عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

ربــا الـنــاصـر - الأردن

تالا وشجرة السنديان

قصة للصغار


كانت تمشي بين صفي المقاعد الخشبية ممسكة العصا بيدها، وقد بدا على وجهها علامات الغضب، فاليوم هو الأحد، أي يوم التفتيش عن النظافة الشخصية لطالبات الصف الثاني الابتدائي. توقفت عند مقعدها، وبصوت بدا كالنشاز:

"تالا، قفي حتى أتفحص ثيابك."

وما هي إلا لحظات حتى رصدت عينا المعلمة وداد جسدا صغيرا يعلوه شعر أسود كثيف. كانت تالا تقف بخجل وخوف بدوا واضحين على وجهها وهي تعلم في قرار نفسها مدى الكره الذي تحمله لها المعلمة وداد دون أي ذنب لها سوى أنها ابنة الطبيب الذي رفض تقديم الدواء لها درءا للمحسوبية، وخشية أن يظلم المحتاجين له.

تفحصتها المعلمة من رأسها حتى أخمص قدميها وفي قلب تالا كل الأمل في أن تغشى عن رؤية بقعتين من ثمار التوت الأحمر المتناثرتين على ياقتها البيضاء. لكن ثواني قليلة كانت تفصلها قبل أن يملأ الحزن قلبها الصغير بعد اكتشافهما. عاقبتها المعلمة بالوقوف أمام لوح الصف طيلة الدوام، حارمة إياها من تناول شطائرها في وقت الاستراحة، الأمر الذي خلق هالة من الاستفسارات أشغلت تفكير زميلاتها من كل صوب: "ترى ما هو شعور تالا في هذه اللحظة؟"

لم تستطع الصغيرة تالا إخفاء حقيقتين: الجوع، والكره، سواء للمعلمة وداد أو للمدرسة أو للوح الذي تقف عنده يوميا، ففي كثير من اللحظات كانت تتذكر كل المواقف المضجرة عند وقوفها أمام لوح الصف، مسترجعة من مخيلتها الغضة تأنيب المدرسة لها، واصفة إياها بالغبية التي لا يملأ رأسها سوى التراب الناعم. وتذكر أيضا ذلك اليوم عندما وزعت الشهادات المدرسية في نهاية العام حيث احتلت تالا المركز العاشر بين زميلاتها، فطلبت المعلمة وداد من زميلاتها السخرية منها وجعلها مثلا للكسل.

مع دقات جرس الساعة الثانية ظهرا، انتهى الدوام الرسمي في المدرسة بالنسبة للجميع، أما بالنسبة لها فكان نهاية الغمة التي أطبقت على صدرها وتنفس الحرية. لذا، بكل ما أوتيت من قوة، ركضت نحو باب المدرسة. تخطته بكل ما أوتيت من حب للبحث عن حرية تحتضن عقلها الصغير، حرية ترصد فيها أمورا تتناسب وخيالها الواسع، فكم تاقت نفسها للدخول إلى أساطير الأزمنة الغابرة والإبحار في خرافاتها لعلها تجد من يفهم عقلها الذي كثيرا ما جادلت به معلمتها سائلة إياها عن أمور عجزت عن الرد عليها.

ركضت تالا حتى وصلت إلى الغابة القريبة من بيتها. كانت تمشي وهي تنظر إلى ظلها من تحتها وقد بدا كبقعة سوداء. كانت في حقيقة الأمر تمشي في المكان الذي تحبه، بل في مرتع خيالها حيث يولد أبطال وتنسج حبكات قصصهم الخيالية من وحي الطبيعة التي تحاول تالا فهمها رغم صغر سنها، فكم من المرات عند استلقائها على العشب تتخيل وجه امرأة سعيدة بين السحب تبتسم لها وكأنها تعلمها بقدوم مستقبل أفضل مما هي عليه الآن! لكن سرعان ما يندثر وجهها مع تحرك الرياح.

أما الزهور المتناثرة في الغابة فكانت بمثابة المرآة التي تعكس ما بداخلها من أحزان تبثها للزهور المتباينة الألوان، ففي كل يوم تقف تالا أمامها وتقص عليها ما ينغص صفو أفكارها البريئة. لكنها في النهاية لا تتلقى ردا منها، وتكتفي تالا باستنشاق أريجها الفواح. اليوم كانت تمشي وسط الزهور وشفتاها تديران لحنا حزينا بأنغام ثقيلة الوقع على نفسها الصغيرة. جلست تحت شجرة سنديان قديمة جدا، ذات جذع ضخم، أسندت عليه تالا ظهرها متنهدة من فرط الحزن الملم بها، وقد نظرت نحو الأشياء المحيطة بها بشرود، ولكن بمجرد تحرك الزهور جراء مرور نسمات هواء عليل بالقرب منها، ظهرت مفاجأة أخرجت تالا من شرودها.

"تالا. تالا. ما بك عزيزتي حزينة؟"

التفتت تالا حولها والدهشة تلبسها باحثة عن مصدر الصوت، حتى ظهر أمامها طيف لامرأة عجوز ترتدي ثوبا ناصع البياض مثل شعرها المصفف كأشواك مدببة. تفحصت العجوز وجه تالا الفزع وهلة حتى طمأنتها قائلة:

"حلوتي الصغيرة لا تخشيني، فأنا امرأة عجوز. أسكن شجرة السنديان هذه منذ مئات السنين، أراقب المارة في الغابة، وأراقب تصرفاتهم المتباينة، لكنك وحدك من بين جميع الناس الذين راقبتهم تتخذين الطبيعة أما لك. وحدك تحافظين على أحاسيسها الرقيقة."

تأملت تالا وجهها وقد جذبها كلامها العذب فأجابتها بصوتها الحاد وقتما فرغت من الحديث:

"أعلم ما تقصدينه، لكن هذا ما أشعر به تجاهها، فهذه الشجرة وحدها تعرف معنى ارتطام المطر بورقها، وحدها تعلم معنى لفح أشعة الشمس لجذعها، وحدها تعلم حقيقة التنفس في ظلام الليل. كل هذه الأمور أتمنى أن تدركها المعلمة وداد بدلا من تعليمنا جمود الحياة من حولنا..."

قاطعتها العجوز: "ومن هي المعلمة وداد يا تالا؟"

ردت تالا: "معلمتي في الصف. أنا أحبها لكنها دائمة الخلاف معي بسبب أمر لا أحب ذكره، فأنا أحاول دوما شرح ما أفكر فيه من أمور تجري حولي محاولة استيعابها قدر استطاعة قدراتي المتنامية. كثيرا ما تعتقد المعلمة أنني أتربص بها حتى أحرجها. لذا هي دائمة الخلاف معي، ولا تكاد تطيق رؤيتي."

وما أن أنهت تالا كلامها حتى بدأت الشمس تميل عن وسط السماء باتجاه التلال الغربية حيث تختبئ بينها كل يوم، مسدلة الستار عن أحداث يوم شيق اختتمته العجوز والبسمة لصيقة شفتيها:

"تالا لقد حان وقت الرحيل، عليّ الرجوع إلى الشجرة قبل حلول الظلام، لكن لا تنس أن نلتقي هنا كل يوم."

هزت تالا رأسها بالإيجاب واعدة إياها بالمداومة على ذلك وهي تعلم في داخلها أنها كسبت صديقة جديدة تتحاور معها وإن كانت طيفا من وحي خيالها.

ركضت مسرعة باتجاه البيت. دخلته مع بزوغ أول نجم في السماء. كانت أمها في حينها قد فرغت من إعداد كعكة السكر وكوب الحليب الساخن. رمقتها أمها للحظات قبل أن تسألها:

"تالا، لماذا تأخرت على موعد العشاء؟"

أجابتها تالا وهي تلتهم قطعة من الكعكة:

"آسفة يا أمي. لقد تأخرت وأنا أتمشى في الغابة. لن أكررها مرة أخرى."

قد تظهر الأم بعض التسامح في الوقت الحاضر لكن التساؤل المطروح هل ستتقبل أعذار التأخير في الأيام المقبلة؟

في الواقع تالا لا يهمها الآن سوى اللقاء بتلك العجوز، فكم تتمنى لو استطاعت فض اشتباك خيوط الليل الحالمة بخيوط النهار الرقيقة ليتسنى لها مجالستها والحديث معها عن مجريات أحداثها، خاصة مع المعلمة وداد التي فشلت معها كل الطرق المقترحة في كسب قلبها والتقرب منها، ولا تقبل لها عذرا مهما كان، حتى يوم وجدت تالا قطة صغيرة ذات رجل مكسورة بالقرب من حديقة المدرسة، فأحضرتها إلى عيادة المدرسة لتجبير كسرها، فتطلب الأمر الكثير من الوقت فتأخرت عن المجيء إلى الصف، فكان ذلك كان كفيلا في إثارة غضب المعلمة وداد جراء تأخير تالا عن حصة العلوم حيث سبب التِأخير لم يكن مقنعا بالنسبة لها.

في طريق عودتها مرت على الغابة ووقفت أمام شجرة السنديان القديمة منتظرة خروج المرأة العجوز لكنها لم تخرج، فزاد الحزن في قلبها ودفعها للبكاء بصوت عال خرجت على إثره العجوز وهي فزعة:

"ما خطبك عزيزتي؟ لم كل هذا البكاء؟"

أجابتها تالا: "لقد سئمت كل المحاولات في الحظي بقلب المعلمة وداد. أريدها أن تحبني. أرجوك ساعديني في ذلك."

نظرت العجوز إلى تالا مشفقة على حالها فما كان منها إلا أن طلبت منها بصوتها الدافئ أن تنظر إلى النهر الصغير القريب من الشجرة وأن تنتظر قليلا. وفعلا اقتربت تالا من النهر ونظرت إليه، فلم تر سوى وجهها الشاحب. لكنها حركت مياهه بإصبعها الصغير، مشتتة بذلك صورتها فتظهر صورة المعلمة وداد بعد أن سكنت المياه واستقرت. ظهرت صورتها بملامح وجهها الدقيقة التفاصيل ونظارتها الطبية السميكة. ظهرت عابسة كما اعتادت عليها تالا. عندها طلبت العجوز من تالا أن تخاطبها وتوضح لها حقيقة مشاعرها تجاهها. وبمجرد انتهائها هب هواء خفيف فوق سطح النهر الذي كان يلمع بضوء القمر، مخفيا نتيجة هذه المحاولة في شقيها الإيجابي والسلبي.

لكن ما أن ظهرت صورة المعلمة وداد بملامح جديدة حتى سرى الصفو في جميع جسد تالا وتبدد الخوف من فشل المحاولة، فالابتسامة كانت العلامة المميزة لصورتها، كأنما قلبها خفق بالحنان تجاهها، وسينعكس ذلك على تصرفاتها إيجابا مع تالا السعيدة التي بدورها شكرت العجوز بعينين ترقرقتا بالدموع، وركضت بعدها بسرعة جنونية مبتعدة عن الغابة، منتظرة إشراق يوم جديد بشمسه الجميلة، مبتدئة حياة جديدة بالنسبة لها، ففي الحصة الأولى وكما جرت العادة مشت المعلمة وداد بين صفوف المقاعد الخشبية ووقفت أمام مقعد تالا، تأملتها قليلا ثم قالت لها بنبرة هادئة:

"صباح الخير يا تالا، هل لي أن أرى ثيابك؟"

التفتت تالا حولها غير مصدقة لما سمعت، وقد أحست بامتلاك لحظة سعيدة أرادت أسرها في قلبها إلى الأبد.

مضى اليوم الأول هادئا تخلله تغير أسلوب المعلمة وداد تجاه الصغيرة تالا وسط نظرات الدهشة والاستغراب المقروءة في أعين زميلاتها. بعد عدة أسابيع بدأت نظرات الحقد تسيطر عليهن بعد ملاحظة اهتمام المعلمة بها وكأن شيئا لم يكن.

في الواقع لقد تملك الفضول منهن في معرفة سبب هذا التغير. وحتى لو أخبرتهن تالا الحقيقة لن يصدقن أن طيف امرأة غير مشاعر امرأة صارمة وقاسية، لكنهن لا يعلمن أن أمام تالا مشكلة صعبة فمع كثرة مضايقات زميلاتها لها ونعتها بالفتاة المنافقة.

قررت تالا الذهاب للعجوز ومناداتها أمام شجرة السنديان، وفعلا بعد انتهاء الدوام المدرسي مشت ببطء على الرصيف حتى وصلت إلى مدخل الغابة حيث أوقفتها لوائح معدنية منصوبة على الأرض، وقد كتب عليها "ممنوع الاقتراب، أعمال بناء في الموقع." بمجرد أن قرأتها دب الجنون في جسدها. دخلت إلى الغابة رغم التحذير حتى وصلت إلى مكان شجرة السنديان وقد اقتلعت من جذورها فصاحت في العمال المتجمهرين حولها:

"أين شجرة السنديان؟ أريد مقابلة المرأة العجوز. أريدها أن تعيد لي الأمور كما كانت عليه في السابق. لا أريد أن أعيش وسط كره زميلاتي لي. أرجوكم أين وضعتموها؟ أريد مخاطبتها فقط."

نظر العمال إلى بعضهم ثم انفجروا في الضحك، وقد أمر أحدهم تالا بالخروج من موقع العمل. نظرت تالا نظرة تائهة صوب المكان وهي تغادره. مشت وهي مطأطئة الرأس. كان جسدها يضمحل من بعيد مع بعد المسافة المقطوعة من الغابة. ومع بداية المنعطف صارت نقطة تسري في حياة هي نادمة على خوض غمارها.

D 1 آب (أغسطس) 2008     A ربا الناصر     C 0 تعليقات