عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

سناء شعلان - الأردن

قراءة في كتاب

قضايا العصر في أدب أبي العلاء المعري لعبد القادر زيدان


سناء شعلانكتاب قضايا العصر في أدب أبي العلاء المعري لمؤلفه عبد القادر زيدان صدر في طبعته الأولى عام 1968 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في القاهرة، ويقع في (383) صفحة من القطع المتوسط. ويستوي الكتاب في مقدمة وتمهيد وثلاثة فصول، وهي: الفصل الأول: الإطار الحضاري لعصر أبي العلاء. الفصل الثاني: قضايا العصر. الفصل الثالث: قضايا علائية. ويتضمن كلّ فصل من هذه الفصول عدة عنوانات تقسم مادة الفصل، وتنبثق عن موضوعـه الرئيس.

التمهيــد

التمهيد معقود تحت عنوان "المثقف والعصر" قضية عامة. وفي هذا التمهيد يحاول الكاتب أن يصيغ تعريفا محددا للمثقف والعصر دخولا في دراسة علاقة أبي العلاء بعصره. ويرى أنّ الثقافة معطى يتلون بلون المعرفة ذاتها، فهناك المثقف دينيا أو لغويا أو بيانيا، أو فلسفيا … الخ. ويرى أنّ الأرضية المشتركة لكل هذه الروافد الثقافية هي أرضية الدين الإسلامي، التي انبثقت منها العيون الثقافية؛ وبذا يكون المثقف الإسلامي هو المثقف الذي يعنيه عبد القادر زيدان في كتابة هذا.

ولا يفترض الكاتب أن المثقف الإسلامي كان منبت الصلة بما قبل الإسلام، بل كان له صلة بالتراث الجاهلي، ولكن في الحدود التي فرضتها الرّؤية الإسلامية، وبما سمح به أن يظل متداولا من تراث جاهلي بعد ظهور الإسلام.

أما في تحديد الكاتب للعصر، فإنه لا يقف على فترة حياة عصر أبي العلاء المعري التي تحدد بمولده حتى وفاته (363 - 449 هجري)، بل يشير إلى أنّه من الأسلم أن يكون العصر المرصود بالدراسة ممتدا على اتساع القرون التي سبقت مجيء أبي العلاء.

ثم يدلف الكاتب إلى طبيعة العلاقة بين المثقف الإسلامي وعصره، في محاولة لفهم طبيعة الصلة ودورها في مسار الثقافة الإسلامية.

وهو يجنح إلى التعريف الذي يرى أنّ العلاقة بين المثقف والسلطة تتسم بالعقوق، عقوق المثقف (الابن) تجاه عصره (الأب)، وهو عقوق يقصد به التّمرد على مواصفات العصر ومعايير بغية الوصول إلى ما هو أرقى وأرفع في مدارج الرّقي والرّفعة التي يتمناها المثقف أو المفكر، لمستقبل الوطن أو الأمة أو العالم الإنساني بأسره.

ولكن الصلة بين المثقف وعصره ليست عقوقا على إطلاقه، وليست في الوقت نفسه محاكاة أو تبعية، إنها علاقة عضوية تقوم على جدلية الأخذ والعطاء، جدلية واعية بتراثها الذي انحدر إليها من عصور سلفت، وفي الوقت نفسه واعية بدورها التاريخي.

والمثقف المسلم - كما يقول الكاتب - كان على وعي بتراثه وعلى وعي كذلك بدوره التاريخي، ولكن تلك الصلة التي تربط المثقف الإسلامي بعصره لم يُكتب لها الاكتمال الحضاري، لأنه لم يزاوج بين المعطيين: معطى الوعي بالتراث، والوعي بالدّور التاريخي.

وهو يضرب على هذا الانفصال الذي كان عليه وعي المثقف الإسلامي أمثلة منها: أن الشّعراء في العصر الأموي قد وعوا تراث الجاهليين وعيا كافيا، ولكنّهم نسوا أنفسهم فيه حتى خيل إلى كل واحد منهم أنه رجعة لشاعر بعينة من شعراء الجاهلية الكبار.

وهذه القطيعـة لا تعني التهوين من قيمة عطاء هؤلاء المثقفين على الرّغم من منازعاتهم المتنافرة، ولكن تعنى سيطرة الثقافة على مقدرات الفكر والثقافة، تتحكم في توجهاتها حتى تبقى في خدمتها لا تحيد.

وهذه السطوة السياسية تصدر من تبادل بين متنوعين أو منهجين: المنهج السلفي والمنهج العقلي، اللذين كانا يتواليان على الهيمنة وعلى السّلطة والفكر في العصور الإسلامية.

القسم الأول:

عقد الكاتب هذا القسم تحت عنوان (الإطار الثقافي الحضاري لعصر أبي العلاء)، وفيه العنوانات التالية:

1. الإطار السياسي:

في القسم الأول من هذا الإطار يتحدث الكاتب عن انقسام الدولة الإسلامية إبّان القرن الرابع الهجري الذي يعده نهاية للدولة أو المملكة الإسلامية، والبداية للعودة بتلك الدولة إلى سابق عهدها قبل الفتح الإسلامي.

ويبدو أن ذلك التمزق الذي أصاب الدولة الإسلامية، والذي أخد صورة انفصالية حين تغلب كلّ رئيس على ناحيته، وانفرد بها، لم يكن وليد ذلك القرن بل أرجعه بعض الباحثين إلى عهد خلافة التوكّل. وقد تضافرت عوامل عدة استند إليها الدارسون في عد مدة خلافة المتوكل بداية ذلك الانحلال، وهي:

انتهاجه العنف في سلوكه مع العلويين، والنفوذ التركي الذي أخذ في الازدياد حتى كانت له السيطرة على الخليفة ذاته، والغزوات الرّومية التي استؤنف نشاطها نتيجة للعنف الذي أخذ طريقة إلى السّلطة الحاكمة في بغداد، فضلا عن العامل الطبيعي، فكانت العاصفة التي اجتاحت مدن العراق كلّه، فأحرقت الزّرع وأتتْ على الضرع، على نحو أدّى إلى انتشار المجاعة، وهلاك الناس.

وقد آذن قيام كثير من الدويلات بانهيار الخلافة الإسلامية وأفول نجمها، فقد قامت دولة العلويين في طبرستان على يد الحسن بن زيد،ثم قامت دولة بني ساسال، ثم دولة سبكتكين في الهند وأفغانستان، ثم دولة الحمدانيين في الجزيرة، والدولة الإخشيدية في مصر.

وقد كتب لأبي العلاء المعري أن يتصل بعدد من الدّول، فقد اتصل مجبرا بالدولة الديلمية التي سيطرت على بغداد وما حولها، ثم اتصل بالدولة الفاطمية التي سيطرت على المغرب ثم على مصر بعد حروب عدة، ثم مدّت نفوذها على العراق، وبلاد الشام وقد حاولت هذه الدولة كثيرا أن تستميل أبا العلاء المعري بأمرها بأن يوهب له من مال بيت مال المعرّة، أو ببناء دار علم له في مصر، ولكن أبا العلاء رفض كلّ ذلك.

وكان من المؤيد في الدّين أبي عمران هبة الله بن داود الشيرازي الملّقب بداعي الدعاة الفاطمي أن يراسل أبا العلاء بضعة رسائل لا غير.

أما الدولة الثالثة التي أظلّت أبا العلاء فهي الدولة الحمدانية، وحديث أبي العلاء عن الشام في عمومه عن هذه الدولة حديث ينضح بالمرارة والألم.

2. الإطار الثقافي:

كان القرن الرابع الهجـري عصر أبي العلاء المعري عصر التقدّم العقلي والرخاء الأدبي، ويدرج الكاتب تعليلات عدة لهذا التقدم، منها: أن كلّ أمير من أمراء الدويلات الناشئة يحاول أن يجعل دولته عاصمة الأدب والعلماء ليتفاخر أمراء الأقطار الأخرى في الثروة العلمية والأدبية، ويجزل العطاء في سبيل ذلك للعلماء والأدباء، كما أنّ القهر السياسي قد وجّه الطاقات المبدعة إلى الإنتاج الأدبي والعلمي، حيث لا تعرض لأموالهم أو حياتهم.

وعبد القادر زيدان وإن كان يورد هذه الآراء مذيلة بأسماء مهمة في عالم الأدب والنقد مثل أحمد أمين وطه حسين، إلا أنّه لا يسلم بها كلّ التسليم، ويرى أنّ الأدب في ذلك العصر كان مقيدا بقيود مصاع الأمراء الذين كانوا يصطنعون الأدباء والعلماء في سبيل توطيد أركان إماراتهم لا غير.

والأدب والعلوم في تلك العصور كانتْ قد خطـت خطوات ريادية تقدمية في مجال حقولها، ففي مجال المعاجم نجد الكثير من المحاولات في إعادة الجمع والتصنيف، كما نجد عند الأزهري في معجمه (تهذيب اللغة)، والجوهري في معجمه (إنتاج اللغة وصحاح العربية).

وفي مجال النّحو والصّرف تظهر حركات توفيقية بين آراء أهل البصرة وآراء أهل الكوفة تتوجت بظهور مدرسة بغداد، وقد تأثر علماء اللغة العربية بالتّراث اليوناني اللغوي، فنراهم يتحدّثون عن تأثير ذلك الاتصال في تعقيد منهج الدّراسة اللغوية، والتنظيم الذي حظيت به المادة موضوع الدرس فضلا عما قام به العالم اللغوي المعروف أحمد بن فارس، فقد قام بتأليف مقدمة في النّحو على غرار (ايساغوجي) التي كتبت بمعرفة علماء اللغة اليونانيين.

وقد حظي علم الصرف باهتمام خاص من عالم شهير هو أبو الفتح عثمان بن جني، فقد قدم للعربية بحثا غير مسبوق في علم اللغة يقوم على دراسة جديدة للاشتقاق اللغوي، ويرى الباحثون أن أهم كتبه في هذا العلم (الخصائص) الذي حاول فيه محاولة رائدة في وضع القوانين الكلية للتصريف.

وقد ظهرت في مجال الأدب قضيتان أثارتا معارك كثيرة بقدر ما أثارتا من معارك، فقد خدمتا البلاغة العربية، والنقد العربي، وهما قضيتان: القديم والجديد، وإعجاز القرآن.

ففي القضية الأولى كان الصراع والصّدام بين من أرادوا أن يخلصوا لتجارب عصرهم، وان يشتقوا معانيهم من الواقع الحضاري الذي كانوا يعيشون في إطاره، وبين من وجدوا أنفسهم مشدودين إلى الماضي يعيشون في تراثه أكثر مما يعيشون في حاضرهم، ويستخدمون لذلك وسائل التعبير التي استخدمها أسلافهم. أما في مجال إعجاز القرآن فقد حاولت الدراسات بغض النظر عن منطلقاتها الفكرية والفلسفية أن تعزي إعجاز البلاغة إلى وجهة ما كالنظم أو اللغة.

وقد هاجم البعض آراء غيرهم في هذا الخصوص، فالباقلاني مثلا هاجم ما سمي بالإعجاز البلاغي للقرآن، فضلا عن تهوينه من أمر ما وضع من مقاييس بلاغية يرجع إليها لتقويم ما في العبادة من جمال فني، ولكنّه لم يستطع أن يقدم بديلا عمّا هاجمه ورفضه.

وبدافع من التأثر بالفلسفة اليونانية، والانكباب على التّرجمة عن الثقافات الأخرى لا سيما اليونانية ظهر الشعر الفلسفي الذي تجلّى بأوضح صوره في شعر أبي العلاء المعري، الذي يبدو أنّه تأثّر بالفلسفة الشائعة في عصره فضلا عن تأثره بالنّزعة العقلية الممتلئة بعلم الكلام الذي حمل المعتزلة لواءه في الحضارة الإسلامية.

وقد شن المعتزلة حربا على النّقل على اعتباره نقيضا للعقل الذي يؤمنون به، فلم تعد المعارف اليومية في منهجهم تعتمد على النّقل والتقليد، بل على العقل الذي أصبح محور المعارف جميعا. ولذا كانت الحرب بين النقل والعقل وأنصاره الذين تدثروا بدثار السّلطة الحاكمة.

وبينما كانت المعركة على أشدها بين السّنة والمعتزلة أو بين النقل والعقل، كان هناك تيار يخط له طريقا إلى الساحة المعرفية، لا يركن إلى أيّ من هذين الطريقين لتحصيل معارفه، ويعنى به تيار الذّوق، ذلك التيار الذي أخذ به المتصوفة، وأصبح لهم منهجا، كما أصبح النّقل منهج السّلف، والعّقل منهج الاعتزال.

ومنهج الذّوق يعني إصابة الحقيقة بالشهود أو العيان، فلا تنكشف أسرار المعرفة إلا بتجربة روحية أو حال تقتضي الكابدة أو المعاناة، وبذلك فالصّوفية معرفة مباشرة ينالها العبد من الله وبالله، ولذا أغرقت الصوفية في عنصر الذاتية؛ لأنّ التّجربة الصوفية هي تجربة ذاتية تنبع من الشخص نفسه.

ولقد ترتب على هذا الذّاتية التي هي سمة رئيسية في التّجربة الصوفية أن تعذر على أصحاب المذهب الصوفي أن تجمعهم وحدة فكرية، كأيّ فرقة مذهبية يلتقي أفرادها على مبادئ وأصول تمثل الدّعامة لمذهبهم الذين هم عليه.

وقد أسهمت روافد كثيرة في إحداث التأثير الفلسفي في التّصوف الإسلامي منها، الرّافد الهندي، والرّافد الفارسي، والرّافد اليهودي، والرّافد الأفلاطوني، فضلا عن التأثّر بالزّهد الإسلامي.

3. مصادر أبي العلاء الثقافية:

كان أبو العلاء المعري متوافرا على ثقافة عريضة، وهي ثقافة لم تقتصر على الثقافة العربية، فالروافد العلمية التي أسهمت في تغذية التيار الثّقافي عند أبي العلاء هي بعينها الروافد التي جعلت من عصر أبي العلاء أرقى العصور في تاريخ الفكر والحضارة الإسلامية.

ولا جدال في أنّ أهم هذه الروافد وأقواها، بحكم النشأة والتكوين - المبدئي على الأقل - الثقافة العربية.

والحديث عن ثقافة أبي العلاء العربية - سواء أكانت في اللغة العربية وآدابها أم الدين وعلومه - تأتي بداياته الأولى من داخل أسرة أبي العلاء ذاتها. فالمؤرخون يتحدثّون عن دور أبيه في تنشئته العلمية، فيذكرون أنه قرأ النّمو واللغة على أبيه في المعرة.

وقد كان المعري على معرفة بقراءات القرآن، ويقال إنّه قرأ القرآن على شيوخ يُشار إليهم بالبنان.

أما عن أخذه للحديث الشريف فقد ذكروا أنه قد أخذه عن أبيه وجده وأخيه أبي المجد، وجدته أم سلمت بنت الحسن، فضلا عن تتلمذه لقاضي المعرة وثلة من علمائها.

ويبدو أنّ البيئة الثقافية بمعرّة النعمان - على الرّغم من تراثها - لم تكن كافية لإشباع نهم أبي العلاء إلى الاستزادة من المعرفة، فكان رحيله إلى حلب التي تعد معرة النعمان إحدى توابعها، وقد كانت البيئة الحلبية تموج بتيارات ثقافية متنوعة، وتحدث الدّارسون عن رحيله إلى أنطاكيه، وطرابلس وتعريجِهِ على اللاذقية، وإن استبعد بعض المؤرخين حدوث تلك الرحلة، ونفوها بجملة من المبررات.

كما تحدث بعض الدارسين والمؤرخين عن رحلة أبي العلاء لبغداد، وهذه الرحلة أيضا محل اختلاف في أمر حدوثها.

وإن حدث وصح أمر حدوثها، فأبو العلاء قد زار بغداد، وهي قبلة للعلم والأدب والثقافة، وإن كان قد اصطدم بالشريف المرتضى، أو جرح كبريائه على يد أبي الحسن علي بن عيسى الرّبعي النّحوي.

وعلى ما يبدو فإنّ أبا العلاء المعري قد اتصل بالأندية الثقافية والحلقات الفلسفية والمكتبات والكتب في تلك المدينة، وتوافر على حظ كبير من علمها، واستفاد منه، ونرى ظهور تلك الثقافة الزاخرة في مجمل أشعاره ومؤلفاته.

ولم تطل إقامة أبي العلاء في المعرّة، فقد عاد إليها بسبب مرض أمه، ذلك المرض الذي ماتت في غماره، كما أنّ الأحوال المادية كانت قد ضاقت به في بغداد، واضطرته إلى العودة إلى المعرّة.

القسم الثاني:

وقد عقـده عبد القادر زيدان تحت عنوان (قضايا العصر)، وهو يقع في ثلاثة محاور وهي:

1. قضية الحرية:

يشير عبد القادر زيدان إلى أنّ الحرية التي يعنيها هي تلك الحرية التي تنبثق من مفاهيم وأحوال وعصر أبي العلاء، ويجد أن أقرب تعريف لهذه الحرية هو "تلك الملكة الخاصة التي تميز الكائن الناطق من حيث هو موجود عاقل يصدر في أفعاله عن إرادته هو، لا عن رأي وإرادة أخرى غريبة عنه". والحرية في الفكر الإسلامي قد ظهرت في حضن السياسة إن لم تكن التيارات السياسية قد دفعتها دفعا إلى الظهور على سطح الحياة الفكرية لتشغل حيزا ليس بالقليل من مباحث المفكرين والأدباء على حد سواء.

وقد تنازعت المذاهب والتيارات الإسلامية مبدأ الحرية، كلُّ تحاول أن تجيّره لصالحها، فالأمويون كانوا يحاولون دائما تعميق مفهوم الحرية في أذهان المجتمع الإسلامي، متخذين لبلوغ هذه الغاية وسيلة لها أهميتها، ونعني بها محاولة تفسير النصوص القرآنية من خلال المفهوم الجبري.

وقد كان من الطبيعي أن يتصدّى لدعاة الجبرية دعاة يقفون في الجانب المضاد، أيّ الجانب الذي يُنادي بحرية الإرادة الإنسانية أو بمعنى أدق حرية الفعل الإنساني، وهم ما يجوز أن نسميهم تيار الإرادة الحرة، الذين كانوا في البداية على الأقل يتجهون إلى الوجه السياسية في فكرهم.

وقد أسهم الصّوفية في قضية الحرية بمفهوم تفردوا به بعيدا عن كلّ المفاهيم الأخرى، فالحريّة الصوفيّة ليست وصفا للإرادة الإنسانية، ولكنّها مقام يسعون إلى بلوغه، إنها ليست مسلمة يفترض وجودها ليتسنّى بها قيام الأخلاق، ولكنّها غاية يسعون إلى تحقيقها، وقيمه تحدد موقف الإنسان إزاء الله والعالم والنفس.

أمّا الحرية عند أبي العلاء، فقد كانت من القضايا التي شغلته، ولم تعرف على يديه الحسم الذي توصل إليه علماء الكلام. ويبدو أنّ أبا العلاء قد كان مشغولا بالحرية بمعناها الميتافزيقي، ولكن قضية الحرية بهذا المعنى لها علاقاتها بالذات الإلهية، ومن ثم كان لابد من هذا التصادم الذي يحدثنا عنه أبو العلاء من جهة، والفشل الذي يحيط بأيّ محاولة لفضّ هذا الصدام من جهة أخرى. إنّ الإنسان المفكر عند أبي العلاء إمّا أن يحتفظ بعقله على حساب المعتقد الديني، وإمّا أن يلغي عقله من أجل هذا المعتقد، ولا جدوى من البحث أو الاجتهاد.

وقد وجد أبو العلاء أنّ الموت يحمل معه الحرية التي يتمنّاها الإنسان، ففي الموت انعتاق من الدّنيا وآفاتها، ومن هذه الهموم التي تلازم الحياة والأحياء. ويرى بعض الدارسين مثل طه حسين أنّ أبا العلاء المعري كان مؤمنا بالجبر، أيّ أنّه كان يرى ما يراه دعاة المذهب الجبري في الفكر الإسلامي، ويستدلون على ذلك بشعر أبي العلاء ونثره، وإن كان عبد القادر زيدان يذهب في ذلك إلى غير ما ذهب إليه أولئك الدارسون.

2. قضية العقيدة:

يذكر الكاتب أنّ قضية الألوهية من المسائل التي ألحّت على أبي العلاء المعري كما ألحّت على ذهن من سبقوه لا سيما أنّه قد أسهمت عوامل كثيرة في إبراز هذه المشكلة، وتمركزها في العقيدة الإسلامية بالذات، وكان في مقدمة هذه العوامل وأهمها سقوط التوحيدية الموسوية والعيسوية في هوة التجسيم والتجسيد والحلول والتشبيه.

والمعري استطاع أن يهتدي إلى وحدانية الله عن طريق العقل، وفي ذلك إرادة حرة لا مجال فيها للتقليد أو التبعية. وبذلك فالذات الإلهية عنده فوق الإدراك، ومن ثم فهي تندّ عن الوصف أو التشبيه أو التحديد، ويبدو أنّ أبا العلاء لم يكن مقتنعا بأهمية المعركة التي كانت دائرة حول الصفات التي كان يثبتها البعض، وينفيها آخرون.

كما أنّ أبا العلاء لم يذهب مذهب المتكلمين عندما قالوا بالحدوث من العدم في غير زمان ومكان، وإن كان يرى الزمان والمكان من منظور يختلف عن رؤية المتكلمين لهاتين المقولتين؛ ولذا كان أقرب في رؤيته تلك من الفلاسفة القائلين بقدم العالم وموقف المتكلمين القائلين بحدوثه أيّ بخلقه.

وخلاصة الأمر عند عبد القادر زيدان أنّه يرى أنّ إيمان أبي العلاء بالله ليس موضوع شكّ أو شبهة، وان كانت هناك بعض الأفكار التي خالف فيها بعض علماء الكلام، واتفق فيها مع بعض الفلاسفة، فهي في مجملها أفكار لا تعدو أن تكون وليدة الظّن والحدس، وليست وليدة الحقيقة واليقين.

ومن قضايا العقيدة التي توقف عندها عبد القادر زيدان في كتابه قضية النبوة وإيمان أبي العلاء بها. وهو يعود للوقوف على بدايات هذه القضية، ليضعها في إطارها الصحيح، أيّ الإطار السياسي والاجتماعي.

وهو يرى أنّ التيار الاعتزالي الذي أسهمت السياسة في إبرازه، والذي كان ينادي سلطان العقل وحريته محاولا قدر الطاقة أن يحدث نوعا من التوافق بين الحرية العقلية وبين الوحي قد خرج منه تيار آخر أُطلق عليه التيار الإلحادي، الذي لم يذهب كما ذهب المعتزلة من قبل إلى التوفيق، بل إلى الرّفض والنقض، وأسهمت السياسـة بدورها في إبرازه إلى حدّ كبير.

أمّا أبو العلاء فمن السهل أن يسلكه البعض في هذا التيار الذي أنكر النّبوات، وهاجم الوحي ونقضه وسفه الديانات بطريقه لا تنقصها الجرأة.

ولكن وقفة متصفحة لأقوال أبي العلاء تجعل حكمنا يختلف تماما، وفي سبيل ذلك علينا أن نجلو بعض الأفكار التي لا يجوز أن نهملها، حتى يتبيّن الموقف.

وأول هذه الأفكار الاقتصار على الفهم الواحد للفظة الدين أو الديانات كما جاءت في أشعار أبي العلاء ونثره، والنّظر إليها على أنها تعني العقيدة، مع أنه على ما يبدو كان يقصد التلوث المذهبي الذي تؤثر عليه الأعراض الطارئة، ويتغير بتغير الأسر الحاكمة، وما أسرع ما كانت تتغيّر وتتبّدل.

أمّا في حديثه عن الشرائع والديانات، فهو لم يكن يهاجمها دينا وفكرا وعقيدة، بل كان يهاجم أفرادها، ويسفه فسادهم، ويفضح عريهم، ويحملهم وزر أعمالهم، وجرائر أفعالهم.

ولقد ناقش أبو العلاء قضية النّبوة داخل نطاق العقيدة الإسلامية في رده على (ابن القارح)، وتعرض للإلحاد والزندقة بطريقة لا تنبئ عن موقف خاص به، وإن كانت تشي ببعض الإيماءات التي قد لا تحمل سوء الظنون.

وخلاصة القول أنّ أبا العلاء المعري لم يكن مفكرا؛ لأنّه وهو في قمة شطحاته الفكرية كان يرنو إلى دين جديد.

وقد شغل أبو العلاء المعري كذلك بقضية المصير الإنساني وبما ينتظر الإنسان من الموت، وقد كان بين يدي أبي العلاء معطيات الأديان السماوية لهذه القضية، وقد كان للنص القرآني مكان الصدارة في تمثل الرؤية السماوية في وضوح وتحديد، وهي رؤية أثبتت البعث، وقالت إنّ هذا البعث يجمع بن الروح والجسد في آن، وأنّ فكرة الرجوع بعد الموت إلى الحياة الدنيا ضرب من الاستحالة.

وهذه الرؤية الدينية قد تتقاطع أو تختلف مع كثير من الرؤى الأخرى، فالرؤية الهندية ترى أنّ البعث بداية لحياة أخرى، فالجسد لا دور له في عملية البعث، إنما هو يؤدي دوره في دورة من دورات النفس المتعددة.

والرؤية اليونانية لا تختلف عن الرؤية الهندية التي تؤمن بالتناسخ، أما المدرسة الأبيقوريّة فترى أنّ النفس ليس لها وجود سابق على وجود البدن، وليس لها وجود لاحق بعد مغادرة البدن، لقد ارتبطت به وانتهت معه.

والغنوصيّة ترى أنّ النفوس قد سحبت في الأجسام بفعل أيون خاطئ، ولكن النّفوس تحاول مرة أخرى الخلاص والصعود إلى عالمها الأول.

والمانوية ترى أنّ الناس في طوائف ثلاث: الصديقون، وهؤلاء تصعد نفوسهم بعد الموت توا، وأمّا طائفة المستمعين، فتبقى نفوسهم بعد الموت في هذا العالم، فتدخل جسما آخر فآخر حتى تنتهي إلى جسم صديق، وتلك هي المرحلة الأخيرة، قبل الصعود إلى النعيم، أمّا الخطاة منها فيكونون في جهنم.

وكلّ هذا الخليط من الأفكار والتيارات قد وجد طريقه إلى فكر أبي العلاء الذي صرح في النّهاية بأنّه يؤمن بحقيقة واحدة تتمثل في دفن الجسد وتحلله وضياعه هنا وهناك، أمّا الروح فهو لا يعلم شيئا عنها، فقد كانت الظنون هي التي لها السيادة في هذا المقام.

ويرى عبد القادر زيدان أنّ كثيرا من الدارسين قد ظلموا أبا العلاء المعري في مسألة البحث، فقد كانوا في جلّهم يهدفون إلى الكشف عن أفكاره للبعث أو إقراره متأثرين بالمفهوم الديني ورؤيته لهذه القضية، ولم يسمحوا لأنفسهم بالتوقف بروية عند أبي العلاء ليروا إيمانه الذي لا تحدسه فلسفتهم أو طريقة طرحه للأمور.

أما عند حديث أبي العلاء عن الزمن، فهو يتحدث عن زمنين:

أحدهما دياني أبدي سرمدي، والآخر زماننا أو عمرنا، وهذا الزمان الأخير يبدأ وينتهي في حركة دائرة مستمرة في داخل الزمان السّرمدي الأول.

ولم يكن غريبا أن تحدث مواجهة بين هذين الزمانين في فكر أبي العلاء، ولم يكن في وسع أبي العلاء أن يخفي هذه المواجهة التي كانت تصطرع في داخله بين زمانه الذي لا بد من انقضائه وبين بقاء الحياة في استمرارية لا تنتهي.

وأبو العلاء لا يكتفي بتصوره للزمان تصورا فلسفيا، بل نراه يعطينا فهما آخر للزمان بمعنى العصر، أيّ العصر الذي عايشه، وهو العصر الذي لم يكن بالمحمود في شتى نواحيه، ومن ثم لم تكن رؤيته لعصره ذاك بالرؤية الضيقة أو المحدودة، بل جاءت رؤية شاملة، كاشفة عما فيه من أهوال وضياع واغتراب للذات الإنسانية.

فهو ينتقد ذلك التشرذم السياسي، وما يحتوي من اضطراب وفوضى. كما أنّه ينعى ذلك الواقع الاقتصادي الذي يعيش العامة فيه الحرمان والعوز والفقر، بينما تعيش طبقة الخليفة والأمراء والقواد وأهلوهم وأتباعهم في بحبوحة ورخاء. الأمر الذي يفرز خللا في توزيع الثروة واحتكار الطبقة الارستقراطية لها. فتعيش العامة حياة اجتماعية صارخة في تناقضاتها.

كذلك تطرق عبد القادر زيدان إلى قضية النشأة الإنسانية عند أبي العلاء المعري، وقد تطرق إليها أبو العلاء في أثناء مناداته الفكرية.

وقضية النشأة الإنسانية ليست من القضايا التي يمكن أن نقول أنّها قضية عصر بذاته، بمعنى أنّها لم تكن قضية عصر أبي العلاء. لقد وجدت قبل أبي العلاء، وستظل شغل الإنسان الشاغل ما بقي الإنسان.

ولم يكن أبو العلاء بعيدا عن الإدراك الحقيقي لما في هذه القضية أو غيرها من القضايا التي أثارها من تعقيد يجعلها دائما في دائرة التّطور، الذي لا يقترب بها أبدا من دائرة اليقين. ويعلن أبو العلاء صراحة وبوضوح أنّ الكلمة النّهائية في هذه القضية وأمثالها بعيدة المنال.

3. في السياسة والمجتمع:

لم يكن أبو العلاء المعري منبتا عن قضايا عصره السياسية، ولم يكن في الوقت نفسه مندغما بها، بل كان له موقف خاص. فقد حدّد مذهبه أو اتجاهه الفكري عندما دعا إلى أن يتفرد الإنسان عن كلّ التيارات المتصارعة على السلطة، ولكن هذا الاعتزال لا ينفي أنه قد حدّد فكره السياسي، وان لم يصرّح به علانية.

وقد شغل أبو العلاء المعري بالحالة المهترئة التي وصلت إليها الدولة الإسلامية بعد أن أصبحت نهبا للعصابات التي أخذت طريقها إلى رئاسة الدولة، وأصبح لها دورها المخرب في إدارة أمورها.

ومن المرّجح أن التكوين الذّاتي والشخصي لأبي العلاء، وما يمثله التكوين أولا: من استقلالية فكرية، ذهبت به بعيدا إلى ما كان مطروحا في السّاحة الفكرية خلال هذه الحقبة من مذاهب وأفكار تحرّكها الرّغبة في السّلطة وشهوة الحكم: ثانيا: من استقلالية مادية تمثلت في سيطرته المخيفة على نوازع النفس ورغباتها المشروعة وغير المشروعة إلى حد كبير، حال بين أبي العلاء والارتماء في أحضان أيّ من تلك القوى المتصارعة، وأبقاه دائما منتصرا لقيمه ولمبادئه.

لقد كان رافضا لأيّ تيار سياسي قائم في عصره، مهموما بما يحيط بمجتمعه وأمته من تمزق وضياع بنظـرة كلية تتسم بالشمول وليست بالمحدود داخل أطر مذهبية تضيع معها النظرة، ويفتقد الهدف العام.

أما موقف أبي العلاء المعري من الملوك والأمراء فهو يعدّ في مجمله وثيقة أدبية تحمل اتهاما لنظام مهترئ من أنظمة الحكم، يعانيه مواطن معنّى من حكام أقرب ما يكونون إلى شُذّاد الآفاق بعيدين كلّ البعد عمّا يأمل.

لقد هاجم أبو العلاء الملوك والأمراء والحكام بطريقة مباشرة في سلوكهم وأساليبهم في الحكم وأخلاقهم الشخصية، وقد جاء نقد أبي العلاء نابعا من الموقف نفسه، وبعيدا عن أيّ غرض ذاتي أو شخصي، فقد كان غير منتم إلى أيّ من التيارات السياسية التي كانت تتصارع في عصره، وإنّما جاء نقده من أجل تأهيل القيم الإنسانية وإبرازها.

وقد نقد أبو العلاء النّفاق والقهر بشكل خاص، وعد النفاق يبدأ من النفاق السياسي للأمير الصّغير ثم يتضخم بعد ذلك، كما أنّ القهر هو الدّاعي إلى الخوف الذي خيم على النفوس، وأعطى للنفاق معنى لم يكن له من قبل.

أما حديث أبي العلاء عن ظلم الرّعية وسفه الحكام وجورهم فهو كثير، وحديثه عما يجب أن يكون عليه الحاكم من عدل وقدوة وبُعد عن مواطن الذل كثير أيضا، وما ذهب إليه أبو العلاء في حديثه هذا كلّه يمثل رؤية متقدّمة للقواعد والأسس التي لا يستقيم بغيرها بناء الدّولة. ولكن هذه الرّؤية المتقدمة التي أشار إليها بعض الدارسين لم تكن تقدمية في تصوّرها بالقدر الذي كانت به تقدمية في الإفصاح عنها.

وطه حسين ألحق النظام الجمهوري برؤية أبي العلاء التقدمية هذه، فقد جعل منه الدكتور زكي المحاسني مبشرا بالديمقراطية علاوة على محاولة الربط بين ما ذهب إليه أبو العلاء وما جاءت به الثورة الفرنسية من مبادئ وأفكار.

ويبـدو أنّ أبا العلاء كان يتمنى حياة تخلو من أيّة علاقـة غير تكافئية بين حاكم ومحكوم، حياة علانية، قوامها أن تحكم الذات في ذاتها، حتى لا يأتي يوم يقف فيه الإنسان أمام حاكم في مجال التفاخر أو في مجال النصح.

وقد كان لأبي العلاء موقف وخاص وغريب من المجتمع، إذ اثر العزلة وعكف في داره، وانقطع عن الناس إلا من طلابه والوافدين عليه من علماء عصره.

فإذا جئنا إلى نقد أبي العلاء لمجتمعه، وجدنا أنّ الصورة لا تختلف في حقيقتها عن موقفه من مجتمعه. ولم يكن نقد أبي العلاء مجرد هجاء ذهب إليه، كما ذهب قبله الشعراء، لقد كان نقده تعرية حقيقة للمجتمع وأخلاقياته وفساده.

وخلاصة القول في ذلك إن عزلة أبي العلاء ليست بالعزلة التي تغلق عليه نوافذ الرؤية لما يموج به المجتمع أبان هذه الحقيقة، ولكنّها العزلة الخصبة التي تعرّي المجتمع من الزيف والتضليل والخداع.

وقد رفض أبو العلاء الزواج، وعده عبثية رفض أن يشارك في لعبتها السخيفة. بل ويعد إنجاب الأولاد تعذيبا لهم وإلقاء بهم في مهاوي المشقة، ويرى أنّ إنجاب أبيه له جناية.

فأبو العلاء قد تاحب الأسرة بشتى مفاهيمها الاجتماعية والعاطفية والنفسية والعداء. فهو قد انصرف عن الزواج، ولم يكتفِ بهذا الانصراف الذي يعدّ لدى البعض تعبيرا عن عدم قناعته بالفكرة، بل تعدى هذا الانصراف إلى محاولة مستميتة لتعميقه وزرعه في أعماق النفس الإنسانية من خلال ما أملى من شعر أو نثر.

ولما كان الزّواج في أبسط صوره، اقتران رجل بامرأة، فقد جاء موقفه دائما هو تشويه صورة المرأة وتخويف الرجل، وقد يتنازل أبو العلاء قليلا في تشدّده في رفض المرأة، فيقبل المرأة التي تجمع بين العقل الراجح والإحصان التي يتأبى بها عن مواطن الذل، حتى تحل البركة فيما تأتي من نسل.

والجدير بالذكر في خصوص فلسفة أبي العلاء المعري في المرأة، أنّ هذه الفلسفة لم تكن مقصورة على المرأة من حيث هي أنثى وحسب، بل هي فلسفة تنطوي تحت رؤية كلية للحياة نسيجها العقم والفردية والحرية.

القسم الثالث من الكتاب:

عقد عبد القادر زيدان القسم الثالث من الكتاب تحت عنوان (قضايا علائية) وقد ذكر في صفحة العنوان لهذا القسم أنّ القضايا التي سيتحدث عنها في هذا الفصل والتي وصفها بالعلائية لا تعني أنها كانت وليدة لرؤية خاصة عند أبي العلاء انفرد بها، وكانت حصيلة فلسفة قام بها، واتخذها سلوكا وأسلوب حياة، وإنما هي قضايا لم تكن بعيده عن عصر أبي العلاء.

والقضايا التي وقف عبد القادر زيدان عندها في هذا البحث هي:

1. تحقيق الذات عند أبي العلاء:

يقر الباحث إن دراسة تحقيق الذات ضمن العزلة التي فرضها أبو العلاء على نفسه أمر صعب لما في جوهر كلّ من الأمرين من تناقض مع الآخر.

ويخلص إلى أن أبي العلاء قد حاول دائما أن يحقق ذاته رغم عزلته، وأنّ هذه المحاولات كانت تمنى بالفشل والخيبة.

والدارس لأدب أبي العلاء لا يعدم أن يجد صورا كثيرة من صور الخيبة والإخفاق التي يمنى بها الإنسان عندما يطمح في تحقيق ما يهفو إليه. وإذا كانت هذه الصّور تكشف لنا عن عوامل مختلفة كان لها إسهامها في إحداث ذلك الإحباط، فإنها تكشف لنا في الوقت نفسه عمّا كان يرنو إليه أبو العلاء، ويأمل في تحقيقه.

صحيح أن ما كان يتوق إلى تحقيقه يبدو في معظم الأحيان غامضا يتعذّر الكشف عنه بطريقة يقينية، إلا أنّ هذا الغموض المفترض قد يكون له دوره الواضح في الانتقال بالتجربة من حدود الذّاتية الفردية الضيقة إلى دائرة الوجود كلّه، ومن ثم الخروج من دائرة الشعور الشخصي الذي يستشعره الإنسان عندما يمنى بالفشل في واقعة ما ذاتية إلى دائرة الحسّ المأساوي الذي هو وليد الإدراك لمأساوية الحياة.

ويبدو أنّ الإحباط لم يكن هو العامل الوحيد الذي كان وراء إخفاق أبي العلاء في تحقيق ما يود تحقيقه لذاته، لقد كان عصر أبي العلاء بكلّ قيمه عاملا في إخفاقه الذي منعه من أن ينشىء نوعا من التوافق بين ذاتية العصر وذاتيته الخاصة.

فما كان من أبي العلاء إلا أن اعتصم بنفسه، واحتضن قدره في خوف من أن تتبدّل مكانته وسط أخلاقيات عصره المهترئة، وبذا كان هذا التحصن قد قطع أيّ حوار بين ذاته وأي موضوع كان، وحفظ لذاتيته ذاتيتها.

ولعلّ غياب الحرية كان يمثّل عند أبي العلاء صورة من صور الإخفاق الذي مُني به وهو يحاول تحقيق ذاته. أمّا الموت فهو يمثل في نظر الدارسين عامل الإحباط النموذجي في الحياة وفي الوجود، فما ذلك إلا لأنّها واقعية وجودية أليمة لا سبيل إلى اجتنابها، ووجه الإحباط في واقعة الموت هو ما يعني وضع حد لعملية تحقيق ذواتها؛ لأنّ عملية التحقيق هذه ليست وقفا على فترة زمنية محدّدة من عمر الإنسان، بل هي عملية متجدّدة طابعها الاستمرار، لا تكاد تتوقف في أيّة لحظة من لحظات العمر، إلى أن يجيء الموت، فيخلع على وجودنا طابع الشيء المتحقق المكتمل.

والواضح من استقرار النّصوص العلائية أنّ هذه الرؤية للموت لم تكن تغيب عن ذهن أبي العلاء بل كان دائم التفكير بها ومناوشتها في إلحاح غريب.

2. بذور الشك في فكر أبي العلاء:

يرى المؤرخون والدارسون أنّ مدينة اللاذقية التي عرج عليها أبو العلاء في سفرته إلى طرابلس الشام قد وضعت في عقله بذرة الشّك الأولى.

فأغلب الظّن أن بذور الشّك قد أخذت طريقها إلى فكر أبي العلاء في اللحظة نفسها التي أخذ وعيه فيها بالتحرر من نير التقليد والنقل سالكا طريق العقل فيما تتناوله من أمور. ولم يكن الطريق العقلاني غريبا على الفكر الإسلامي في عصر أبي العلاء، كما أنّ مبدأ الشّك الذي أكده المعتزلة لم يكن كذلك بالشيء الجديد على عصره.

وقد يتسائل البعض هل كان أبو العلاء في شكه معتزلا أم سلك طريق المذهب اليوناني؟

والباحث لا يستطيع أن يصنف الاتجاه الشّكي عند أبي العلاء تبعا لما ذكرنا من اتجاهات؛ ربما لنفوره الشديد من أن ينضوي تحت مذهب أو منهج، وربما لأنّنا نرى ملامح كثيرة يلتقي معها وأصحاب هذه المناهج والمذاهب الشكية.

وقد شك أبو العلاء في أخلاق عصره كما شكّ في الإنسان، كذلك شكّ في السّلوك الديني لعصره أيضا مارا بالرّجل العادي حتى يصل إلى رجل الدين، وكما كان الإنسان هو أخلاقه، فقد كان الرجل هو دينه، لم يفرق في رؤيته هذه بين أصحاب دين ودين.

ولقد وقف أبو العلاء موقفا شكيا في مواجهة ما يُروى وما يُقال، وقد يكون له العذر في موقفه ذلك، على الرّغم مما يعني ذلك من تجريح قد يبلغ حد الإنكار لنظرية المعرفة الإسلامية، التي تستند إلى دعامتي (السّمع والنّقل). ووجه العذر في ذلك إلى أنّ أهل الكتاب الأول كما يسميهم أبو العلاء افتروا الأحاديث، وكثروا بها عند السّفلة وأهل الجهل.

وفي معرض حديث أبي العلاء عن الشّك لا ينسى أن يصّور الغموض المحيط من جراء القيود التي يوسف فيها العقل وعدم قدرته على فضّ مغاليقه، وكيف انعكس هذا الغموض على سلوك الناس وأفكارهم وأسلمهم إلى نوع من الفوضى في الأحكام، فضلا عن حالة العدمية التي نطالعها في نبرة أبي العلاء التي تخلو من اليأس.

3. العزلة في حياة أبي العلاء:

أطال الدارسون الحديث عن عزلة أبي العلاء، وكيف أنّه أعلن قراره بهذه العزلة على أهل المعرة في صورة رسالة، أو كل بيان لا يخلو أسلوبه من صراحة يغلّفها الأدب، والأسى، ولكنّهم يتحدثون مع ذلك عن فشل أبي العلاء في الحصول على هذه الأمنية، وعدم تحققها كما كان يود ويرغب. ومنهم من يرجع ذلك الفشل إلى أن العزلة التامة لم تكن ميسورة لأبي العلاء، وإنّما كانت أمنية ضائعة، فإنه وان زهد في كلّ ملذات الحياة، لا يستطيع أن يزهد في العلم والتأليف، الذين قد ملكاه واستأثروا به. وكلاهما يكلّفه عشرة الناس، لاحتياجه إلى من يقرأ له، ويكتب عنه.

والواضح أنّ ما ذهب إليه الباحثون من حديث عن عزلة أبي العلاء لا يؤكدها بل ينفيها. أي إن فكرة العزلة التي ارتبطت بأبي العلاء عما جرى له ذكر فيه تهويل، حتى أصبح من المسلمات.

إننا لو تأملنا عزلة أبي العلاء، لا نجد فرقا كبيرا بينها وبين الدارسين والباحثين على مرّ العصور، مع اختلاف قد تمليه الظروف، أو يمليه العصر ودواعيه.

ولكن يبدو أنّ أبا العلاء قد عاش عزلة نفسية مثل عزلة أيّ إنسان له بصيرة واعية لواقع مضطرب ومشوش. فأبو العلاء يكشف لنا عن الصلة بين المعايير التي تسود في عصر من العصور، وما يعتري الفنان المبدع من رغبة دفينة في العزلة التي قد يكون فيها قدر من حماية له من الإسفاف والابتذال السائد، فضلا عن فكرة العزلة الكامنة في فعل الصبر، هذه العزلة الصابرة التي تحول بين الإنسان الذي لديه الشعور الحاد بالذات كأبي العلاء، والخوض فيما يخوض فيه أفراد عصره من نشاط وسلوك.

ويبدو أنّ فشل أبي العلاء في إحراز أيّ تحقق عيني للذات، لم يكن هو العامل الوحيد وراء انسحابه وإيثاره العزلة، فالنصوص العلائية تكشف لنا عن عامل آخر يقف وراء عزلته يتمثل فيما كان يحمل في جوانبه من حبّ مفرط للحياة، وعجز مدمر يحول بينه وبين أن يحدث نوعا من المصالحة بين ذاته المحبة والوجود المرغوب.

4. التشاؤم في رؤية أبي العلاء:

يشيع التشاؤم في أدب أبي العلاء ابتداء من مرثيته المشهورة للفقيه الحنفي انتهاء بمواقفه من الإنسان والحياة، والموت هو النفس التشاؤمي الذي يسيطر على نزعته التشاؤمية، والموت مشكلة من المشاكل التي أخذت عند أبي العلاء صورا متعددة من صور التناول، فنراه ينظر إليه بوصفه وسيلة للخلاص أو التحرر من الحياة، فعن طريقه يستطيع الإنسان أن يحصل على الأمان المفتقد في دنيا البشر، كما أنّه يرى في الموت حائلا بينه وبين ما يريد تحقيقه.

وهذه النزعة التشاؤمية تصبغ نظرته إلى الدنيا، فهو يمقتها، ولا ينسى هجوها، وان كان هجاؤه المستمر لا يدع مجالا لحديث عن حبِّ لها كان يضمره حينا ويصرح به أحيانا أخرى.

لم يكن حظ الإنسان مع أبي العلاء بأحسن من حظ الدّنيا معه، فقد عاش أبو العلاء معلنا سخطه، ليس على إنسان عصره فحسب، بل على الإنسان في عمومه، مؤصلا في طبيعة الشرّ منذ بداية الخليقة، متشائما من إمكانية إصلاحه أو التغلب على ما ركز في تكوينه منذ البدء من خسّة وانحطاط ونفاق وتملّق، إلى آخر هذه المفردات الدّالة على موقف لا يخلو من قسوة ورؤية تدعو إلى اليأس، بل تؤصله حول مستقبل الإنسان.

على أية حال، لقد فقد أبو العلاء إيمانه بالإنسان أولا، لما وجد في حياته من فجوة عميقة لا يمكن تجاوزها بين قولة وفعلة، بلا فارق يذكر في المستوى الذي يحله الإنسان في السلم الاجتماعي والثقافي والديني، وفقد إيمانه به ثانيا، عندما وجد أنّ نزعة الشّر لها الهيمنة على سلوكه وأفعاله. وقد أدّى ذلك كلّه إلى شعور حزين بالإحباط من إمكانية إصلاح ذلك الإنسان، بل تعدى الموقف عنده إلى نظرة تراجعية مليئة بالتشاؤم على مصيره.

وفقد إيمانه بالحياة لما مُني بها من إحباط حال بينه وبين إمكان تحقق ذاته في حين جاء فيها من لا يستحق، فوق ما يأمل وينبغي. ثم نراه ينتهي إلى إيمان أكيد بعبثية المحاولة لأيّ تحقق في الدّنيا؛ لما طبعت عليه من نقصان يحول بين الإنسان ونشدان أيّ نوع من اكتمال قد يراوده.

وقفة عند كتاب عبد القادر زيدان:

إنّ وقفة متأملة في كتاب قضايا العصر في أدب أبي العلاء المعري تقودنا بكلّ يسر إلى تقدير ذلك الجهد الجبار الذي قام به الكاتب في كتابه، فقد مهّد لموضوعه بتغطية واسعة لقضية العصر والمثقف، كما أنّه توافر على عدد ضخم من المراجع والمصادر التاريخية واللغوية والنّقدية والنّفسية التي تحيط بالمادة النظرية لكتابة.

وفضلا عن كلّ ما ذكر فقد تصدى الكاتب طنتجات أبي العلاء وطفق يهضمها ويبرز فيها ما وقع عليه بعد أن صنّفه ضمن موضوعات وقضايا.

والكاتب في كتابه وإن كان جامعا مصنفا صاحب جلد ودقة، إلا أنّه صاحب نظرة خاصة، ورؤية نقدية قوامها الذوق الأدبي الرائق، والدّراسة الطّويلة لنصوص المعري، فهو يورد الكثير من آراء من سبقوه من الدارسين ويفنّدها أو ينقضها بعد أن يقدّم الحجة والبرهان لذلك بأدب جم دون تعصب أو تحامل.

والكاتب يسمح لنا بأن نقرأ أبا العلاء قراءة جديدة بعد أن تصدّى للكثير من التهم الموجهة لأبي العلاء، ورد الكثير منها، وفنّد وعلق على ذلك بما أتاحت به ثقافته الواسعة. ويجوز لنا أن ندعي أنّ الكتاب في أحد مستوياته الإبلاغية والقيمية وثيقة دفاع وتبرئة للمعرّي من بعض التّهم المنسوبة إليه.

وعلى الرغم من أن الكاتب يمتح من أدب معري شُهد له بالبلاغة، وأحيانا بالغرابة والصّعوبة، إلا أن عبد القادر زيدان يستطيع أن يعرض علينا ثقافة المعري وفكره بلغة سهلة رائعة مشرفة توصل ولا تخلّ.

D 1 تشرين الأول (أكتوبر) 2008     A سناء شعلان     C 0 تعليقات