالسن وتجاوزت الأربعين عاما، أي لا فرصة أمامها للإنجاب. فضلت عدم إحراجه بسؤاله عن عمرها وفارق السن الكبير بينهما.

جلت بنظري في جنبات المنزل البائس حيث لا أسرّة يلقون بأجسادهم عليها، ولا مقاعد للضيوف، ولا ثلاجة تسقيهم ماء باردا في الحر الخانق. سألته عن كل ذلك. أحسست أنه تضايق من أسئلتي التي لا تنتهي. أطفأ الكمبيوتر وأدار الكرسي نحوي. بدا في عينيه حزن وضجر لم ألحظه من قبل حيث اعتدت أن أقرأ في عينيه دائما التحدي والإجابات الوقحة. قال:

"كل شي مؤجل. حياتنا كلها مؤجلة."

وأنا أهبط درجات سلم العمارة تخيلتها مشروعا مؤجلا كحياتهم: الأدراج غير مبلطة بعد، والجدران لم تطل. وعندما قابلت حيدر على الرصيف حاول إقناعي بالعودة، فاخترعت مواعيد وارتباطات عديدة ووعدته بأن نبقى على اتصال.

سافر أسامة، وفي كل مرة كنت أقابل فيها حيدر كان يخبرني أنه سيخطب ابنة خاله ويسافر للمغرب، أو يصحبها معه لدبي بعد أن تلقى وعودا بالعمل هناك. وإذا سألته عن رفيقه يجيبني بقليل من الاهتمام:

"عايش في قرية مع زوجته وما بيشتغل لحد الآن. أظن أنه مش مرتاح. شعرت بهالشي من صوته لما خابرني بعد ما سافر بشهر وبعدها ما كلمني."

في ظهر نهار تموزي حار، صعدت العمارة ذات الأربعة طوابق. عندما وصلت للطابق الأخير وطرقت الباب، خرج من المنزل المقابل شاب بدا أنه على أهبة الاستعداد للمغادرة وفي يده اليسرى مغلف أصفر كبير، وصاح وهو يغلق الباب:

"عيوني ماكو (*) أحد. ما كو أحد."

سألته عن حيدر، فأجاب على عجل وهو يهم بهبوط الدرج:

"والله ما أدري. يمكن راح المغرب أو الإمارات. المهم ما أظن أنه بعمّان."

حاولت الاستفسار أكثر. ردّ بعصبية:

"أرجوك أنا مستعجل وعندي موعد مهم بالسفارة الأميركية. مع السلامة."

قلت: "مع السلامة."

= = =

(*) المسنجر: وسيلة اتصال وتخاطب عبر الإنترنت.

(*) ماكو: أي لا يوجد باللهجة العراقية.

D 1 كانون الثاني (يناير) 2009     A خالد سامح     C 0 تعليقات

بحث



5 مختارات عشوائية

1.  الــعــودة

2.  أمسية للقاصة سناء شعلان

3.  الفلسفة في قصائد النثر في غزة

4.  ابن حزم الأندلسي: وريث العشق العربي

5.  قصتان: سيمفونية الجراح + سيدة القصر

send_material


microphone image linked to podcast



linked image to oudnad.net pdf_xive
linked image to oudnad.net/dox