عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » الأعداد الشهرية: 01-120 » السنة 2: 13-24 » العدد 22: 2008/03 » قصتان: الرسالة البيضاء + في انتظار الرد

جعفر أمان - السعودية

قصتان: الرسالة البيضاء + في انتظار الرد


الرسالة البيضاء

كانت دقات قلبه تتسارع، كلما تذكّر أنه قارب الأربعين. ازداد خوفه من قرب النهاية، عندما بدأت الرسل تقتحم عليه حياته دون استئذان. أربعة عقود مرت من حياته. تزاحمت الرسل في آخرها على جانبي شعر رأسه ومنتصف لحيته.

ذات يوم رمى خلفه تردده في النظر إلى المرآة. واجهها. نظر فيها بعمق وحدة. شاهد شعيرات بيضاء متناثرة على جانبي رأسه. تراجع خطوات للخلف فزعاً منها. لم يصدق ما رآه. فرك عينيه مرتين. ثم وبعد تردد، تلمّسها بيديه المرتجفتين. ظلت أصابع يديه لفترة غير قصيرة تداعبها. أحسّ بعدها بزهو عجيب، وراحة لا متناهية، وسعادة بالغة بتلك الرسل. بتلك الشعيرات. والتي أذنت له ببدء مرحلة جديدة من عمره. يراها الآن - بعد أن انقشع ضباب الخوف والقلق - بأنها ستكون أفضل وأجمل من لحظات عمره الذي مضى.

قبل أن يغادر المرآة. مسح على شعرة بيضاء كانت قد قفزت من مكانها، وأعادها إلى جوار رفيقاتها. تأكد أن كل الرسل في أماكنها. حينها ودّع المرآة بابتسامة ملؤها الثقة والرضى.

::

في انتظار الرد

قاوم المرض حتى خارت قواه، ونفذت كل طرقه وأساليبه في تخفيف الألم الذي يعاني منه. استسلم بعدها وقرر مرغماً أن يدلف للمستشفى. رجلاه لم تقدرا على حمله من ثقل ما في نفسه. فهو لا يطيق زيارة مريض في المستشفى، فكيف بالذهاب إليها مريضاً. قاده ألمه إلى المستشفى، وما أن وطئت قدماه أرضه، حتى أزكمت أنفه تلك الرائحة المميزة لسوائل التنظيف والحقن والأدوية والأدوات الطبية. لكن شدة الألم كانت عاملاً مساعداً له هذه المرة في تخفيف تركيز تلك الرائحة، حيث اشتغل بوضعه الصحي عن التفكير بها.

توجه على الفور إلى قسم الاستقبال ليفاجأ بطابور طويل متعرج من المرضى، وقف ينتظر الوصول لموظفة الاستقبال. وهو كذلك، أخذ يجول بناظريه في المكان دون تحديد اتجاه أو هدف. يحركه ألمه. حتى وقعت عيناه على إحدى الممرضات التي كانت متجهة لغرفة انتظار النساء لتنادي على إحدى المريضات. فطفق قلبه يخفق وتعلقت عيناه بها. وزاد هذا التعلق عندما سمع صوتها تنادي:

"حليمة عبد الله، تفضلي الطبيب بانتظارك."

ظل متسمر في مكانه شارداً فيما رأى وسمع. وراح ذهنه يتدفق أفكاراً. لم يوقظه من تخيلاته هذه سوى موظفة الاستقبال وهي تنادي:

"يا أخ. يا أخ، دورك تفضل." فتقدم نحوها وسجل اسمه وبياناته والعيادة المطلوبة ودفع خمسين ريالاً، ثم رمى بجسمه المتعب على أحد المقاعد القريبة في غرفة انتظار الرجال. وكانت كلما مرت الدقائق زاد تكوره من شدة الألم.

بعد ربع ساعة جاءه الفرج:

"محمد حسن. محمد حسن." رفع طرف عينه بعد جهد محاولاً النظر لمن يناديه، لكنه عجز عن ذلك فأغمض عينيه وقال:

"نعم أنا محمد حسن."

"تفضل معي، الطبيب في انتظارك." وعندما وقف متهيئاً للتوجه نحو العيادة، فوجئ بمن تقف أمامه. لقد كانت هي نفسها تلك الممرضة التي خطفت قلبه، والتي ساهم الألم في إيقاف التفكير بها مؤقتاً.

"يا محاسن الصدف، كم أنا محظوظ." هكذا ردد بينه وبين نفسه. أخذ من عينيها زاداً خفف به ألمه. ورافقها حتى باب العيادة والذي أحس بأنه وصل إليها سريعاً، وكان يتمنى لو تطول المسافة. بدأت هي، فقاست له الضغط والحرارة والوزن، فكان في عالم آخر جراء لمسها العفوي له. فحصه الطبيب ثم أعطاه وصفة العلاج وحقنة يأخذها مباشرة.

عاد للمنزل وهو ينتظر متى تنتهي الأيام الخمسة، لكي يعود للمستشفى للمراجعة كما هي العادة. عدّ الأيام والتي كانت في نظره شهوراً حتى حان الموعد. طار للمستشفى بعد أن كانت قدماه لا تستطيع حمله للذهاب هناك. دخل المستشفى فاصطدمت رائحته المميزة بأنفه، لكنه أحسها هذه المرة وكأنها عطر باريسي. بعد أن قدم ورقة المراجعة أخذ يجول بعينيه لعل نظره يقع عليها. وقت قصير وإذا به يشاهد ممرضاً يتجه صوب غرفة الانتظار. لم يعره اهتماماً، وإذا به ينادي:

"محمد حسن." رد متثاقلاً:

" نعم أنا هو."

"تفضل." وقف متردداً وكأنه يريد أن يسأله:

" أين تلك الممرضة؟" لكنه تلعثم.

"أخ محمد تفضل." هكذا أعاد الممرض نداءه. تبخرت عندها أحلامه، وتقطع قلبه كما تتقطع الورقة. بعد أن يئس مما كان يأمل حدوثه. انتبه وقال:

"هاه. حسناً." دخل الممرض للعيادة وسلّم الملف للممرضة التي كانت مشغولة، ثم خرج وقال لمحمد:

"تفضل." سار بخطوات مثقلة وبطيئة حتى انتصف في غرفة العيادة. ألقى السلام ثم جلس أمام الطبيب الذي بدوره التفت إلى الممرضة وقال لها:

"قيسي له الحرارة لو سمحت." رفع رأسه وإذا بها أمامه. بكل وقارها وجمالها وأدبها ووجهها الطفولي وعينيها الصافيتين ورائحتها الزكية وصوتها الناعم الدافئ. هذه المرة أطال النظر إليها، ثم ومن دون مقدمات لم يشعر بنفسه إلا وهو يسألها:

"هل تقبلين بالزواج مني؟"

سقط جهاز الضغط من يدها وقفزت حدقتا عيني الطبيب لهول المفاجأة.

ساد تلك الغرفة صمت رهيب لم تتكلم سوى العيون الزائغة. حتى قطع صوت جهوري عالٍ ذلك الصمت المطبق وهو ينادي:

"محمد. محمد. استيقظ. استيقظ." فرد محمد وهو لا يزال بين نائم وصاحٍ:

"دقيقة فقط. دقيقة. إنني انتظر ردها." وجاءه الرد: صفعة رسمت أصابع يد والده الخمسة على وجهه. فقفز على إثرها من سريره قفزة كاد يطال معها سقف غرفته. سقط أرضاً ووسط ارتباكه ومحاولة تجميع نفسه قال:

"ص..ص..صبّحك الله بالخير يا أبو محمد." *

= = =

* "صباح الخير يا أبا محمد".

D 1 آذار (مارس) 2008     A جعفر أمان     C 0 تعليقات