محمد عبد الله الهادي - مصر
وجهان لعملتين مختلفتين
توطئة
أقـر أنا المؤلف أنني ـ لأول مرَّةـ لم أبذل أي جهـد في كتابة قصَّـة، فكـل الشخوص وكل الأماكن في هـذه القصَّة حقيقـية، وكل ما فعلـته ـ بتصرف محسوب ـ هو تدخـل قلـمي أحيانا، حتى يأخـذ مسـار الأحـداث فيـها شكل ومضمون قصَّـة. وأعترف أيضا أن أحـداث هذه القصة، رغم واقعيتـها، لم يكن ليجنح لها خيالي الإبـداعي قبيل الساعة الثانية، ظهر السادس من أكتوبر (تشرين الأول) 1973.
::
وجـه للشـروق: النقيب عبد العـزيز (1)
ليـلٌ خريفي آخر، يهـبط من سماء متشحة بأنجـم قلائل وقمر خجـول، يفرش عبـاءته فوق أرض القنـطرة غرب المحاذية للقناة، نسمات منطـقة الحرش تتسلل هينة الوقع، تعبث بفتـيل لمبة الجـاز المعلقة بجانب الملجأ الصغير، تتسربل الظلال فوق وجـوه الرفاق من قـادة السرايا مشدودة الانتـباه لقائـد الكتيبة ورئيس العمليات، الهدوء الكـاذب يفصح عن جـدِّية صوتيهما، يتبادلان الشرح والتوضيح لكافة التعليمات:
تأمين التحـرك. العبـور. التعيـين والمياه. وسائل الاتصـال. المؤخـرة.
أتأمل تضاريس ملامح وجـه القائـد، الغائمة في الضوء الشحيح الخـافق لفتـيل اللمـبة، لا أتبـين إلاَّ ومض عينـيه اليقظـتين، كأنهما تخمـنان ردود أفعـالنا.
* * *
عندما مـرَّ قـائد اللواء يتفـقد مواقعنا، كان الصباح الجديد يطرق أبواب القنطرة غرب.
لا بد أن السـؤال الذي تدحرج خلـف خطوات قـدميه: ماذا يعـني كل هـذا؟
أتحسس التعليمات بجـيب سترتي، أمسح شعـر رأسي براحتي، كأنما أؤكـد لنفسي توقيت تحـرك سريتي. مدافعـها عيـار 37 المضادة للطائرات. شفـرة توقيت العبـور (س + 10).
يطل القائـد بملامح غائمة أمام عينيَّ تحت فتـيل لمبة جـاز:
"التحكم في الزمن يا أبطال يعني التحكم في انسياب المعـدَّات. والعربات العابرة للشاطئ الآخر. تجنب الفوضى والتخبط. تجهيز السرية للتحرك في الوقت المفترض أن تقطعه حتى المعبر على الشط."
أحـدّق في الأرض الرملية. عيناي تقولان لي إن المسافة لا تزيد عن خمسمئة متر.
* * *
السـاعة الآن الواحـدة والنصف ظهـرا.
شمس أكتوبر اللينة تتبعـثر فوق الرمال، ميـاه القناة، أرض سيناء البعـيدة القريبة، تغـيم عيناي قليـلا، ارتقي متن الماضي، يتردد شريط التـذكر على خلـدي كالطيف.
الجندي المستجـد عبد العـزيز يحمل مخلات مهمـاته عام 68. الفصيلة 13 بكلية الضباط الاحتياط بألماظة. فـرق التدريب بمدرسة الدفـاع الجوِّي بالمعمـورة. التدريب العملي بالصالحية والفردان. التخرج. أول ليـلة يستقبل فيها حرب الاستنزاف عند نفيشة. مروره على مواقـع الفرقة 18 بقيـادة فؤاد عزيز غالي. أبو سلطان وجنيـفة والقصاصين والتـدريب في الخطاطبة. التجنـيد في جزيرة البلاَّح. القنـطرة غرب. القنـطرة؟ أفيـق.
أنا هنـا منذ أسبوع بعـد الاستدعاء. كانت دفعتي مسرحة من أول يوليو. أبلغني رئيس العمليات بالشفرة: أن الساعة الثانية هي سـاعة الصـفر.
يقفز السؤال أمامي للمرة الألف: هل حـان الوقت حقـا ليتحقق حلم السنوات الست، أم هي مرحلـة تدريب أخرى ويأتي الأمـر (كما كنت) ليبقى الوضع على ما هو عليه؟
أنظر لزجاجـة ساعـتي، عقـارب الساعة تقـترب من الثانيـة.
* * *
السـاعة الثانيـة ظهـرا.
صـاح الجنـود صيـحة واحـدة: "الله أكـبر. الله أكـبر."
انتفض بدني ممسوسا بالصيـحة. دارتْ عيـناي حيثما تطلعت كل الأعين للأعالي. صفوف من طائرات مصرية تقبل من الغرب على ارتفاع منخفض، تشق الفضاء فوق رؤوسنا، تسابق الريح نحو الشـرق.
"الله أكـبر. الله أكـبر."
جُـن جنوننا، ما هذا الـدمع الذي يتساقط من عينيَّ؟ أمسحه براحة يـدي. عيناي تطيران مع الطائرات التي تغـوص في عمـق الشـرق.
"ربنا معـكم، وترجعـوا لنا بالسـلامة."
انتبـهتُ، عـدتُ لمهامي، صرختُ بجنـود السـريِّة:
"استعـد للضـرب."
كان صوتي بالأمـر غريب الوقع، كأنه ليس الصوت الذي ألفـته أذناي. هل تساورني الشكـوك فلا أصـدق؟ كررتُ الأمـر بتأكيـد:
"استعـد للاشتـباك."
همـس الشاويش فتـحي لزميـله إليـاس بخـبث محبـب وقـال:
"وأنت الصـادق يا فنـدم، قـل استعـد للعبـور."
داريتُ ابتسـامة فـرح نبـتتْ على ركني فمي. تمتـمتُ لنفـسي:
"سأقولهـا لك يا فتـحي وفي وقتـها. الآن استعـد للاشتباك والضرب لمواجهـة رد أي فعـل للعـدو."
* * *
مضى اليـوم الرمضاني سريعـا وأفطـرنا. لماذا يختـلف الطعام ويحـلو مذاقـه الآن في أفواهـنا، كأنه طعـام الجـنَّة؟ جاء ليـل الحرب الصـاخب، ليس ككـل ليـل، يصعـب على قلمي وصفـه. منتصـف الليـل يـدنو سريعا. أتعـجل قـدومه. قلـق شـديد يعـتريني أحـاول مداراته. سريتي وقيادتي جاهـزة للعـبور. وحانتْ السـاعة. هي الآن (س + 10). أقـود سريتي للعـبور صوب الشرق والشـروق.
وجـه للغروب: السرجنت يوسي هاريل (2)
عندما استدعيت للخـدمة بالوحـدة الاحتياطية للكتيبة 68 مشاة، كان هذا قبـل عيـد رأس السنة اليهـودية (روش هاشاناه). لم أستطع أن أكـتم غيظي من قادتي. أرسلت خطابا لموشي ديَّان وزير الدفاع أشكـو له، أعتـرض على هـذا الاستدعاء: الوحـدة يا سيَّـد ديَّان تخدم منذ عيـد الفصح.
لم يرد ديَّان على خطابي كتـابيا، لكنه ردَّ عملـيا بتسريح أكـبر عـدد ممكن من الجنـود للإجـازة. فكرتُ بأن استجابته لا تعني سوى أنه ليست هناك مخاطـر مستترة على الجانب المصري، لكني كنت قلـقا من إشارات التحـذير التي بعثتْ بها وحدتي من على خـط بارليف: تقـارير عن تحركات ميكانيكية للمصريين. مشـاهد لقـوَّات مصـرية يشتـبه أنهم يلبسـون الخُـوذ. سألتُ نفسي: هل يمكن أن يتجاسـر المصريون ويستعـدون لخوض حـرب أخرى؟ قلـت لنفسـي وثقتي في قمتـها: لا يمكـــن.
* * *
بـدأ يـوم كيـبور ليـلة الجمـعة. هيأنا أنفسنا لأقـدس يـوم في أجنـدتنا اليهـودية. قررت وأنا الأورثوذوكسي أن أبقى في موقعي. أجلـتُ إجازتي مع زوجتي راشـيل وولديَّ الصغيرين إلى عيـد المظـلاّت. رأيت بعض طلـبة المدرسة التلمـودية قـادمين إلينا، جاءوا ليساعـدونا في إكمال صـلاة الجماعة (المنـيان).
أقمـنا صـلاة كل النـذور (كل نـدر) بعـد الظـهر. استراح الجـنود بعـد ذلك بسبب الصيـام الطويل. عندما ألقى قائـد المجموعة خطابا بصالة الطعـام، كانت الساعة تقترب من الثانية ظهرا. قال: "تقـارير الموسـاد حذرتْ من إمكانية القصف المصري لاحقـا خلال هـذا اليـوم." قبـل أن ينهي كلمـته، انهـال على الموقـع وابـل من القـذائف.
* * *
الأرض تحترق. السماء لم تعـد مشمسة، تلبـدتْ بغيوم دخانية، راحتْ تمطر علينا كل أنواع القـذائف، لم أكن في وضع حراسـة، كما أن بعض الجنـود لم يكمل ملابسه بعـد، الذعـر يكسو الوجـوه التي تختبئ أسفل المقاعـد، الأرض تهـتز، سمعتُ قعقـعة الأبواب، أمرنا قائـد المجموعة بالاتجاه للحصن، اتجهتُ لبـرج المراقبـة، كان المشـهد مشـهد حـرب: قوارب مطَّاطية تحمل الجـنود وتتدفـق بلا كابـح، كأن المصريين جميعـهم قد جاءوا إليـنا عن بكـرة أبيـهم.
القذائـف تدوِّي، رفعتُ الراديو الصغير لصق أذني ألتقـط كلماته، فهمتُ بصعوبة أن إسرائيل تحت الهجـوم الشـامل، قفـزتْ رأسي تلقـائيا للـوراء: حرب الأيام الستة في 67، عـادتْ ثقتي إلى قمتها، أكَّـدتْ لي أن جيش الدفاع سيكون هنا خلال دقائق لا أكـثر، سوف يسحق هؤلاء المصريين، رفعتُ رأسي للسماء، كانت طائراتنا هناك بالفـعل، لكنها للأسف كانت تسـقط. هل تهاوت ثقتي من على قمتها للسفح المخضب بالـدماء؟
كانت الوحـدة بكل الدبابات وبطاريات المدفعية وكل الأسلحة، تفـتح النـار بكثـافة على القوارب والطوافات بالقنـاة، أغرقنا عـددا منها، لكننا لم نتمكن من وقـف تقدمها، سقطتْ قـذيفة بالقرب منِّي، أصابت وجـه القائـد وشطرتْ كوعي الأيمن، هرولتُ نـازلا، تعـثرتُ بجـنديين من زملائي ميتـين.
في الأسفـل، ساءتْ معنوياتي وانخفضتْ ثقتي للصـفر، علمتُ أن قذيفـة قتـلتْ طبـيب المجـموعة فتعـاظم حـزني.
* * *
جاء الصبح، لم أصدق أنني ما زلت حيا، القتلى والجرحى من حولي، لقد صدَّتْ المجموعة الهجوم عليـنا خمـس مرَّات، علمتُ باختـفاء مواقـع بأكملـها على طـول الخـط، هل نحن أوفـر حظـا منـهم؟ وإلى متى يلازمـنا هذا الحـظ؟
جاءتنا الأوامـر بإخـلاء الحصن في العاشرة مساء، أعطينا أرجلـنا بسـرعة لطريق الهروب، اتجهـنا 15 ميلا شمـالا، الموت يحـوِّم في السماء، الطائرات المصرية ما زالت تمشـط جانبـنا بالقنـابل، ننبـطح ونتخـفَّى ثم نعـاود الهـروب.
الصحراء واللـيل والحرب والهـروب الجماعي والإرهاق والتـعب، أمضي معهم مرغما، كأنني طوف عائم فوق بحـر الرمال متلاطم الأمواج، هل تخرج الكواسر الجائعة من مكامنها المظلمـة وتفترسنا؟ مردة الأساطير تحاصرنا في كل جانب من تلال سيـناء المهيـبة، لا أكـف عن الهـذيان مع نفـسي، أسمع وجيـب قلـبي وصـورة راشيل مع الولـدين تخـايل عيـناي في العتـمة.
نستريح بمكـان تكسـوه شجيرات قصيرة متشابكة الأغصان، لأول مرَّة منـذ بـدأ كيـبور يأكـل الجـنود الطـعام الذي لديهـم، رغم الفوضى والخوف قـرر ليـفي ارتـداء شـال الصلاة (الطاليت)، هل فكَّـر أن يمنحنا بعـض الشجـاعة في هـذا الوقت العصيب؟ المـوت، الآن، أراه مقبـلا من الظلـمة، قـاب لحظـة وأخرى.
انشقتْ الأرض فجأة عن دبَّابة، اقترب عيزرا ووضع أذنه لصـق الأرض، قال إنها من دباباتنا، ركض مسرعا لمرتفع عـال، راح يلـوِّح لها بشال (الطاليت) كالعـلم، يبـدو أن طاقـم الدبابة المسرعة لم يمـيز (الطاليت)، أطلـقوا علينا النـار بظن أنه كوفيـة عربية، لكـن عيزرا لم يكـف عن محاولاته حتى تنبـهوا إليـنا.
* * *
عنـدما وصلـنا القاعـدة، كنا نتـكوَّم فـوق الدبابة متلاصقين، ممزقين، غارقين في الـدماء، كنَّـا عشرين جنـديا من أصل ستـين. منْ مات من الزملاء؟ من أُسـر؟ من فُقـد وتـاه؟ أنا لا أصـدق أنني نجـوت. طيـف ابتسامة حزينة يرتسم على شفتيَّ، لكنها ما لبثتْ أن غاضـتْ. لقـد لمحتُ بعض القـوَّات المظلية تستعـد للاتجـاه للجبـهة، لأول مرَّة ينـتابني إحساس بالحسرة عليـهم، إنهم يقيـنا لا يعلمون مـاذا يخـبئ القـدر لهـم هنـاك.
= = =
(1) نقيب عبد العزيز أسعد، قائد السرية الثانية دفاع جوي بالجيش الثاني. الأهـــرام. 10 أكتوبر/تشرين الأول 2003. (برغم كل شيء لم أكن أصدق).
(2) السرجنت يوسي هاريل. (ذكريات ناج من قذائف يوم كيبور). الأهرام. 25 أيلول/سبتمبر 1998.