ربيع محمود الربيع - الأردن
سعادة أخرى
=1=
دائما تسألني في جميع رسائلك السؤال الأبدي ذاته: "كيف الصحة والأحوال؟" ودائما أكذبك القول بالإجابة نفسها والتي عودتكَ عليها:
"الصحة جيدة والحمد لله."
لا يا صديقي، صحتي ليست جيدة وأخباري سيئة جدا، لا تسر عدوا ولا صديقا، فمرضيّ خطير جدا، وسأموت خلال أيام معدودة. هذا السر الذي أخفيته عنك في رسائلي السابقة ولا أجد مبررا لإخفائه بعد الآن. ومع ذلك لا تقلق، فمعنوياتي عالية جدا. وكما عهدتني ما زلتُ دائم الضحك، حتى أنني أصبحتُ لا أستطيع التوقف عن الضحك:
أضحكُ على هذه الدنيا، وكيف أن فراقها يصفي الأحقاد ويجمع بين القلوب، فمنذ أيام وأنا أحاول مراسلتك ولا أتمكن من ذلك لكثرة الزوار والضيوف الكرام. نعم زواريّ كثر. لأول مرة في حياتي أجدُ نفسي محاطا بهذا العدد الهائل من الأصدقاء والأوغاد الطيبين، فما أن يطلع عليّ صباح حتى أجلس على سريريّ متربعا، وتبدأ جحافل الزوار بالتوافد، فذاك صديق جاء للوداع وإلقاء النظرة الأخيرة، وذاك عدو (أقصد كان عدوا، فالأحياء فقط يمتلكون حق العداوة) جاء يطلب الصلح قبل فوات الأوان. وقد بلغ الأمر بالبعض أن يحملني الأمانات والسلامات، فتلك أرملة اشتاقتْ لزوجها وتريد معاتبته، وتلك رأتْ فيَّ ابنها الذي ثكلته، وتلك ... وتـــ ...
=2=
أستمع إلى كل ذلك وأنا أضحك. كل شيء أصبح مدعاة للضحك: أضحك على الموت، الشبح الذي ظل طوال حياتي يرعبني ذكره، فإذا به أشدُ مني جبنا، لا يقاتلُ إلا غدرا، ولا يواجه إلا بعد الفتك بعدوه. أقول أضحك: لأني سعيد، فأخيرا تحررتُ من الهامش ودخلتُ حيز النص، وأمسيتُ موضوعا يتداوله الجميع. وأنت الوحيد الذي يعلم كم عانيتُ من النكران والهجران، وجميعهم كان قد أنكرني، بما فيهم الحب والعمل، وأيضا الوطن.
=3=
ولكن ذاك زمان قد مضى عهده، وأعرف أنك لن تصدقني لو أخبرتك بأحد أسراري. ولكني سأخبرك. حياة (وليس أحد غيرها): لقد زارتني بالمستشفى. هل تذكرتها؟ الفتاة السمراء ذات الصوت الناعس، التي كثيرا ما شكوت لك حبها. لقد جاءت وطلبت الغفران، وقالت إنها نادمة وما كانت تقصد الذي فعلته أو كل الذي فعلته (لم أعد أذكر ما قالت بالضبط). وحكت ليّ عن الظروف التي ساقتها لإهانتي وجرحي. ولا أخفيك فقد صدقتُ كل ما كذبتْ. الذي يحب وحده يصدق.
=4=
لن تصدقني، لكني سأقول لك: اليوم بالذات زارني أُناس كثر، أعظمهم شأنا (طبعا لا زلتُ أقيس بموازين أهل الدنيا) السيد وليد مدير الشركة التي أفنيتُ عمري عاملا بها، وقدمتُ لها أجمل سنين عمري، والنتيجة خرجتُ منها مطرودا غير مشكور. وهذا الأخير جاء ليعترف:
"سامحنا فلقد ظلمناك كثيرا، وكثيرا ما سرقنا جهودك وأفكارك، وما اكتفينا، فأثقلنا عليك أعمالك. كنت طيبا وقمنا باستغلالك. أرجوك سامحنا."
ولأن الشجاع وحده يسامح، سامحت.
=5=
صديقي العزيز:
ألم أخبركَ بأني سعيد، وكليّ فرحٌ وضحك حتى ظننتنيّ أعيش حلما لا ألبث منه أستفيق. لكنها والحمد لله الحقيقة. ولن أعود أبدا كما كنتُ: أعيش على هامش الهامش. وها أنا، وبينما أكتب إليك رسالتي هذه، أراه يدخل عليّ بكل هيبته وعظيم شأنه، ليقدم هو الآخر اعتذاره:
" س ا م ح ن ي."
فأقوم إليه وأركع بين يديه. أقبلهما وأنزل بعدها إلى رجليه .. وأرد له اعتذاره:
"لا يا وطني، أرجوك لا تعتذر، فبمثلك لا يليق الاعتذار."
غير أنه أصر واتخذ قراره، وناولني مرسوما وطنيا. ومما ورد فيه:
"احفروا له قبرا بهيا يراه الداخل على المقبرة فيلقي عليه التحية."
=6=
والآن، هل عرفت لمَ أنا سعيد؟ سيكون لي قبر عظيم، يراه الداخل ويودعه الخارج، ولن يكون بإمكان أي كان أن يتجاهلني بعد الآن.