صالحة رحوتي - المغرب
ثلاثة نصوص
تلبس
الثوب تنخره الحسرة، لم يستوعب كل الجسد الطافح بالحسن، مفاتن اندلقت تتفاخر ببروز انبجست معه عيون الرغبة شلالا، وتواكبها حيثما حلت.
كلمات، وتُمتح من معجم لهب انبرى يحرق أعماقا تتلظى:
"أين؟"
انتشى الغيظ فيها غيوما تتجمع، والوجه الباسم ينفث أنفاسا. يقترب لزوجة تخضب ثنايا الكلمات:
"أين؟ أين؟ لم تجيبيني بعد. أين؟"
::
لوحة
تغازله في شبق فيلتاع منه العمق المحروم، تتمدد فوق الصفحة الناصعة، وتمد بساط الحسن النابض منها، تدعوه فيحرقه وميض الجسد المتداعي في غنج.
ضجيج الباعة يجلجل فيه، يحاول أن يغمض عينه رغم الخوف، غبار السوق الشعبي ما زال يتلكأ تحت الأجفان، وقد اختلط بدخان ينبعث من بين العجلات.
حركات الساقين في دواستي الدراجة يمتص جل القوة ويُنقِه منه الذات، يفرغها من لهيب الرغبة، تكتسح منه مساحات كلما مر من هنالك حين العودة.
يمر صباحا فلا يتعرض للهب الحارق، إذ يستقبله الوجه الخلفي للوحة يعلن عن أشياء وأشياء ولا يأبه هو لتلك الأشياء، لكن الشيء في الوجه الآخر جسد جارف يستدعيه.
::
إرهاب
ضجيج وزخات ضوء. تكالبت الأجساد وآلات التصوير أمام الباب القصديري المتردي، كل يرطن، أو يتكلم. أسئلة، ولا أجوبة تبدو قابلة لأن تخرج من فيها المتجمد.
قدر معدني يغلي ويئن على موقد غاز في أقصى الحجرة، والطفل النائم استيقظ فزعا يبكي، يغطي وجهه بحاشية لحاف متهرئ فرش على حصير من لدائن بهتت ألوانه.
الحر، زحام، أنفاس الناس، وبخار القدر، وغطاء الوجه الأسود يمنع عنها الرؤية التي ما كانت أبدا واضحة، فالباب هو الثقب الأوحد الذي يسمح بدخول النور ورذاذ هواء متعفن إلى فضاء "البيت ـ الغرفة".
فهمت منهم ـ ومن الطارق الذي أتى في الفجر ينفث عنفا ـ أن ابنها انتثرت منه أشلاء الجسد بعد أن قدمه هو ذاك الجسد "قربانا للجنة".
لكن، وهم ماذا يبغون؟ لم تفهم.
الدموع انحبست، والقهر شلالات جرفت أحاسيس كانت تؤثث منها الباطن ذات أيام، ثم غاصت في أغوار الماضي.
قال لها إنه سيفعل فعل ذاك الصديق "المؤمن"، ولم ينتظر منها الجواب، وغاب ولم يعد منذ ذلك اليوم.
وما كان يعود حتى قبل ذلك اليوم إلا لماما، إذ ما كان له قسط من أرضية في "البيت" يفترشه حين حضور، وسن يبشر بسبات. سبعة أطفال وهي، والأب الذي ما عاد هو أيضا يتواجد منذ أن لاكته رحى السُّكْر، ولفظته بعيدا في فضاءات التيه.
كلمات، جمل انثالت تتصارع في صخب تزعجها، وحتى تنشب فيها أظافر غيظ تدمي، والصمت جنائزي يتصاعد فيها منه المد، ويدعوها أن تستحضر أجواء الموت. لكن الصخب. تنظر في بله، وصداع يتفاقم. مات؟ نعم. وماذا بعد؟
قالوا حزام الموت صادر منه الروح، حياة ما كان له من ربق يربطه بها إلا خيط كان من الضعف وتهالك حتى انهار، وهي تحيا الآن ولا تعرف ما معنى أن تحيا أو حتى تموت، فما الفرق؟
قايض بؤس حياة بنعيم "الجنة".
قالوا هي "الجنة"، قال لها ذلك حين سألته ذاك اليوم.
بطن ما شبعت منذ زمن ولى، والجنب وخطته نتوءات الأرض القاسية، والعقل بِكر ما استوطنه العلم، فما كان له في المدرسة من وجبة فكر، إذ لفظته بعد غياب وغياب متكرر.
لكن، وتلك "الجنة"، أ هو يسكنها الآن؟
أهي الجنة وجرف معه الكم من الأرواح؟ هو الجحيم ولا بد، فلعله لا يعلم ذاك الذي قال له ذلك. من يعرف إذا؟ لا تدري. المهم أنها لن تراه أبد الدهر.
ضباب يتناثر في جنبات الذهن، ونشيج بدأت زخات تتوافد منه وتتمترس على شرفات النفس لتمنع عنها هجمات مشاعر أخرى. هو الموت ولابد أن تنتحب، حتى ولو أن الفقد كان منذ زمان، إذ لم تهنأ بالقرب منه منذ ذاك اليوم: بعيد. وبعيد.
كلمات وأصوات، أسئلة ولا تنتظر الأجوبة، أمواج حروف. وهي الواجمة. انغمست في لجة فكر وغياب، والدموع انعتقت، وانعتق معها صوت يصرخ منها يطردهم، ويطردهم، والعنف يتفاقم في النبرة. صياح، وصراخ، وهي الثكلى تدعوه للعودة، تتوسل في قهر، فما زال الصدر الحاني منها لا يقبل ألا يحضنه أبد الدهر، مهما طال غياب له عن ذاك الصدر المزروع بالغصة وبأشواك الحزن المقهور.
◄ صالحة رحوتي
▼ موضوعاتي