عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

بدر الدين عبد العزيز - السودان

صفر على مدار اللامبالاة


بدر الدين عبد العزيز"صلوا على النبي،" قال مفتتحا خطابه.

ردد المحتشدون في صيحة قوية: "عليه الصلاة والسلام."

كان القيادي الضخم، تمساح النيل النبيل، ولهب الصحراء العاصف، زاهيا ببزته العسكرية وبنجومها اللامعة على كتفيه. وقف منتصب القامة على المنصة يزهو تيها، وأمامه عشرات الميكروفونات لقنوات فضائية جاءت من أقاصي الأرض وفجاجها، لتحرق البخور ولتنقل الخطاب للعالم البعيد.

نبرة التحدي لقزم يتطاول متضخما في جبته وهو يصرخ صائحا:

"لن ندين ولن نهان."

صرخ بهذه الكلمات بملء فيه. كل شيء كان معد مرتبا وبإتقان. فقرات الخطاب تتماهى وما يناسبها من شعارات وهتافات يطلقهما بعض المندسين بداخل الحشد الذي يرددها منفعلا وبنبرة تحد زائفة. هذا الزيف، هذا ما يقتله مئة مرة مسمما بدنه ووجدانه المسلوق بنار الظروف الحارقة.

كان يتابع المشهد الجاري بعينيه متمردا على كل الأشياء من شخوص وأرض وسماء وحتى على ذاته، غاضبا على بيئته بشقيها المادي والثقافي بكل رموزها، وهي تبدو لعينه غامضة وغريبة تعج بمتناقضاتها، من موروثات يراها متخلفة تقف إلى جنب مظاهر التحديث الذي أخذ يعتري مظهر البيئة المادية للأشياء.

كيف يمكن مزج كل هذا؟ طرح هذا السؤال على الفراغ الكبير الذي أخذ يمتد متزامنا وامتداد مدى مكبرات الصوت الحديثة الفائقة النقاء، واستطرد متسائلا:

كيف يمكن هضمه والموقف برمته يتسيّده المشعوذون واختصاصيو الدجل؟

كل هذا داخل تظاهرة حداثية وحضارية متمدنة تخدمها تكنولوجيا متطورة مما يزيدها بريقا شفيفا يضفي عليها سحرا ذا بعد ملائكي، رغم عتامة خلفياتها وغموض المضامين القائمة عليها. ثم ذلك الغبش الأسطوري المضروب ستارا حولها ليعشي الناظرين عن تبيان خصائصها، خصائص ذلك العفن والتحلل الذي يعتري أوصال الواقع المكتنز بأمراضه وأورامه الخبيثة.

وصل القيادي الضخم الفخم بخطابه حيث لحظة الانسحاق القصوى مهيئا الحشد بكل طاقته العاطفية قبل الفكرية إلى الاستجابة والانصهار والاندفاع صوب التوق إلى مرافئ الموروث القتالي للصحبة الأولى بفجر الدعوة. تهيأ معلنا صائحا:

"الحرب."

وتدق طبول كانت قد صمتت سنينا بجوف التاريخ حين أغمدت السيوف وترجل الفرسان وهدأت البقاع وركنت إلى السلم. وقتها استوفت الدعوة شروطها. هو ينهضها الآن بصيحته.

"الحرب هي ما نريد. وسوف نسعى إلى الموت بأقدامنا حيثما كان. نحن نطلب الشهادة، فقط الشهادة في سبيل الله. ألا تحبون الاستشهاد في سبيل الله؟"

ثم وبصوت مفعم خشوعا وبصورة درامية متقنة أضاف:

"كلنا نحب الموت."

وبعينيه شبه المغمضتين كان يتابع وقع كلماته على الحشود الجرارة الواقعة تحت جذب سماوي يتمركز ببؤر شعورها، سالبا عاطفتها، والعالم نقطة تتشرذم، تنهار بالحاضر، تتوارى خلف إرث الأرض بمجده الوثني. وتصيح الحشود في معاناة روحية منسحقة تحت نبرات الصوت المقدس: "الله أكبر، الله أكبر،" تطلب الغفران وحسن الخاتمة.

ارتفع صوت الأذان بأذنيه. يدخل طقسه الخاص جدا. حدق بالدرب الطويل الذي كان عليه قطعه والمشي على ممشاه الضيق. وبذهنه تتراقص صور لحشد عظيم لرجال واقعين تحت طائلة جذب سماوي ونساء ذاهلات وصبية وبنات. كلهم مدهوشون لا يعون ما يسمعون وما يشاهدون.

أسرع بخطى تفكيره ليجتاز المسافة الواقعة ما بين مدى ذهنيته وأفق خياله الخصب وهو يتأمل الجنة الموعودة في صمتها المستعصي على الفكر وقوى التأمل القصوى ثم مجانية الأحلام وصوت القائد الضخم الفخم يدوي بمكبرات الصوت ينطلق مجتازا المرحلة الثانية من الخطاب. يبدأها بشعار قوي صائحا:

"تكبير، تهليل."

يتجاوب معه الهتاف متماهيا داويا: "الله أكبر." ثم يدخل ناسجا الأحلام على نول الوهم. ولكنْ هناك دربان عادة: درب يؤدي إلى الحلم والآخر يؤدي إلى الوهم، والحياة ما بين هذا وذاك مضمار حزن لزيف كبير.

القائد يتطاول في حديثه قائلا: "حديقة العالم ستكون هنا. غذاء العالم نضمنه له. نحن سلة غذاء العالمين بملايين الأفدنة البور التي سوف نزرعها."

أحس بجوع عظيم يغزوه إثر هذه الجملة الأخيرة. الآن فقط تذكر أنه لم يتناول غذاء منذ ظهر الأمس. نام جائعا واستيقظ صباح اليوم جائعا. والآن أيضا هو جائع ينتظر امتلاء سلة غذاء العالم بالغذاء.

انتقل الخطاب نقلة مباغتة المناخ الحالم. بلهجة ممتلئة تحديا وإرهابا ووعيدا. وصوت القائد الضخم الفخم مستعليا يربو فوق أفق هامة الأشياء يتضاءل أمامه العالم بما فيه من أمم متحدة وجماعات عدم الانحياز وأحلاف بعضها لا يزال قائما والبعض الآخر منها يتحطم. العالم في تشرذمه يخبو أمامه. وبصوته الجهوري قال:

"سنصّدر الثورة لتجتاح العالم. آن أوان البعث الحضاري الجديد. نحن طلائع مده الثوري. بيدنا الصولجان."

عند هذه النقطة تخيله يضرب أديم العالم الخابي بصولجانه. يتفطر زهوا ومسارب تنقسم إلى ثلاثة وسبعين مسربا، وهم وحدهم الناجون والآخرون مثل فرعون يبتلعهم اليم.

كل ذلك جرى ويجري بباحة البلدة الهادئة التي كانت هادئة قبل أن تقتحمها مكبرات الصوت وتغزوها العربات المظللة الزجاج ومن قبلها الآليات المصفحة . تضيع عذريتها وتتلاشى أمام ميكروفونات الفضائيات القادمة من البعيد القصي. ولأول مرة يختال بأزقتها الكلاشنكوف والأعيرة النارية والعسكر القادمون من المدن الكبيرة، تلك المدن المثخنة بجراح كبتها وسحقها تحت الأحذية القياسية للجند.

البلدة الآمنة، التي كانت آمنة، الآن صرعى ترزح تحت صراع القوى العالمي. تدخل اختلاجات الصراع العالمي. هي الآن مرصودة عبر الأقمار الصناعية العالمية، تحت المجهر مشرحة ومحللة ومشخصة. وأكثر من ذلك قد تكون مختزلة ومصنفة إلى مكوناتها الأولى، عناصر تناسلها الأولى عند البدء من الجد الأول لها حين تكونت عندما أنجب إحدى عشرة ابنا من نسائه وجواريه الحسان. أمامه قطعان إبله مناخة بنوقها الخور العصافير، وعبيده وخصيانه يجولون ما بين يديه. هنا حيث كان موقع خيمته منصوبة لأول مرة ببراري السافانا. وحين مات، بنو له ضريحا تعلوه قبة خضراء أصبحت مزارا مباركا يغشاه كل ذي حاجة ليقدم النذور طالبا البركة واستجابة الدعاء.

تلفت والحيرة تبدو بعينيه والسؤال. رآه خارج الحشد. بعيدا عن الزحام كان يقف. لفت نظره التعبير اللا مبالي الذي يتجسد بموضعه داخل الموقف الجاري. دنا منه. بدت ملامحه لا تنم عن أي تعبير أو حتى انفعال ما. ودون أن يلقي التحية تنحنح وقال متسائلا وكأنه يطرح سؤاله اليتيم على رحاب الكون ليصطدم بأفقه البعيد ثم يرتد خاسئا وحسيرا عندما لم يشأ الآخر الرد عليه.

لم ييأس فقدمه للمرة الثانية آملا قائلا: "البحصل ده معناهو شنو؟"

التفت الرجل اللامبالي وبإصرار على لامبالاته تلك قال: "حيكون شنو يعني؟"

طرح هذا السؤال ردا على ذاك السؤال ليزيد بذلك الواقع إبهاما على ما هو عليه وإرباكا. أراد أن يخرج من مأزقه الحرج بشيء من المعنى فدفع بسؤاله الثاني في شوق إلى الجدل قائلا:

"تفتكر ده كلو ح يسفر عن شنو؟

وبحماقة أكثر من الأولى دفع الرجل اللامبالي في تيه الضوضاء بلغو رده التساؤلي: "يعني ح يسفر عن شنو؟"

أسقط بيده وهو الباحث عن إجابة ولا يحصد شيئا سوى شوك السؤال مردودا إليه خاسئا حسيرا، بلا ثمن للبيع أو حتى للشراء وكأنه انطلق إلى هوة العدم العائد منها بذات الوقت.

التفت للمرة الثالثة نحو الرجل اللامبالي ليطرح سؤاله الثالث حائرا. باغته الرجل اللامبالي قائلا:

"انت بتطرح الأسئلة ليه؟ يعني عشان تصل لنتائج؟ ده منطق برغماتي لكنو بعيد عن المناخ الفلسفي ليهو. فاهمني؟ مع انو الأسباب معروفة وما محتاجة لبحث، يبقى بتتساءل ليه؟"

حقيقة لم التساؤل؟ هذا ما يفكر به دون اقتناع. وهو ليس بالباحث عن الحقيقة وهو يعرفها وهم يعرفونها. هذا الحشد بما فيه من ميكرفونات الفضائيات البعيدة. كلهم يعرفونها. هذه أزمة العالم الثالث يعرف ولا يبالي ثم يطرح سؤاله. ثم ما هو السؤال؟ وقف حائرا أمام المشهد ذاته بينما الحشد قد بدأ يتفرق وكأنه يتمزق، يتشتت.

D 1 آب (أغسطس) 2008     A بدر الدين عبد العزيز     C 0 تعليقات