سميرة شادلي، لحسن كرومي، حبار مختار - الجزائر
نظرية المطابقة بين الإرث البلاغي ودراسات سيد قطب
نظرية المطابقة هي نظرية ولدت بين أحضان الدرس البلاغي على أيدي باحثين اهتموا بالنص الإبداعي والنص القرآني بخاصة وهي التي تعنى بالكشف عن درجة مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وقد لمسنا وجود هذه النظرية في دراسات سيد قطب (مشاهد القيامة، التصوير الفني، في ظلال القرآن) فكانت الخيط الخفي الذي يربط بينها ويجعلها تسير صوب هدف موحد على الرغم من اختلاف مواضيعها، لذلك عقدنا هذه الدراسة بغية معرفة الكيفية التي وظف بها سيد قطب هذه النظرية أثناء مدارسته للقرآن الكريم والكشف عن المستويات التي اعتمدها في ذلك.
أولا: المطابقة في البلاغة العربية
إن المفهوم اللغوي لمصطلح المطابقة عند ابن منظور (630-711هـ) في لسانه العربي لا يخرج عن حقل دلالي واحد عبر عنه بالمساواة والموافقة والاتفاق: "أطبقه وطبقه: فانطبق وتطبق: غطاه وجعله مطبقا...وطبق كل شيء: ما ساواه والجمع أطباق... وتطابقا الشيئان: تساويا " (1)، " والمطابقة: المشي في اليد وهو الرسف، والمطابقة أن يضع الفرس رجله في موضع يده، وهو الأحق من الخيل ومطابقة الفرس في جريه: وضع رجليه مواضع يديه"(2).
والمطابقة لا تتحقق إلا بين طرفين اثنين (طابق فلان فلانا، ووضع الفرس رجليه في موضع يديه...).
أما المطابقة في الاصطلاح البلاغي فهي المعيار الذي يقاس به الكلام وتحدد به درجة البلاغة؛ لذلك وجد التفاوت والتدرج في البلاغة من البليغ إلى الأبلغ، ومن الأبلغ إلى الإعجاز، فللمطابقة ارتباط وعلاقة بالبلاغة. أوليست البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ومجيئه بكيفية وصورة معينة من أجل مطابقة معاني وأغراض معينة، فهي في الاصطلاح كذلك مساواة، واتفاق، وتطابق بين طرفي المعادلة (الشكل والمضمون) (اللفظ والمعنى) (البنية العميقة والبنية السطحية).
لقد تبلور مفهوم المطابقة مع تبلور مفهوم البلاغة على أيدي دارسين شغفوا بالبحث عن منابع الجمال والبلاغة والإعجاز، ومن بين هؤلاء الجاحظ (255هـ) الذي أدرك أن غاية الكلام ومنتهاه هو مطابقته لمقتضى الحال كما أنه تجاوز الإطار اللغوي المحض للمطابقة (البنية اللفظية/البنية المعنوية) واهتم بجوانب خارجية تقتضي البلاغة مراعاتها.
المطابقة عند الجاحظ
لقد أعطى الجاحظ لمفهوم المطابقة معنى أدق وأقرب حينما ذهب إلى أن أصل المطابقة مأخوذ من حرفة الجزار الحاذق الذي يحسن ضربة المفصل فيصيب ملتقى العظمين، لذا نجده كلما تحدث عن البلاغة أشار إلى الإصابة والإيجاز كالنص الذي أورده لابن الأعرابي القائل" قال معاوية بن أبي سفيان لصحار بن عياش العبدي: ما هذه البلاغة التي فيكم؟ قال: شيء تجيش به صدورنا فنقذف به على ألسنتنا...وقال له معاوية: ما تعدون البلاغة فيكم؟ قال: الإيجاز. قال له معاوية: وما الإيجاز؟ قال صحار: أن تجيب فلا تبطئ، وتقول فلا تخطيء..."(3).
وقد ذهب الجاحظ إلى أن الوصول إلى مرتبة الإصابة لابد له من مراعاة أقدار معينة، لخصها بشر بن المعتمر البغدادي في صحيفته التي أوردها الجاحظ في هذا المقام "ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين، وبين أقدار الحالات، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاما، ولكل حالة من ذلك مقاما، حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني، ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات "(4).
فالأقدار عند الجاحظ هي:
1. أقدار المعاني.
2. أقدار المقامات والحالات.
3. أقدار المستمعين.
وبهذا يكون الجاحظ قد خاض في المطابقة، محاولا الإحاطة بكل جوانبها وإنه لسبق علمي، وبساط مستوي مفروش لمن يهتم بأمر البلاغة.
المطابقة عند عبد القاهر الجرجاني
اهتم الإمام عبد القاهر الجرجاني بأسرار البلاغة ومنابع الإعجاز، فاهتدى إلى فكرة النظم التي جعل منها مصدرا للبلاغة والإعجاز فما هو النظم؟ وما علاقته بالمطابقة؟
لقد صاغ عبد القاهر الجرجاني فكرة النظم على شكل نظرية واضحة المعالم مستفيدا من كل ما دار قبله، فالنظم في نظره ناتج عن ترتيب الألفاظ في النطق (البنية اللفظية) بحسب ترتيب المعاني في النفس(البنية المعنوية)، وهذا الذي وضحه قوله "وأما نظم الكلم فليس الأمر فيه كذلك، لأنك تقتفي في نظمها آثار المعاني، وترتيبها على حسب ترتيب المعاني في النفس، وليس النظم الذي معناه ضم الشيء إلى الشيء كيف جاء واتفق"(5). كما قال في موضع آخر: "وأن العلم بمواقع المعاني في النفس، علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق"(6).
فالنظم عند الجرجاني ليس مقصورا على نظم الألفاظ وتتابعها، إنما هو ترتيب ونظم مرتبط بنظم المعاني في النفس "...ضرورة من حيث أن الألفاظ إذا كانت أوعية للمعاني فإنها لا محالة تتبع المعاني في مواقعها، فإذا وجب للمعنى أن يكون أولا في النفس وجب للفظ الدال عليه أن يكون مثله أولا في النطق"(7) وبهذا يكون نظم الكلام عند عبد القاهر الجرجاني نظمين: نظم للكلام في النفس (البنية النفسية أو المعنوية)، ونظم للكلام في النطق(البنية اللفظية).
إن نظم الألفاظ الذي عناه عبد القاهر الجرجاني هو تعليق الكلم بعضه ببعض وترابطه وتماسكه " معلوم أن ليس النظم سوى تعليق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب بعض..."(8)، فالتفاضل عنده ليس للألفاظ من حيث هي عواطل، إنما هو للألفاظ داخل النظم والتأليف "وهل يقع في وهم – وإن جهد- أن تتفاضل الكلمتان المفردتان من غير أن ينظر إلى مكان تقعان فيه من التأليف والنظم، بأكثر من أن تكون هذه مستعملة وتلك غريبة وحشية"(9)، فاختيار الألفاظ يراعى فيه مناسبتها لموقعها من النظم، وارتباطها بغيرها من الألفاظ، فما نظم الألفاظ وتعليقها ببعضها البعض عند الجرجاني إلا توخيها لمعاني النحو" واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها"(10).
والعلم بمعاني النحو، علم بنظم الكلم نظما تقتضيه الأغراض والمعاني. "وإذ قد عرفت أن مدار أمر النظم على معاني النحو وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه، فاعلم أن الفروق والوجوه كثيرة ليس لها غاية تقف عندها... ثم اعلم أن ليست المزية بواجبة لها في أنفسها ومن حيث هي على الإطلاق، ولكن تعرض بسبب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام، ثم بحسب موقع بعضها من بعض، واستعمال بعضها مع بعض."(11)، فعلى هذا الأساس يكون اختيار الناظم لكلماته وحروفه"... فيعرف لكل من ذلك موضعه ويجيء به حيث ينبغي له وينظر في الحروف التي تشترك في معنى ثم ينفرد كل واحد منها بخصوصية في ذلك المعنى فيضع كلا من ذلك في خاص معناه"(12).
لقد أشار عبد القاهر الجرجاني إلى أن الإخلال بترتيب الألفاظ وتعليق بعضها ببعض إخلال بالمعنى المراد تأديته، ذلك لأن كل بنية معنوية لها بنية لفظية تناسبها وتقابلها، وتستوفي معناها " فلو أنك عمدت إلى بيت شعر أو فصل نثر فعددت كل كلماته عدا كيف جاء واتفق، وأبطلت نضده ونظامه الذي عليه بني، وفيه أفرغ المعنى وأجري، وغيرت ترتيبه الذي بخصوصيته أفاد، وبنسقه المخصوص أبان المراد نحو أن تقول في: قفا نبكي من ذكرى حبيب ومنزل " منزل قفا ذكرى مـن نبكي حبيب" أخرجته من كمال البيان إلى محال الهذيان"(13).
فالبنية المعنوية العميقة واحدة، أما البنى السطحية أو اللفظية متعددة، لكن الصياغة الأقرب والأكثر عمقا، وارتباطا بالبنية العميقة هي التي يجب على الناظم اختيارها من بين كل تلك البنى، وهكذا نجد أنفسنا نردد ما جاءت به النظرية التحويلية التوزيعية لتشومسكي.
إننا إذا ما تتبعنا كل النصوص التي سبق ذكرها فإننا نستطيع القول إن حديثه هذا كله يدور حول فكرة واحدة هي المطابقة؛ لأن الكلام عنده كلام نفسي وكلام لفظي، والبلاغة –عنده- هي مطابقة الكلام اللفظي للكلام النفسي وذلك بحسن الدلالة وتمامها ثم تبرجها في صورة تستنطقها وتطابقها فتكون أبهى صورة وأجملها "... ولا جهة لاستعمال هذه الخصال غير أن يؤتى بالمعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته ويختار لها اللفظ الذي هو أخص به، وأكشف عنه وأتم له، وأحرى بأن يكسبه نبلا ويظهر فيه مزية"(14)، فبهذا تكون المطابقة عند عبد القاهر الجرجاني هي أساس حكمه على الكلام بالبلاغة أو عدمها، فما النظم الذي يتواصفه البلغاء، وتتفاضل مراتب البلاغة من أجله، إلا نظم في الألفاظ يطابق نظما في المعاني، وعلى حسب درجة هذه المطابقة يكون التنافس والتفاوت.
فالنظم هو ميدان التنافس وكل القائلين ينظمون، ولكن ليس كل الناظمين مطابقين لأن المطابقة في الكلام درجات متفاوتة، فلذلك كانت البلاغة درجات متفاوتة " والمجانس له درجات كثيرة، وحتى تتفاوت القيم التفاوت الشديد كذلك يفضل بعض الكلام بعضا ويتقدم منه الشيء الشيء، ثم يزداد من فضله ذلك ويترقى منزلة فوق منزلة، حتى ينتهي إلى حيث تنقطع الأطماع وتحسر الظنون وتسقط القوى وتسوى الأقدام في العجز"(15).
مستويات المطابقة عند عبد القاهر الجرجاني:
إن المطابقة عند عبد القاهر الجرجاني قائمة بين البنية المعنوية والبنية اللفظية، والبنية اللفظية هي الطرف الظاهر البائن الذي يكشف عن تلك البنية المعنوية العميقة "اعلم أن الكلام هو الذي يعطي العلوم منازلها ويبين مراتبها ويكشف عن صورها...فلولاه لم تكن لتتعدى فوائد العلم عالمه، ولا يصح من العاقل أن يفتق عن أزاهير العقل كمائمه ولتعطلت قوى الخواطر والأفكار من معانيها، واستوت القضية في موجودها وفانيها"(16).
وقد تكون هذه المطابقة من جهة إخراج الكلام وفق مقتضى الظاهر (المعيار) أو تكون من جهة إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر (العدول).
فأما الأول فهو لا يخالف المعيار، ولا يخرج عنه، إنما يأتي كلاما منظوما مراعيا ترابط الألفاظ بعضها ببعض مطابقا للمعاني والأغراض، وقد ورد هذا الضرب في القرآن الكريم خاصة في مواضع التشريع والمنطق.
أما الثاني فهو إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، والعدول به من المعيار إلى اللامعيار، وقد أفاض عبد القاهر الجرجاني في الحديث عن هذا الضرب من الكلام (العدول) بجانبيه التنظيري والإجرائي، فلمسنا من حديثه أن مستويات العدول عنده من أجل المطابقة هي: مستوى العدول باللفظ، ومستوى العدول بالتركيب. "اعلم أن الكلام ينقسم قسمين قسم تعزى المزية والحسن فيه إلى اللفظ وقسم يعزى ذلك فيه إلى النظم"(17).
1. مستوى العدول باللفظ:
تحدث عبد القاهر الجرجاني عن العدول باللفظ والإتيان به على خلاف مقتضى الظاهر وذلك من أجل مطابقة مقتضى الحال الداعية للكلام "فالقسم الأول الكناية والاستعارة والتمثيل الكائن على حد الاستعارة وكل ما كان فيه على الجملة مجاز واتساع وعدول باللفظ عن الظاهر، فما من ضرب من هذه الضروب إلا وهو إذا وقع على الصواب وعلى ما ينبغي أوجب الفضل والمزية..."(18). فتناول عبد القاهر الجرجاني كل ضرب من هذه الأضرب بالشرح والتمثيل.
2. مستوى العدول بالتركيب:
تحدث عبد القاهر الجرجاني عن العدول بالتركيب ووروده على خلاف مقتضى الظاهر الداعية لإخراج الكلام نحو: التقديم والتأخير، والحذف، والفصل والوصل والقصر والاختصاص. فأورد لكل باب حظه من التمثيل والتطبيق.
هذه هي نظرية المطابقة عند عبد القاهر الجرجاني، والتـي استخلصناهـا من مجموع نصوصه، وتطبيقاته والتي أطال فيها الحديث فكانت هي الخيط الخفي الذي بنى عليه نظريته في النظم.
لكن الحديث عن المطابقة لم يتوقف عند عبد القاهر الجرجاني بل خاض فيه من جاء بعده أمثال الخطيب القزويني (739هـ) الذي استفاد مما دار في كتب الجرجاني ولخص النظرية تلخيصا تاما ومركزا.
المطابقة عند القزويني:
لقد صرح القزويني بمفهوم المطابقة تصريحا واضحا مباشرا، جاعلا منها، هو كذلك، منبعا ومصدرا للبلاغة إذ قال: "وأما بلاغة الكلام فهي مطابقته لمقتضى الحال..."(91)، وذهب إلى أن المطابقة هي ما أسماه عبد القاهر الجرجاني بالنظم في قوله "وهذا أعني تطبيق الكلام على مقتضى الحال يسميه الشيخ عبد القاهر الجرجاني بالنظم حيث يقول: "النظم تآخي معاني النحو فيما بين الكلم على حسب الأغراض التي يصاغ لها الكلام"(20).
فالكلام البليغ عند القزويني هو الكلام الذي يطابق مقتضى الحال أو الاعتبار المناسب، والتفاوت في الكلام، في نظره، راجع إلى درجة هذه المطابقة "وارتفاع شأن الكلام في الحسن والقبول بمطابقته للاعتبار المناسب وانحطاطـه بعدم مطابقته له"(21)، لذلك كان للبلاغة عنده طرفان: "أعلى إليه تنتهي، وهو حد الإعجاز، وما يقرب منه وأسفل منه تبتدئ، وهو ما إذا غير الكلام عنه إلى ما هو دونه التحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات، وإن كان صحيح الإعراب...وبين الطرفين مراتب كثيرة متفاوتة"(22).
إن مطابقة الكلام عند القزويني هي أن يشتمل الكلام على خصوصية ما استدعتها الحال: "والحال هو الداعي للمتكلم إلى إيراد الكلام على وجه مخصوص أي إلى أن يعتبر مع الكلام الذي يؤدي به أصل المعنى خصوصية ما وهي مقتضى الحال"(23).
ويذهب القزويني إلى أن مقتضيات الأحوال مختلفة وعلى المتكلم معرفتها ومراعاتها حتى يكون كلامه بليغا "ومقتضى الحال مختلف، فإن مقامات الكلام متفاوتة فمقام التنكير يباين مقام التأخير، ومقام الذكر يباين مقام الحذف ومقام القصر يباين مقام خلافه، ومقام الفصل يباين مقام الوصل، ومقام الإيجاز يباين مقام الإطناب والمساواة..."(24)، فهذه كلها مقامات يبحث فيها في علم المعاني، أو علم التراكيب.
أما قوله "وكذا لكل كلمة مع صاحبتها مقام..."(25) وذلك نحو اختلاف مقام أدوات الشرط المقترنة بالفعل، فمقام اقتران (إن) بالفعل، ليس هو مقام اقتران (إذا) الشرطية بالفعل.
كما أعطى القزويني اعتبارا لحال المخاطب ودرجته في قوله "وكذا خطاب الذكي يباين خطاب الغبي"(26) "...لأن الذكي يناسبه من الاعتبارات اللطيفة والمعاني الدقيقة الخفية ما لا يناسب الغبي"(27).
مستويات المطابقة عند القزويني:
بعد أن بين القزويني مفهوم المطابقة انتقل إلى الحديث عن علوم البلاغة التي بها يعرف الخصوصيات التي تجعل من الكلام مطابقا فبليغا، قال القزويني "البلاغة: مرجعها إلى الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد، وإلى تميز الكلام الفصيح من غيره"(28).
1. التميز: وهو تميز الكلام الفصيح من غيره: "...منه ما يتبين في علم متن اللغة، أو التصريف أو النحو، أو يدرك بالحس..."(29).
2. الإحتراز: وهو كما بينه القزويني احتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد، واحتراز عن التعقيد المعنوي.
2. 1. الإحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد: وهو ما يهتم به في علم المعاني. وعلم المعاني عند القزويني هو "علم يعرف به أحوال اللفظ التي بها يطابق مقتضى الحال"(30). وله ثمانية أبواب هي: أحوال الإسناد الخبري، أحوال المسند إليه، أحوال المسند، أحوال متعلقات الفعل، القصر، الإنشاء، الفصل والوصل، الإيجاز والإطناب والمساواة.
فعلم المعاني علم يهتم بأحوال التركيب، وقد خصه القزويني بالشرح والتطبيق.
2.2 الإحتراز عن التعقيد المعنوي: وهو ما يهتم به في علم البيان، وعلم البيان عند القزويني "هو علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطريقة مختلفة في وضوح الدلالة عليه"(31)، ومعنى قوله "إيراد المعنى الواحد" "أي المدلول عليه بكلام مطابق لمقتضى الحال، فاعتبار علم البيان إنما هو بعد اعتبار علم المعاني...نحو إن زيدا لمضياف، أو لكثير الرماد، فإفادتها لذلك المعنى بدلالة المطابقة كالمثال الأول من وظيفة علم المعاني، وإفادتها له بغيرها من وظيفة علم البيان"(32) فهذا العلم يعنى بالمستوى اللفظي. وقد تحدث القزويني في هذا الباب حديثا نظريا وإجرائيا عن التشبيه والمجاز والاستعارة والكناية.
أما علم البديع فهو عند القزويني "علم يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية: تطبيقه على مقتضى الحال ووضوح الدلالة "(33)، فالمحسنات البديعية تحسينها عرضي يأتي بعد رعاية المطابقة ومنها: الطباق، ومراعاة النظير، والإرصاد والمزاوجة، إلى آخره.
هذه هي نظرية المطابقة التي أسسها عبد القاهر الجرجاني ولخصها القزويني.
فإذا كانت هذه هي نظرية المطابقة في البلاغة العربية، فكيف فهمها سيد قطب؟ وكيف طبقها على القرآن الكريم؟ وما هي المستويات التي ارتكز عليها بغية تبيان هذه المطابقة؟
ثانيا: المطابقة عند سيد قطب
سيد قطب دارس حديث جمع بين التجربة الأدبية والنقدية، غير أن اسمه اقترن بالدراسات القرآنية المشهورة: "مشاهد القيامة"، " التصوير الفني" و"في ظلال القرآن". نادى إلى المنهج التأثري الجمالي واستنطاق النص من الداخل دون الزج به في متاهات وفرضيات قد تنقص من قيمته الجمالية.
1. سيد قطب وفكرة المطابقة
إن العمل الإبداعي في نظر سيد قطب هو تعبير جميل موحي مصور لتجربة شعورية داخلية: "إنّــه التعبير عن تجربة شعورية في صورة موحية"(34). فالعمل الأدبي عند سيد قطب يقوم على طرفين إثنين هما: (الشعور/والتعبير)، وهما العنصران اللذان قامت عليهما نظرية المطابقة في البلاغة العربية عند الجرجاني (الكلام النفسي/الكلام اللفظي).
إن الشعور هو الأحاسيس التي ترتسم في كيان المبدع جراء تجربة ما، فالتجربة الشعورية تجربة باطنية غير ظاهرة، ومهما بلغت قيمتها، ودرجتها فإنها تبقى دفينة محبوسة إذا لم يعبر عنها. "فالتجربة الشعورية هي العنصر الذي يدفع إلى التعبير ولكنها بذاتها ليست هي العمل الأدبي، لأنها مادامت مضمرة في النفس لم تظهر في صورة لفظية معينة، فهي إحساس، أو انفعال لا يتحقق به وجود العمل الأدبي"(35).
أما التعبير الذي يقصده سيد قطب فهو تعبير مختلف، يميز العمل الإبداعي عن غيره، بل يميز بين مبدع وآخر، وهو الطرف الظاهر، والبائن الذي يخرج تلك التجربة الشعورية الباطنية في صورة موحية تأثر في نفوس السامعين. "ولكن التعبير عن التجربة الشعورية لا يقصد به مجرد التعبير، بل يرسم صورة لفظية موحية، مثيرة للانفعال الوجداني في نفوس الآخرين، وهذا هو شرط العمل الأدبي وغايته، وبه يتم وجوده ويستحق صفته"(36).
وبهذا يكون للعمل الإبداعي عند سيد قطب طرفان: الأول باطن أطلق عليه مصطلح "القيم الشعورية"، والثاني ظاهر لفظي سماه "القيم التعبيرية." فالعمل الأدبي في نظر سيد قطب وحدة قوية جمعت بين القيم الشعورية والقيم التعبيرية حتى أنها بدت شيئا واحدا لا يمكن فصل أجزائه، غير أنه يستدرك ويقول إن هاتين القيمتين متعاقبتان بالقياس الشعوري، لأن الألفاظ في النطق تابعة للمعاني في النفس ومتحدتين بالقياس الوجودي الأدبي: "العمل الأدبي وحدة مؤلفة من الشعور، والتعبير وهي ذات مرحلتين متعاقبتين في الوجود بالقياس الشعوري ولكنها بالقياس الأدبي متحدثان (كذا) في ظـرف الوجود"(37).
إن هذه الوحدة التي يتحدث عنها سيد قطب والتي يراها سمة العمل الأدبي المتميز المؤثر في الآخرين، ناتجة عن قدرة المبدع على مطابقة القيم التعبيرية للقيم الشعورية "إذ إنه في الغالب من حالاته يتمتع بقسط أكبر من الوعي والمعاناة والاختيار ليطابق بين القيم الشعورية والقيم التعبيرية، ووظيفته حينئذ أن يهيئ للألفاظ نظاما، ونسقا، وجوا يسمح لها بأن تشع أكبر من شحنتها من الصور والظلال والإيقاع..."(38).
وقد أشار سيد قطب إلى أن هذه المطابقة غير تامة في أعمال البشر، لأنه من الصعب على أي كان أن يطابق بين شعوره وتعبيره مطابقة تامة، فهي نسبية متفاوتة بين بني البشر: "إن الرصيد المدخور من الألفاظ، وصورها وظلالها وإيقاعها في الذاكرة أو في ما وراء "الوعي" قد انطلق متناسقا متناغما مع الانفعال الشعوري بالتجربة الحاضرة، وقد تم في هذه الحالة الفذة أن تشع الألفاظ أكبر شحنة من صورها، وظلالها وإيقاعها فتطابق الانفعال الشعوري مطابقة تامة أو مقاربة، أو قلما تستطيع الألفاظ مهما حفلت من الظلال، والإيقاع أن تستنفذ الطاقة الشعورية"(39).
فعلا إننا نحس بهذه النسبية وهذه التقريبية كلما حاولنا التعبير وحاولنا إيصال ما يجول بخاطرنا، فنشعر أن اللغة قاصرة، وفي الحقيقة إننا نحن القاصرون؛ إذ إنا نعجز في الكثير من الأحيان على أن نعبر بلغة تطابق ما نود البوح به، عكس المبدعين الذين يحققون نسبة من هذه المطابقة لأن لهم القدرة على ترويض اللغة وتطويعها، فتعبر عن معانيهم ومشاعرهم.
وقد نبه سيد قطب في نص آخر إلى أنه لا يوجد نص يحقق المطابقة التامة وإن وجد فلا يكون هذا إلا من صنع الإلهام: "وتناسق التعبير مع الشعور، وتطابق الانفعال الشعوري مع شحنات الألفاظ، واستنفاذ العبارة اللفظية للطاقة الشعورية هو ما يوصف بأنه عمل من صنع الإلهام"(40).
كان هذا هو المفهوم النظري للمطابقة عند سيد قطب، وهو نفسه المفهوم الذي وجدناه في كتب البلاغة التراثية فكيف طبقه سيد قطب على القرآن الكريم؟ وما هي مستويات هذه المطابقة عنده؟
2. مستويات المطابقة عند سيد قطب
بعد أن خاض سيد قطب التجربة الإبداعية فالنقدية، انتقل إلى ميدان الدراسات القرآنية، فتفرغ لها تفرغا تاما منتجا بذلك المؤلفات الإعجازية الثلاثة السالفة الذكر. فتعامل سيد قطب مع القرآن الكريم بنفس المنهج الذي دعا إليه، وهو المنهج التأثري الجمالي، فكان يقينه كبيرا في أن القرآن الكريم معجز في نسقه اللغوي، كيف لا وقد أعجزت السور القلائل الأولى العرب الأقحاح وليس فيها إعجاز علمي، ولا غيبـي ولا تشريعي. "لا بدّ إذاً أنّ السحر الذي عناه كان كامنا في مظهر آخر غير التشريع والغيبيات، والعلوم الكونية، لا بدّ أنّه كامن في صميم النسق القرآني ذاته..."(41). ولم يخف سيد قطب إعجابه الكبير بإمام البلاغيين صاحب نظرية النظم -الأمام عبد القاهر الجرجاني- الذي خاض خوضا متميزا في النسق القرآني فكشف عن أسراره وخفاياه.
ومن أجل الوصول إلى هذا السحر الذي أحسه سيد قطب، وآمن به انكب على دراسة النص القرآني، فكان تعامله تعاملا مباشرا لا تقيده لا المناهج، ولا النظريات، ولا حتى التفسيرات، بل كان يقرأ القرآن الكريم كما تلقاه العرب الأوائل ليعرف سر سحره وتأثيره على النفس البشرية، لذلك كانت تعليقاته تصف الظاهرة وصفا تأثريا عاما، وتسجل درجة انفعاله مع الآيات القرآنية، وتفتقر في الكثير من الأحيان إلى التعليلات العلمية.
لقد برز من خلال دراسات سيد قطب وتطبيقاته على القرآن الكريم انبهاره وذهوله من قدرة هذا النسق القرآني الكريم على مطابقة معانيه مطابقة تامة، تشد العقل وتثير في النفس انفعالات شتى، فالقرآن الكريم هو "... العطاء المتجدد والينبوع الصافي العذب الذي بهر العقول وأراح النفوس وطمأن القلوب ... وكيف لا يكون كذلك وقد راعى الأحوال، وقدر الظروف، وسبر أغوار النفوس ... إذ جاء رغم كل ذلك مقتضيا الحال، مغنيا في كل مقام عن أي مقال ومقال"(42).
لقد ارتكز سيد قطب في حديثه عن المطابقة في النص القرآني على ثلاثة مستويات استخلصها من صميم النسق القرآن ذاته هي: المستوى اللفظي، المستوى الإيقاعي، المستوى التصويري. فتحدث عن اللفظة القرآنية المتميزة التي لها خصائص تشعها وهي ملتحمة في هذا النسق فطابقت معناها، وصورته تصويرا دقيقا رائعا، فمن هذه الخصائص اللفظية ما هي صوتية (الجرس)، ومنها ما هي دلالية (الظل).
كما تنبه سيد قطب لعنصر الإيقاع الذي هيمن على النسق القرآني كله فوجده إما إيقاعا قويا سريعا، أو إيقاعا ضعيفا مسترسلا، فربطه بالمعاني والدلالات التي يصاحبها. وقد أعطى سيد قطب لظاهرة التصوير في القرآن الكريم قيمة جليلة ومزية كبيرة، فبين كيف استطاع التصوير القرآني العام (تصوير بالوصف، وتصوير بالاستعمال البياني) تحقيق معانيه بكيفية تضمن الإمتاع والإقناع معا.
= = =
الهوامش
م ن = المصدر نفسه.
1. ابن منظور. لسان العرب. مادة (ط ب ق).
2. م ن. مادة (ط ب ق).
3. الجاحظ. البيان والتبيين: 96.
4. م ن: 93.
5. عبد القاهر الجرجاني. دلائل الإعجاز: 40.
6. م ن: 44.
7. م ن: 43.
8. م ن: المدخل.
9. م ن: 36.
10. م ن: 64.
11. م ن: 69
12. م ن: 36.
13. عبد القاهر الجرجاني.أسرار البلاغة: 64.
14. عبد القاهر الجرجاني. دلائل الإعجاز: 35.
15. م ن: 29.
16. عبد القاهر الجرجاني. أسرار البلاغة: 21.
17. عبد القاهر الجرجاني. دلائل الإعجاز: 329.
18. م ن: 329.
19. القزويني. الإيضاح. ج 1: 42.
20. م ن: 44.
21. القزويني. الإيضاح. ج 1 :43.
22. م ن: 46-47.
23. محمد عبد المنعم خفاجي. من شرح اليضاح. للقزويني: 41.
24. القزويني. الإيضاح. ج 1: 42-43.
25. م ن: 43.
26. م ن: 43.
27. محمد عبد المنعم خفاجي. من شرح الإيضاح للقزويني: 43.
28. م ن: 49.
29. م ن: 50.
30. القزويني. الإيضاح: 52.
31. القزويني. الإيضاح. ج 2 :4.
32. محمد عبد المنعم خفاجي. من شرح الإيضاح: 4-5.
33. القزويني. الإيضاح. ج 2: 4.
34. سيد قطب. النقد الأدبي أصوله ومناهجه: 7.
35. م ن: 19.
36. م ن: 7.
37. م ن: 3.
38. الخالدي. مدخل إلى ظلال القرآن: 87.
39. سيد قطب. النقد الأدبي: 37.
40. م ن: 37.
41. م ن: 17.
42. سميرة عدلي محمد رزق. مقتضى الحال: مفهومه وزواياه في ضوء أسلوب القرآن الكريم.