عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

رامي أبو شهاب - قطر

قصص من المدينة


رامي أبو شهابلقاء

كاد أن يمضي في تلافيف العقل بعيدا ووحيدا، ولي وحدي، لولا أن رائحة مطر طارئ باغتت ذاك اللقاء المضروب في أحد المقاهي الراقية فكاد أن يقتلعه، ولكن تمردت على ترددي، ومضيت إلى ذاك الشارع بعد أن ترجلت من سيارة التاكسي مبللة بالأمل والكلام. صغتُ كل جملة يمكن أن تقال أكثر من مرة. حاولت أن أضع أولويات للتعبير عن نفسي في لقاء لا يمكن أن يوسم سوى بأنه سوف يكون لقاء حافلا بالصمت ربما أكثر من البوح.

جلستُ على الطربيزة الدائرية. كان الجو هادئا، فهذه ليست ساعة ازدحام الزبائن إلا من طاولتين بعيدتين في طرف المحل. لون الهواء رمادي محتقن برائحة صقيع حار. قطرات من المطر تنساب على زجاج شفيف. قطرة تضل وتتعرج صوب الأطراف البعيدة، تسقط وحيدة في قاع أطار الألمنيوم. المارة يتقاطعون، بينما خيوط قطرات المطر تنساب بخطوط مستقيمة بفعل الريح، وتتجه بميل من جهة الغرب لتسقط مخلفة تشتتا ناعما على الأرض الإسفلتية. وفي المقهى المكتسي بدفء خجول، وكالعادة دائما، كان هناك زوجان: ذكر وأنثى، بينما أنا هنا أنثى وحيدة في انتظار رجل سوف يأتي لاحقا أو قد أتى.

شارع جديد

هكذا هي، اعتادت دوما أن تنهي ساعات عملها في المخيطة ومن ثم تعود إلى بيتها في لحظة الغروب التي تحتار في تحديد موقفها اتجاه تلك اللحظة، فالمحايدة التي تكتنفها أكثر مما يسمح لها بإدراك كنهها، ولكن تستطيع أن تتخذ موقفا حاسما اتجاه الطريق التي ترتادها حيث تعبر كل يوم شارعين، واحد مواز للمحل الذي تعمل فيه، والآخر يتفرع من الشارع الأول. تحمل معها حقيبتها الكبيرة، وفيها بقايا العمل، وحافظة الطعام البلاستيكية، وأشياء خاصة كعلبة زينة رخيصة، ومناديل ورقية ومحفظة النقود الصغيرة.

تحمل معها كل يوم وجوها تصادفها، تختزن في ذاكرتها وتضعها هناك في خزانة الذاكرة المحتشدة بالصور ولروائح الشارعين التي دامت لأكثر من خمسة وعشرين عاما. وفي يوم من الأيام تأخرت الشمس عن الغروب، ولكن ساعة المغادرة قد حانت. خرجت من باب المحل لتسير ضمن الشارع الأول، وحين اقتربت من تفرع الشارع الثاني، قررت أن تتجاوزه وتنتهي من الحياد لتسير من الشارع نفسه إلى شوارع أخرى، وكانت هذه لأول مرة منذ خمسة وعشرين عاما.

عم خليل

عم خليل رجل عجوز تجاوز السبعين أكثر أو أقل قليلا، فلا أحد يعلم بعد. يقف كعادته بالقرب من عربته يبيع الكعك منذ ستين عاما، فهو منذ شارفت سنواته العشر على الاكتمال وجد نفسه في الشارع ذاته وفي الزاوية نفسها بعد أن غابت الوجوه التي عرفها، ولم يعرفها. كان وحيدا. ومنذ تلك اللحظة تعلم أن يتواجد كل يوم منذ السادسة صباحا وعلى مدار ستين عاما كي يضمن أن يكون في الحيز والمكان ذاته، وبأنه قادر على أن يمارس فعل الحياة الذي تعرف عليه بصيغة أن يعمل وأن يبقى.

وعم خليل يحتاط لكل ما يمكن أن يواجهه في يومه الشاق صيفا أو شتاء. يبتدئ من عربته التي يحرض على تفحص هواء عجلاتها، بالإضافة إلى حمله منفاخا يضعه في الصندوق السفلي للعربة، وهنالك أيضا علبة التشحيم.

وحين يكون الجو باردا يرتدي معطفا صوفيا ثقيلا ورثه من جده الذي كان جنديا ولكنه لم يره قط، ولكنه رأى معطفه واشتم رائحة جده فيه، وتحسبا في الأيام الباردة يرتدي قفازات صوفية لتدفئة يديه، وشماغا على رأسه يلفه حول فمه، ولا سيما في الأيام الشديدة الصقيع والبرودة.

أما أيام الصيف فهو حريص على أن يضيف إلى عربته مظلة شمسية تقيه الشمس. وفي الصندوق أيضا هنالك دوما كل ما يحتاجه لصنع كوب من الشاي وإبريق من الماء وخرقة لمسح وتنشيف يديه. وطبعا لا ينسى سجادة للصلاة، وعصا غليظة يدافع فيها عن نفسه ضد أي معتد أو لص.

أما أغراض العمل فكان حريصا على تجهيزها في المساء قبل الخروج إلى العمل. كان يقدّر عدد الكعكات والبيض والجبن الذي يحتاجه، بحيث لا يعود معه شيئا ودون أن يفوّت زبونا. كان قادرا بحكم السنوات الستين التي قضاها في المهنة أن يعرف كم يحتاج، ومتى يضاعف الكمية. عم خليل منذ ستين عاما لم ينس شيئا فهو محتاط لكل شيء، وهو حاضر كل يوم ليسعف زبائنه بكعكه الصباح قبل ذهابهم للعمل.

ولكن في يوم من الأيام وكان يوما غريبا ومحايدا إذا بدا ربيعيا معتدلا بلا غيوم أو شمس لاهبة، شعر العم خليل بأن الشمس قد بدت كجسد أنثى في طريقها للنضوج، مما جعله يشعر برغبة في التمطي تحت أشعتها كقط وحيد ومنهك. العم خليل يقف خلف عربته، يختلس غزل بهجة توازن اليوم ويشعر بالحيرة، فلأول مرة يواجه يوما كهذا بلا منغصات يتجهز لها، ولأول مرة منذ ستين عاما يجد نفسه خاليا من قلق ما ومسؤولية ما، ولذا أحس بأنه خفيف كريشة على وشك أن يحلق بها الهواء، وفعلا بدأت قدماه ترتفعان عن الأرض شيئا فشيئا، ترك العربة والشارع والحي والمدينة، وحلق في السماء بعيدا. بدأت العربة تصغر والشارع والمدينة والكون. كل تلك الأشياء مجتمعة بدت أصغر من رأس دبوس. فقط السماء زرقاء ولا شيء سوى زرقة عالية وخفة لم يعرفها عم خليل منذ ستين عاما.

D 1 حزيران (يونيو) 2008     A رامي أبو شهاب     C 0 تعليقات

بحث



5 مختارات عشوائية

1.  الــعــودة

2.  أمسية للقاصة سناء شعلان

3.  الفلسفة في قصائد النثر في غزة

4.  ابن حزم الأندلسي: وريث العشق العربي

5.  قصتان: سيمفونية الجراح + سيدة القصر

send_material


microphone image linked to podcast



linked image to oudnad.net pdf_xive
linked image to oudnad.net/dox