مرام أمان الله - فلسطين
اليـوم الـراحـل عـشـر
تتلاطم كموج مجنون تلك الستائر الشفافة على نافذة صغيرة في المشفى الحكومي الرئيس في المدينة. بقربها كانت تجلس. تنأى بحواسِّها عن صوت البكاء المتداخل وأسئلة الوافدين من الأقارب عن حالة شقيقتها الصغرى.
لم تراودها رغبةٌ في البكاء، فقد كان كل مبتغاها أن ينقضي الوقت بسرعة -فعودتها حتمية- لتروي لها تفاصيل عن مدى تأثر ومحبة أمها والأقارب لها. وفي سلسة التفكير المتواصلة من هنا وهناك، استحضرت تلك اللعبة، التي طالما كانت الصغرى مشغولة بها.
لطالما سرقت الأرقام والتواريخ جزءا خفيا من ذاكرتها، لم تملك يوما أن تتجاهل أيا من تواريخ ميلاد من تعرف. كانت دائمة الربطِ بين الأرقام والأحداث، موقنة أن تلك الأرقام لم تأت ِ عبثا، بل جاء كلّ شيء بحساب. فالكون نظامٌ محسوبٌ يسير ضمن معادلات مرتبطة بالزمن، فالتغير زمن. الميلاد تغيرٌ من حالة إلى حالة، كما الموت تماما. وكأنّ الزمن مقسّمٌ على خط الحياة، وكخطِّ الأعداد مقسمٌ إلى وحدات زمنية تتشكل في هيئة التواريخ، (أيام وأشهر وسنين).
قلّما وجدت الصدفة مكانا في قاموسِها. فكانت ترى وراءها روابط خفية بين الرموز والتفاصيل التي تبدو لا مكان لها من الحدث، لها قواعد وثوابت غير معروفة لدى العقل البشري، لربما حتى الآن.
ولدت في الثاني عشر من حزيران (12/6)، كانت أكثر أفرادِ الأسرة تفاؤلا وحيوية، جميلة التواصل، محبوبة. يكبرها بنتان وشاب، ويصغرها صبيان وبنت.
الأخت الكبرى كانت أقربهم إليها. علاقة الصداقة الحميمة تغلبت على رابطة الأخوة. لم يكن الكلام هو السبيل الرئيس للتفاهم، فقد كانت الإيماءات هي لغة التفاهم غالبا. إلى حدّ التوأمة وصل التشارك والانسجام بينهما.
واللافت من وجهة نظرها، أن الكبرى كانت مولودة في السادس والعشرين من كانون ثاني (26/1).
وكأنّ كلّ إنسان يولد في فلك دائري؛ ومن تعريف المسار الدائري فإنه مجموعةٌ من النقاط المتراصة في مسار مغلق تلتقي فيه نقطة البداية مع النهاية. حيث يبدأ كلّ إنسان مساره متنقلا بين وحدات الزمن المتراصة، حتى ينفذ رصيده عند نقطة النهاية في مسار عمره. إذ تحمل كلّ نقطة رقما، حيث تلعب هذه النقاط ذات الأرقام لعبة خاصة بصاحبها. فتبدأ اللعبة لحظة ميلاده التي تحددها نقطة البداية ذات الإحداثيات الزمنية التي تمثل ذكرى ميلاده.
لكن ما الذي يجعل الرابطة بين بعض الأرواح قوية إلى حدِّ الاندماج والاتحاد في الإحساس والتفكير وتوارد الخواطر؟
وهل يمكن أن يكون ذلك تقاطعٌ في المسارات؟
هناك لا بد رابطٌ أكيدٌ وراء هذا وذاك.
لا شيء عبثيّا.
كانت اللعبة أكبر وأخطر من المتوقع، وكأن المسار ذا النقاط لا يحمل هذه المرة إلا تلك الثلاثة أرقام (1،2،6)، وكما الشيفرة الوراثية في كل نقلة تجدها بترتيب مختلف.
قد يكون كل ذلك التحليل ضربا من الجنون، لكنْ أين يكمن المنطق؟ فتواريخ ميلادِهما كانت من وجهة نظرها تثبت قوانين اللعبة، بأنْ تبعثرت الصياغة، والكرات ذاتها.
عادت الستائر إلى طيرانِها لتنضمّ من جديد إلى العويل المتعالي.
أو أصبح النواح وسيلة أخرى للمجاملة وأداء الواجب!
اقتربت أكثر من النافذة في محاولة للهروب إلى الفضاء.
هدأتْ الريح فجأة، ورقصتْ الستائر في هدوء على أنغام لحن مطريّ متقطع، لتداعب وجنتيها بلطف، تماما كما كانت تلك القطعة الشفافة البيضاء برفق تحنو مغازلة ملامحها الخجولة، في ذلك اليوم الذي جاء بعد طول تأجيل.
إذ بدأت حينئذ مراسم الثوب الأبيض بقرار قسريّ صدر برحيل الضيف المتطفل الأبيض. لم يتمكن هذا الجوّ الاحتفالي الصاخب أن يفصلها عن تفكيرها لحظة، فها هي تراقص شقيقتها العروس، هامسة إليها في ابتسامة واضحة:
"أرأيت؟ الثلج هو من حدّد تاريخ زفافك، كما يريد، لا كما كنت تخططين. تذكري تاريخ اليوم، إنها اللعبة يا صديقتي".
حقا، لقد كان السادس من كانون أول (6/12).
تسكن الستائر في استسلام، بعد أن أغلقتْ ممرضةٌ النافذة، فالبرد قد اشتد.
نقّلتْ النظر على المجتمعين حولها، جوٌّ من الإرباك والتوتر. لم تجد مبررا منطقيا لكلِّ ذلك. إنهم دائما يبالغون.
قاومت القلق مرارا، إلا أنه نجح في التسلّل إلى خلاياها شيئا فشيئا. راحت الأفكار والهواجس من كلِّ صوب تغزوها، تنهمر في سيل عنيف لم تعد تطيقه. "هراء، لعبةٌ لا أساس لها من الصحة".
"في يوم السادس عشر من شباط القادم يكون قد مضى ثماني سنوات"، تنهدت الأم قائلة في نهاية مكالمتها الهاتفية مع الجدة.
يا إلهي! (16/2)، إنها اللعبة إذن.
فهل ستتواصل الثلاثية؟
◄ مرام أمان الله
▼ موضوعاتي