آمال يحياوي - الجزائر
أجساد من الصفيح المعلب
إهداء خاص: إلى العربي بن مهيدي (*). إلى التاريخ. وإلى الذاكرة.
اقرؤوا التاريخ كله مرة واحدة.
اجمعوا رفات كل الشهداء بمقبرة واحدة.
واتركونا نموت بعدها، ميتة واحدة.
علّ واحدا من الألف، واحدا من المليون، واحدا من الملايين، يستحق الشهادة.
مع الصباح الباكر انطلقت أبتلع الزمان والمكان. الشوارع تتصافح بصدق غريب والطرقات تحيي المارة في ألفة ورقة خاصة. الجو منعش هذه الأيام، صوت الحب، صوت العصافير، رنين ضحكات الصِبْية يداعب الربيع في حنان فياض مغدق. العالم يرقص على غير عادته، يغازل العمر في سخاء وفير، والربيع يفرش بساطه الواسع في رقة لا متناهية، ويسمع المدينة ألحانه الشجية.
سرت ألاطف الرصيف وقلبي أحسه سحابة بيضاء عطرة. جو الصباح يمنحني أمانا عذبا، يتوسدني بحنان دافئ. كنت أحس نبضات بعيدة تجتاحني، تعانقني وتفتح لي بوابة للقاء مرتقب، هناك في آخر الشارع. كنت أرفرف في الزحام وأنتفض بنشوة الشباب البراقة، وبوداعة طفلة من مدن الريح رحت أقبل نسمات اشتياقي الشرس، عما قريب سيجمعني هذا الشارع الهائم على وجهه الندي بقدري.
تركتُ قدمي تتحديان الريح بفخر. وهمست لثغري بابتسامة قوية دافئة، وأحسستُ وجنتي تطيران بالورود الساحرة، تلونان العالم، وشلال من الجمال ينسكب على روحي الندية مهرولا إلى آخر الشارع. حيث اللقاء. وحيث البقاء.
وحين تصافحت نظراتنا اللاهثة اهتز نبضي بعطاء مثير، وانهمر سيل من العواطف الجياشة المتزاحمة، وبسحر آسر وصلني نداؤك قويا صافيا: "رحيمة كيف حالك؟"
بنهم ابتلعت عباراتك الرنانة، حلقت في نظراتك الشاسعة، طرت مع الأمان فيهما، ابتسمت لك بخشوع، وتركتك تأخذني معك من زحمة الشارع. تسللنا إلى مكان عفوي دافئ، وجلسنا في زاوية صافية كلون أعماقنا، خالية من الخوف والبرد، وتوسلت لصوتك الشجي أن يشبعني ويدفئني بكلماتك الزاد والأمان.
كان أول لقاء جمعنا في المستشفى، ومع أول نبض لنا كنت قد منحتك الحياة، قدمت لك قطرات من دمي وأنت على فراش الموت، تدفقت إلى عروقك وغازل دمي فؤادك لينفجر الحب شلالا يشق صدورنا. وبعد أن زال عنك الخطر ابتسمت لي ومددت يدك إلي، أحسستها دافئة، قوية، آمنة، ورحلنا معا نبحر في أعماقنا، نظراتنا مشدودة لغرفة الإنعاش، جالسين، حالمين، يغرد العالم بداخلنا ويسامرنا شذى اللقاء الطويل.
يومها أخبرتني أنك كاتب جريء. قلمك زادك وحضورك. أفكارك كانت تنساب بقناعة مخلصة، وقلمك الثائر سكين تشرح به عبث الحياة، أفكارك عنوان نبضك ووجودك، صراع لأجل حقيقة الذات؛ الحقيقة التي نسمو بها عن هفواتنا، عن نفاقنا وكسلنا، والذات التي نفقدها ونحن نلتهم أصابعنا ونكسر حضورنا بمخلفات المادة المسطحة والمغانم الصفراء وزيف العصر الملوث.
كانت أفكارك نشوة صدق تصارع حتفها وسط هوية يتيمة ضالة، ونزيف وطن يحتضر، وآلاف الذئاب الجائعة. كنت تهتز ضد الخلل، تفضح البطون المنتفخة، الأرصدة المتكتلة، عبيد المادة وجواري الحديد. وهذا النبض المغروس في أعماقك كان ينتفض، وكنت تسكبه سيلا من الأحرف الحية. كتاباتك التي جعلتك ضحية انفجار طائش، استهدفك في غفلة من أمرك، الدم يتطاير والموت يراقص الحياة رقصة شرسة، وتساقطت الأرواح من حولك كالبضائع الرخيصة.
نقلوك إلى المستشفى حيث جمعنا القدر أول مرة. كنت أمارس عملي في مهنة التمريض وكان عليّ وقتها أن أشاهد أشكال الموت في كل ألوان بشاعته وقسوته وقذارته أيضا، تحتم علي في تلك الفترة الرهيبة أن أصاحب الجثث المحروقة والمشوهة وأن أكون شاهدة على جريمة العشرية السوداء.
التقينا وسط الموت، وبين الجثث وراحة الاحتضار، أرهبتني حالتك البائسة، تبرعت لك بدمي وسبقت إنسانيتي النقية عواطفي الهوجاء إليك، ومن خلف الزجاج كنت أرقب أنفاسك، نبضاتك، كنت الغريب الساحر في غيبوبته، هزني حضورك فجأة، وأحببتك بجنون وأنت تصارع الموت.
بعدها أصبحنا نلتقي مرارا. اجتاحني حبك وهز كياني بعنف، سلمتك ذاتي، مفاتيحي ووثائقي، كنت أنت هويتي، عنواني وبقائي، وعلى مرّ الأيام كنت قد تعلمت أن أدمنك وأحبك حتى النخاع.
وعندما كنت أجالسك وأنت في نشوة الكتابة النازفة، أتلصص برفق على وقع حروفك القوية، ابتسمت لي بدفء وأضفت بصوت لزج يرقص على الرخام:
"تعرفين رحيمة. حبي للكتابة يفوق حبي للحياة."
"أنا أيضا أحب الكلمة وأتلذذ باستنشاق الحروف مثلك."
"حقا. إذن فقد أخفيت عني أنك تكتبين."
"ليس بالضرورة أن أكتب لأقدر الكلمة وأحبها، عندما تنزف أنت بحروفك على الورق فأنت تبدع، وبنفس القدر أبدع أنا أيضا عندما أقرأ كلماتك وأفهمها. القراءة فن. وكل عمل أدبي ناجح هو عمل مشترك بين من يكتبه ومن يحسن قراءته."
"تحليلك ذكي. أدعوك غاليتي لمشاركتي أدبي."
قلتها بابتسامة سخية أدمنتها كما أدمنت أدبك، انسجامنا هذا جعل عطاءنا فياضا، فهمك لذاتي المتعبة وفهمي لذاتك المتمردة الثائرة، جعل التحامنا حقيقيا. كان إيماني بحبنا كبيرا. أكبر من أن أصدق أنه مهدد بالفناء وأن الفراق يخطط لحرقنا. كنا نسخر منه، نراه بقربنا يتسكع الشوارع، يبتسم للمارة ويحيهم بألفة غريبة، وبأصابعه مخالب حادة، كان يغرسها في العشاق المهرولين إليه في عبث وسذاجة، يغرسها ويضحك كمعتوه، لم يقترب منا، ظل فقط يحملق فينا بحده، يتحسس نبضنا ويبتسم. مرّ علينا بابتسامة وديعة مفخخة، وبقيت أترقبه من بعيد، أسمع صوته الحقيقي، خفي موحش، خبثه الحاد يرعبني، يثير ذعري وهلعي، ضحكاته تجعلني أرتجف. أرتجف.
"ما بك؟ لماذا ترتجفين؟"
سمعتك تقولها وقد أحسست برعشاتي الرعناء.
"خائفة."
قلتها من مكان ما. اقتربت أكثر مني، لملمت الأمان بعينيك، أحطتني بدفئك القوي وقلت بثقة رائعة.
"ما دمت معك لن اسمح لأي كان أن يؤذيك."
"خائفة من حبي لك."
بقي قلبي يرتجف، طوقتني بنظراتك، كانت مسحة انكسار قد تسللت إلى بريقهما فهمست بإلحاح شديد:
"رحيمة أرجوك ثقي بي."
نظرت لك في يأس وأضفت بثقل رهيب:
"ما يخيفني أني أثق بك كل الثقة."
كانت الشوكة المغروسة بحلقي، أحاول قلعها عبثا، تستحيل جهودي إلى هباء. ماذا سأفعل لو صاح القدر في وجهنا وأحرق وثائقنا وركلنا إلى براري الضياع؟ لقد أدمنت حبك، وصعب أن أرى ملامح حياتي من دونك. من خلف الباب كنت أسمع صراخ الغربة يدفعه بجنون، يهز الجدران والمكان. كانت تكيد مع الأيام لسقوطنا. ماذا سيفعل حبنا عندما يكشر الواقع عن أنيابه؟ الواقع المليء بالتناقضات، كله أشواك ملغومة وخطواتنا البريئة هل ستصمد في حقوله المفخخة؟
كان سؤالا مشردا يتردد بداخلي، يلسعني بوقعه القارص. وكنت أحس مخاوفي تأخذ أبعادها وترسم لي معالم الحقيقة. الحقيقة بوجهها الصلب الجبار، تلون بالأسود لوحتنا الفتية، وتعبث بتفاصيل عمرنا المصلوب، وفرحنا المكفون في الظلام.
ثم جاءت اللحظة القدر. اللحظة الملتهبة. حين جمعتك الصدفة بنسرين: امرأة من ضباب، مدللة، بضاعة تمارس عبثها بتحرر فاسد، مغتربة بلهاء، معبئة بالتساريح والمساحيق والثياب الفارغة، وجهها خارطة كذب طويلة لا أبعاد لها، وجسدها كومة أعشاب طفيلية بلا تفاصيل ولا معنى. عرفتني بها وذكرت لي في لقائنا الماطر أنها مثقفة ثرية، تملك مطبعة ضخمة في باريس ورثتها عن زوجها الفرنسي. ثم أضفت أنها حساسة بلون البنفسج وعطر فرنسا الراقي، تحب الأدب والفن وتود أن تخط معك دربا للنشر. من كلامها المنمق الساحر أقنعتك بمبادئها المزيفة، كذبها كان متقنا، وبأنوثتها الرعناء سلبت منك إيمانك بذاتك، لامست حلمك العميق برفق ملغوم، وعدتك بالمجد لأجل أن ترى أعمالك النور وتهز العالم بعد تشردها الطويل في ظلمة درج مكتبك.
كانت تجتاحك رغبة شرسة للنشر، لكسر كل القيود والأغلال من حولك، وهذه الأنثى الذكية ستمنحك الظهور، هرولت خلفها وتناسيت الثمن، المقابل الذي ستقدمه لها، سعر مجدك وخلودك. فهمت عمق مأساتي عندما وقفنا قبالة بعض، اهتزت نظرتها وأنت تضيف ببراءة بلهاء:
"أقدم لك رحيمة. خطيبتي."
أدركت أن آخر كلمة تلفظت بها كانت ستحذف لا محالة من عقد نجاحك، ورأيتها تحفر قبرا لحبنا، ابتسمت لي ابتسامة مسمومة ولعقتها أنا بحسرة مكسورة، وبنبض مفجوع صارحتك بمخاوفي عندما انفردت بك، وتوسلت لك لأجل حبنا، لأجل ذاتنا، أن تحمني وتحمي نفسك منها. أضحكتك الفكرة يومها، سخرت من ذعري وترجيتني ألّا أدع غيرتي تحول بينك وبين نجاحك:
"دعيك من هذه الأفكار السوداء. لا تخلطي بين العاطفة والعمل، إنها مشكلتك، أنت لا تثقين بي."
اتهامك كان قاسيا، تجاوزته رغما عني، وبدأت أغالط نفسي وأحاول أن أصدقك، لكن الأيام التي تلت كان تؤكد لي فجيعتي، بعد أن تلاشت لقاءاتنا وأصبح صوتك يصفعني بوقعه اللاذع:
"أنا مشغول. مشغول."
كنت تثور بهيجان أمام إلحاحي وفي كل لحظة كنت أنتظر خبر النهاية مفجعا. وفهمت أني على عتبتها حين زارتني الثرية في المستشفى وطلبت الحديث إليّ. تقدمت معها لغرفة مغلقة كروحي وجلسنا قبالة بعض. كان تيهاني قد بدأ بالتثاؤب، وأصبحت ملامحي مرآة مهشمة، وكان صوتها ينسل بلعنة غريبة تهزني بوخز جارح:
"سنتزوج. نعم سنرحل إلى باريس وسأمنحه الحياة التي يستحقها."
صوتها رخام أسود تنزلق فيه روحي بتعب طويل. كنت أحاول فك طلاسم نبراته فتختنق أنفاسي معلنة بلهي وهذياني. تستمر هي في دعابتها الشيطانية، تبتسم، تمسح المكان في لعنة تطاردني قبل أن تضيف بسيل جارف:
"الرجل يا صبية صيد. ولكل منا طريقتها وأهدافها الخاصة. أنا مثلا بزواجي من أحمد سأحصل على مكسب اجتماعي يدعمني، اشتريت حضوره وفكره ووزنه الأدبي، دون الحاجة لنبض قلبه. نعم هذه هي الحقيقة. حب طفولي ووطن نازف لن يمنحه الكثير. أنت وهذه الأرض عبء على مفكر مثله. أنا وحدي أقوى على احتوائه. لا أنكر ليس فكره وحده الذي شدني، هو أيضا يعجبني، وسامته، شبابه. حسنا. طبعا لم آت لأجل هذا، اسمعي يا صبية، عليك أن تفرحي لأجله، هناك وراء البحر فقط فجر الحضارة والإبداع."
كلماتها عواصف غبار تقذف الأوراق المبعثرة أمامي. فهمي تصلب ووعيي استحال وحلا أسود يتخبط فيه جسدي باضطراب، يروق لها ضياعي، تقف، تهز جسدها الثمل، رشيقة بصبيانية متوحشة، تلامس خاتمها الذهبي، تخدشني، تلهب النيران في مدني الحارقة، ثم ترحل مخلفة بكائي شريدا، عليلا، يتسكع الوحدة والضياع. أبتلع أنفاسي وأبحث عن وعيي، المكان يحاصرني بقسوة، الجدران تصرخ، يتطاير جسدي وتنزل الحقيقة أمامي، وأعي بوضوح أني فقتدك. خطفتك نسرين مني واستحالت أحلامنا علبا خشبية، كل شيء تعلب بطريقة ما، منحتك الثرية المجد وأحرقت وجهك الآخر.
بوعي الجريح رحت احمل قلبي المتشنج في نواحه المفجع، اهتزاز كلماتها يخرق مسامعي، زلزال يهزني، يدمر صبري، وأعماقي مقبرة يعوي فيها العدم. انحنيت للهاتف، رفعت سماعته بذعر، وبإلحاح يائس طلبت لقاءك الآن. أجل الآن وليس غدا. لن يكون لنا غد. لن يكون لنا غد.
كلماتها تصرخ داخلي بجنون. كنت أجوب الطرقات أجر جناحي المكسور، ووسط زحام المدينة المتخم بالنواح أحس صدى أنفاسي يصطك بصفيح الشوارع والجدران المفتوحة على النزيف، أسمع صداع المصانع الضخمة، حيث الكهرباء والأسلاك وضجيج الآلات والمحركات، ومن خلف عدمي تنبعث صورتك شاحبة، ذابلة، تستحيل لعلبة يملؤها الفراغ، تعوي ذاتك الراحلة إلى حتفها، تتلطخ ملامحك بالبقع السوداء، تتراشق الآلات جسدك وتعجنه على هواها، تطبع عليه قبلة مسمومة، حروفها تلمع بضجر "صالح للاستهلاك"، وأرى الثرية تسخر من علبتها الفارغة، تضحك بشراسة، واراكما مسلوخين في مستودع ما من هذا العالم النازف.
أعود إلى المكان وأتحسس يدك تهز كتفي، أستدير لك وفي حلقي نفس مخنوق، وبنظرة تحتضر جاء وقع سؤالي مشردا:
"هل ما قالته نسرين صحيح؟ هل ستتزوجها؟"
لم تجبني. الصفيح يكسو ملامحك، وشفاهك قيود حديدية سميكة، ولغتك أصابها التصحر.
"أجبني أرجوك. هل ستبيع نفسك؟ هل ستبيع كل أحلامنا النقية؟ هل كانت كل مبادئك هكذا مجرد سراب؟ هل ستقتل حبنا؟"
بإلحاح جاد قلتها. جاءت مترنحة كآهاتي المخنوقة، انسلخ صبري واهتزت دموعي في ثوران عميق يصارع صمودي العقيم:
"أجبني أرجوك. ساعدني كي أصدق."
بدأت أتعب، أتعب، أحسست نبضك منهارا، محاصرا، تركله الحقيقة بقسوة، تدفعه لأن يعرج بالسكين الحاد ليخترق صدري، تجبرك على ذبحي. بائس، مجرم، مسكين.
"نعم. نعم. سأتزوجها."
كالانفجار الذي جمعنا أول مرة، تطاير رصاص كلماتك، وسقط حبنا جثة هامدة، هرولت كسفاح مجنون تركض في اتجاه معاكس وعبثا تحاول الفرار.
"نعم سأتزوجها. هذا ليس مكاني، لن يدفنني الغبار، لن يموت قلمي في الظلمة. لا. لن أنتهي. هذه الأرض لم تمنحني حقي، الحرية لا تكون بوطنية مغشوشة. افهمي: الحقيقة أكبر من مساحات الوطن. أنا قلم ولست رمزا، لا تنتظري مني أن أكون رمزا. أنا لم أولد لأدفن حيا، لست موؤودا، لن أكون موؤودا."
انهرت، جرفت دموعك لتنسحب فياضة، اختلط نزيفك بنزيفي وشهقت الحقيقة ببؤس تترنح بين ذراعينا، وبهدوئي الرهيب استجمعت ما تبقى لي من نبض، ابتسمت لك بحزن وقلت بصوت مخنوق: "بصدق. أتمنى لك السعادة."
نعم هو قلبي السخي، قلبي الذي أحبك، تعبد لك فخذلته ورميته عند أول مرفأ، أسقيتك ذاتي، أطعمتك عمري، اخترتك بوعيي، وسأودعك بوعيي أيضا، سأدعو لك بالسلام، وكنت أنا من يقدم لك العزاء.
انسحبت بعدها وأغلقت خلفي باب لقاءاتنا البريئة، رميت خطواتي للشوارع الساخطة، كانت المدينة تلمع في ثقلها الكئيب، متخمة بالاحتضار، وكان الموت يزرع جثثه عند كل الزوايا، يتوسد بكاء الطرق ويعزف سيمفونية وجع شاهق، ومن خلفه كانت الغربة ترش ريحها على الحيارى الهاربين، كان الهروب عنوان المفكرين والمعدمين والكل في هذه الأرض المحتضرة، كان كل شيء يضيق، يختنق، يقفل الأبواب في وجه القادمين، يرمي بأبنائه للمطارات، للمرافئ، الوطن كله يرحل، والموت وحده الزائر الأخير.
علمت بعدها أنك تزوجتها ورحلت معها إلى باريس، جلست أقرا الخبر وحدي في زاوية مهملة، أقلب أوراق ذكراك، وأرسم ملامحي الجديدة بمرآة عمري المهشمة.
"محطة محمومة، ذاكرة تالفة، جسد يشهق بقسوة، وروح تركض مسرعة في الفراغ."
كنتها أنا بعدك، بعد رحيلك، آه بعد فراقنا. استحلت مشردة وحيدة، أسيرة مستشفى يتمرغ في الحزن والأسى، يصحو على انفجار، وينام على انفجار، وكانت خطواتي تتعثر كل مرة بين قطرة دم وأشلاء مصاب، كان الموت جاهزا لاحتواء تشردي، ووحدي حملت شراسة فراقك وبشاعة نزيف الوطن. كنت أهرب لزاوية لقاءاتنا القديمة، أتشبث بأي طيف، أتكوم داخلي، فيتلعثم نفسي وتتطاير أفكاري كالشظايا، غارقة في بحر الوجع، يتقاذفني موج الحسرة والانهيار. كنت أفكر فيك كل الوقت، ملامحك تسحقني، تتجسد في كل الأجساد الممزقة أمامي، وذكراك تطحنني بلا هوادة.
عندما أفكر في الحالة التي آلت إليها روحي، أضحك بصوت عال وأسمع المرضى، الجرحى، المارة، المسافرين إلى العدم، اسمع العالم قهقهاتي المعتوهة، منذ وداعنا وأنا أعاني هلوسة وجنونا حادا، لم أكن أدرك أن فراقنا موحش ومتعب لهذا الحد. لكنه انسلاخك عني، ذلك الشرخ الرهيب الموجع، تلك الهوة الساحقة بأعماقي، فقدت ذاتي ومقدرتي على الفهم والحياة.
مضت أشهر طويلة وأنا معلقة في غيبوبتي، بوعي أحمق أحاول معاودة جمع كياني، كنت أدرك أنها محاولة يائسة وأني من دونك لا شيء. وبعد سنة من تشردي تصالحت مع الواقع بطريقة ما، تلونت بلونه الداكن وقررت أن أستحيل لصفيحة وأعلب بدوري، ولما لا أطير لباريس وأستهلك لغتك الجديدة، فكرت أن أبحث عن صيد. نعم صيد لا يهتز له قلبي، لن أحتاج لنبضي. نسرين تزوجت بك من دون نبض، سأفعل مثلها، سأبحث عن صيد، أي صيد، أي علبة صدئة تقابلني في الشارع، بدأت أرى العالم قطيعا اجتماعيا، أي ذكر منه ينفع، لن يهمني لونه وشكله وما يحمله فراغ روحه وفكره، قلبي رحل معك يا أحمد ولن أحب غيرك.
ارتديت وجهي الجديد، أنثى عصرية بمفاهيم ورقية مسطحة، لكل شيء في الحياة سعر محدد. وتحمست للفكرة حين عرفتني زميلة لي بقريبها المغترب، ابن ثري هاجر عند الاستقلال، كان وجهي الجديد قد فتح شهيته، تناثرت المعجبات الماهرات من حولي وفزت أنا بطريدتي، نعم كان صيدا بليدا، ثريا كسولا، يلمع غباؤه كما يلمع حذاؤه، ابتسامته صفراء مملة، وبسرعة دخلت في التفاصيل، لم يدهشني غياب نبضي، لم أكترث لأمر، أصبح الموت عاديا جدا في أيامي.
علمت من خطيبي أنه يقطن بالعاصمة باريس، وأنه على صلة بك، هذا ما زاد من لهفتي للإسراع بالزواج منه، وضعت أغلالا ثقيلة على وعيي ووضعت اللصاق على فمي كي لا أصرخ وأعترض، وأمضيت على عقد زواجي، آه أمضيت على العقد، تأكدت أنني أوثقت روحي جيدا كي لا تهرول وتزعج المدعوين لحفل احتضاري، وقعت على العقد وانتهى الأمر، جاء توقيعي غريبا، يتحدث، يصرخ، يردد أمامي كل لحظة أن هذا البهلوان أصبح زوجي.
ورأيت بشارة الفرح تزرع بريقها بنظرات أبي كتاجر باع صفقة هي الأثمن في سجل حياته، رأيته يرقص بنشوة لم أعهدها عليه، كأن الوطن أعاد له حقه، ليأخذ ريعه الذي سلب منه كابن شهيد غير معترف بتضحياته، وها هي ابنته تتزوج بثري ذي منصب وجيه، سيجني من وراء نسبه الخير الكثير، سيخرجه من نفق حياته المظلم، وسيصبح كأبناء الناس المحترمين. أخي جهز جواز سفره بعد خطبتي مباشرة، حتى قبل أن يجهز جواز سفري، وقبل أن يجتاز امتحان البكالوريا المصيري، كانت الفيزا أقرب إليه من دمه، كانت هي ضوء مستقبله. أمي فاضت ابتساماتها غرورا بين الأهل والجيران، لمعان "المقياس" الثقيل الذهبي يخدش فضول وحسد المدعوات، يهتز مترنحا في بذخ مهيب، ابتهجت بفرحة لم أشهدها عليها في خطبتي بك، كانت أكثر سعادة وفخرا، أنساها ذلك مرارة شماتة الآخرين حين فسختَ خطبتنا.
وحدي كنت راحلة عن ذلك العالم، حتى أشقائي الصغار ببراءتهم بدوا غريبين عني، العالم كله تنكر لي، استحال الجميع من حولي لعلب ملونة، براقة، تلمع ذهبا وألماسا، وتتهادى وسط الحرير والثياب الفاخر، وكنت أنا العروس الغريبة، كقربان نذر لآلهة المادة والبذخ، شعرت بمرارة ابتلعتها بانكسار، وحدها جدتي كانت الحاضر الغائب بأعماقي، صورتها تهزني، ترثيني، تبكي بأعماقي، فأسمع نواحها بالألم والقسوة نفسها، جدتي التي انتشلتني في غفلة من عمرها الهارب، احتضنتني في بيتها القرميدي البسيط "بالدوّار" بين الحلفة والأغصان الجافة المدكوكة فوق ظهرها المنحني بمجد، كنت أتمسك بثوبها الزهري وهي تتخطى قساوة الطبيعة بخطوات حافية قهرت وهن الزمن وصلابة الحجر، كانت رائحتها المخضبة بالطيب والحنة تهز خياشيمي لتطبع ذكراها التي لا تغيب، وحدها كانت تمنحني شعور عميقا بالذات، بالأرض، برائحة الطبيعة النقية في "البحيرة" الصغيرة التي كانت تجلسني عندها وتقص علي بحنين ذلك الحب العميق الذي أخذها بسرية مجتمع منغلق حتى في عواطفه، يهرب وجدانه عند أوراق "اللوّاي" ويسرب شوقه عبر التراب بدلا من الجسد، هو حبها الدفين لذلك الثوري الذي تزوجته على عجل، كان عمر نبضهما ونظراتهما البعيدة المشحونة بالشوق، أكبر من عمر زواجهما الذي لم يعمر أكثر من أسبوع. لم تهنأ به لتخطفه الثورة، الفاتنة المغرية، تلك التي أسرت قلوب الكثيرين، وقهرت حسن الجزائريات، هي الضرة الخالدة التي سرقت كل الرجال، وتركت الجوع ينهش قلوب العذارى، كانت الفاتنة التي أخذت جدي، وتركت حبه مخنوقا، مفجعا بصدر هذه العجوز المنسية، كان قلبها كبيرا، مليئا، مغلقا، لا تتسرب منه الذكرى ولا الشوق، بقي حبها كما هو عميقا، ثقيلا، مدفونا في ذلك الجسد الذي أثقله التعب، وأثقلته السنون، وحدها أخذتني، من العلب المتقاذفة من حولي، شعرت نبضها يجتاحني، وأحسست بثقل مشاعرها المحتقنة، كانت عزائي وسط الجنون العاصف من حولي، وسط الموسيقى المفجعة، وهزّ الأجساد المتمايلة. كان عرسا ضخما وسط القنابل. كان بذخا يتوسط الركام.
كنت أحتاج أن أهرب، أن أغير المكان بطريقة ما، احتجت للأرض، للأشجار، احتجت لخرير السواقي، لنسيم الربيع في الطبيعة المغرية، احتجت للتنفس وقد خنقني تناطح الأجساد وصوت الفرقة "العراسي العصري" المستأجرة بالملايين. أخذني كل ذلك للماضي، لأعراس "الدوّار"، لجدتي في هزاتها العميقة، لذلك الصوت الرخيم لعزف "القصْبة" وهز "البندير"، ذلك التلاحم الوجداني المكتوم، وقع الخطوات المعذبة، كانت الأعراس تحتفل بموسيقى البهجة الحزينة، تسرب عويل عواطف متخمة، مسجونة، مهددة بالانفجار في أي لحظة، تلك الأحاسيس النقية الخائفة، كان الحب سخيا كريما يستعمر كل القلوب، لكنه كان مسجونا معبأ بقوارير الخجل والحياء، كان الرجل يعيش عمره كله مع امرأة يعشقها بكل ووجدانه دون أن يسرب من شفاهه كلمة أحبك، نعم كان الحب مكفونا في أقبية القلب، يدفن بأعماق الرجال كما النساء، دون أن تتسرب منه قطرة واحدة. وحملت جدتي ثقل ذلك الحب وحافظت على حمله، بجسدها الهرم، بخطواتها، بهزها المؤلم على وقع "البندير" وعزف "القصبة" الحزين.
آه لذلك الزمن الهارب من مغارات الماضي الطيب، احتجت لبزوغ الذكرى أكثر وأنا في ذلك الضباب الخانق، شعرت بالدوار وبنفس خانق من صداع الموسيقى الراقصة المجنونة وتقاذف العواطف المفخخة ورقص الاشتهاء الجارف وكل ذلك الكذب الملفوف في علب الصفيح. تسربت المرارة بداخلي فانسحبت إلى غرفتي بعيدا في صمت الحقائب المكدسة من حولي، تلمست حقيبة صغيرة ربما لأنها كانت الحاضرة باستفزاز أمامي، فتحتها تائهة، وبدأت أرتب وثائقي المجهزة للرحيل، كانت باللغة الفرنسية، ستنسلخ هويتي لشطرين، وأصبح شخصين متناقضين حد النخاع رغم أكثر من قرن من عيشهما معا، أحدهما عمقي الجزائري والآخر سطحي الفرنسي، صرخ الأول في وجهي حين تسللت صورة جدي الطيب من بين الوثائق القديمة، الإرث الغالي الذي تركته جدتي قبل رحيلها، جدي الذي حارب الاستعمار زمن طويلا وفاضت روحه في معسكرات التعذيب، جدي الثوري الخفي، وحدها الصورة الشاهدة على جهاده والقبضة الحديدية للكولونيل مرسال تلمع فيها، كنت اسمع صوت قهقهاته تهز جسد جدي الموشوم بالتعذيب، هذه الصورة القادمة من الماضي، انتفضت محاولة خدشي لأحيد عن قراري بالتجنيس الفرنسي.
"هنا وطن، هنا هويتك، هنا انتمائك، هنا أرضك."
"لا. إنه انتمائي للحب، لك أنت يا أحمد، حتى في غربتك."
"هنا الأرض التي دفعت الغالي لأجلك، لأجل أمثالك، دم جدك لم يكن لتصبحي فرنسية، لست فرنسية."
"لكن أحمد رحل، غادر، هذه الأرض لا تحتضن أبنائها."
"وماذا عن جدك، هل سيتبناك عدوه؟"
"عدو الماضي ليس بالضرورة عدو اليوم."
"وهويتك، انتمائك."
"انتمائي لأحمد في غربته."
"حتى ولو أصبحتما فرنسيين؟"
"المهم أن نعيش في حرية."
بقي جدي يبكي، كنت قد نجحت في كتم أنفاسي ورحت أتتبع قراري الجهنمي. لقد انتهى الأمر، كانت كل الجثث من حولي كافية ليموت الماضي وينتهي، كان النحر والتنكيل قد قتل التاريخ بوحشية، وكانت جزائر الاستقلال تشيع جزائر الثورة إلى مثواها الأخير.
كان لا بد أن أتغير، العالم كله يتغير.
سأصبح نسرين ثانية، وماذا، لقد تزوجت بفرنسي وحصلت على المال، ونجحت هي باحتواء خيرة رجال الوطن، وأنا ماذا فعلت بطيبتي؟ بعمقي؟ بعطر جدتي المتدفق بأعماقي؟ بإرثها؟ بذاكرتها التي سكنتني؟ لا بد أن أتغير وأصنع ذاكرتي الخاصة بي وحدي. أجل. سأصبح نسرين ثانية، لا تتألم، لا تحزن، حتى خاتمي اخترته كخاتمها، نفس المقاس والوزن، تحد أحمق أثير به سخفي من ذاتي، ارتديت ملابس فارغة كملابسها ولونت وجهي بمساحيق متناقضة، وتقدمت مع البهلوان زوجي في سيارة فاخرة نقلتنا إلى فندق يلمع بالنجوم، جلست وسط العالم المسعور كأني في منزل مهجور، الصحون تتطاير، الكراسي، التحف، الزخارف تصيح وتقفز أيضا، كل شيء يتحرك بسرعة مريعة، فقط أجساد الحاضرين أمامي ظلت جامدة، كالجثث الملطخة تصعب عليك تحديد ملامحها وهويتها.
نظراتي المترامية بين أنفاس هذا المكان الرمادي بدأت تعذبني وبدأت اخجل من دهشتي المشردة، أحسست نفسي دخيلة أزعج كذبهم المغلف، وريائهم الزاحف. تسللت بنظري إلى طاولتي، إلى الكافيار والشامبانيا وهذه العلبة الفارغة أمامي، وفي كل مرة أحاول أن اصدق أنه زوجي، أتلصص متأوهة إلى الحقيبة الجلدية بقربي، وألقي نظرة يتيمة لوثيقة زواجي، حروفها حرقة، وتوقيعها جمر، وبقربها صورة جدي المعذب والكولونيل القذر يقهقه بشراسة.
آه احمد. لماذا أجبرتني على بيع ذاتي كما بعت ذاتك؟ لماذا شردتني لنضيع هويتنا معا؟ لماذا أعدمت حبنا وتركتني أدفنه في حقيبتي الجلدية؟ لماذا؟ لماذا؟
الخاتم الذهبي يصرخ بأنين، كم ثمنك؟ ثمن حياتك الجديدة؟ ثمن "البرستيج" الصاخب من حولك؟ وأرى العلبة الفارغة. بهلواني الممل يقف ويدعوني للرقص، اعتذرت باختناق، فهرول إلى الراقصين يهز جسده ويذوب معهم، في بلههم وجنونهم، كانوا يتمايلون كالدمى، يتلاصقون وسط موسيقى غربية شهوانية.
صيد بليد، ليتني أهرب منه ومن وثيقة زواجي، كنت اشعر جسدي ينتفض مع وقع أقدامه، وأشعر روحي تترنح بوخز ميلانه، وكنت أتوسلها أن تتعود على هذا الوخز المؤلم. متى تنتهي الحفلة؟ متى نسافر؟ متى أراك يا أحمد؟ متى ألقاك؟
وتركنا أخير الفندق بعد ليلة شيطانية، أحسست أني خرجت للتو من معركة، كنت ألهث، استنشق الهواء بذعر كمن لا يصدق أنه نجا من انفجار. وفي المطار كانت فاصلة لنهايتي على أوجها، اقتربنا من الطائرة وبدأت عفاريت الغربة تطاردني، هربت منها وهرولت حيث المحركات تطحنني والعالم الغاضب يحاصرني في كل اتجاه، كل الوجوه، كل الأصوات، أشباح خرافية تنقض عليّ بلا رحمة، آه لهذا الشرخ الممتد بأعماقي كالأنياب الحادة، أريد أن أصدق أنني أنا التي تسحقني الحياة بهذا الجنون، كنت أطير في الجو بلا هوية، استحلت لكرة مطاطية ممزقة تتطاير بين ركل الصبان في الأحياء الفقيرة، كان عزائي أن ألقاك وأن تلتحم أرواحنا الممزقة.
الحياة تنكرت لي، والوطن تنكر لي، لا شيء يرحمني غير وجهك العميق، وجهك الدفء الحقيقي، أريد أن أراك ليصمت هذا الطرق الموجع بلا هوادة في رأسي وهذا النبض الهارب وآلاف الكلاب التي تنبح.
وصلنا إلى باريس، خطوت فيها بانكسار رهيب، كانت البنايات الشاهقة تبصرني بجحوظ مريب، تحدق في بقسوة، وبنفاق ما حاولتُ مصالحة الأزمنة المتضاربة حد العمق. ووسط السيارة الفارهة كان العلبة الورقية الذي تزوجته يزحف على زجاج النافذة بنظراته البلهاء، وبعبارات بليدة يعيد عليّ سرد تفاصيل بذخ مدينة الأنوار، المدينة الغارقة في أضوائها الساطعة وبريقها الهائج خارقا سكون الليل وسلام العتمة، كانت عاصمة الجن والملائكة كما يقولون، عاصمة تجد فيها كل شيء، مرآة واسعة تعكس العالم بكل فوضاه، مدينة احتوت كل جنون البشر لتنثره أمامك في أزقتها الأثرية الراقية، عاصمة سحرت مفكري العالم ذات قرن ولملمت فنّانيه، مدينة أنيقة ترتدي الإبداع كل يوم. ولكن، يصعب على امرأة ترعرعت في جبال الأوراس وأنشدت لسحر الحلي الفضية وفتنة الوشم والملحفة، أن تضعف أمام سحر مدينة جميلة عند أول لقاء. كان البهلوان يلوك كلماته المهذبة بفرنسية باريسية رقيقة، وبنفاق ابتسمت له، كنت أحاول غرس أظافري الطويلة في وجهه، أحاول أن اعبث بملامحه بطريقة ما، وأجعلها تشبه ملامحك يا أحمد. متى أراك؟ متى ألقاك؟
وكانت اللحظات القادمة تقودني أكثر إلى حتفي. هناك تنتظرني فجيعتي، حين رمتنا السيارة إلى منزل كبير، قصر خرافي من العصور القديمة، يلمع في بذخ هائج، وحين دخلت كان القدر يحمل إعداما قاتلا لما تبقى من حضوري، قابلت ولي نعمة البهلوان الذي معي، البرجوازي الذي صنع ثراءه. تفحصت ملامحه فقفز الماضي وانتفض بقسوة، إنه مرسال. مرسال الكلب. مرسال الذي قتل جدي عباس وأزهق روحه الطاهرة بالماء والصابون والكهرباء. إنه هو، صوره المترامية على الجدران تؤكد ذلك، بزيه العسكري القاسي، بضحكته الرعناء، إنه هو السفاح الوحش، هو الذي احرق جسد جدي وعذبه. الماضي كان يصرخ في زوايا البيت الهش المهجور، يركض بين التحف، بين الصور، يحولها لصور متماثلة، صورة جدي يصرخ ألما ووقارا.
تقدم الكولونيل المتقاعد مني، حيّاني بلباقة برجوازية، ومد يده وصافحني، فانتفضت يدي ملسوعة.
وترنحت أنفاسي، أنا عباس. عباس. تلفظت بها روحي. وبدأت تهرول مصعوقة. أجل اسمي عباس، هل تذكره يا وحش، هل تذكر دمه الطاهر الزكي، ارمي قناعك الأليف، أرني سوطك وعروقك الداكنة، أرني همجيتك، أرني وحشيتك المخبأة. آه لهذا الجرح الممتد على ذاكرتي كشوك مسموم. آه لهذه اللحظة الرهيبة. أعصابي تشنجت وجسدي تفتت والتهب. قضيت ليلة سوداء، أنازع الماضي، أهرب من نفسي ومن قرع الطبول وهز المعتقلات الوحشية. كانت مساحة العذاب تستعمرني وتزيد مع أنين الذكرى، وأنا أهتز. أترنح كترنح الأسرى المعذبين. وكان المكان يشنقني ويصلبني في الصور المعلقة. بكيت بحرقة وأنا أحتضن ذاتي الجريحة، كل مساحات الدمار الشاسعة الممتدة على العمق، رحيق الماضي، أنين جدتي المخذولة، صوت كلماتها المشحونة فخرا بمجد زوجها الشهيد، وحقدها المكتوم على الكولونيل القذر، وغيرتها الخفية من ضرتها الثورة، الثورة التي قدمت حبيبها للأسلاك والكهرباء، لهمجية مصاصي الدماء، لأنيابهم الملوثة بالدماء الطاهرة، الثورة التي أخذت حبيبها ولم تمنحها البديل؛ كوخ بائس، طبيعة قاسية وعرة، صورة قديمة مهترئة لصراخ نبيل وقهقهة قذرة.
آه أحمد كم أحتاجك. أحتاجك أكثر من أي وقت مضى. متى أراك؟ متى ألقاك؟
يتسلل ندائي خفيا في بكاء محموم، استسلم لبقايا حبنا وأشعرني أرضا قاحلة، كنت أحتاج نبضك كي أبرر ما فعلته بنفسي، كان الذل يأكلني والتشرد ينهشني بلا رحمة. حبك أجبرني على الهرب إلى نحبي وإلى هذا المنزل التابوت وهذه الجدران ذات الأسلاك المتشابكة. كنت أشم رائحة الصابون والكهرباء وأسمع الصراخ في كل مكان، أهذه آخرتك يا رحيمة؟ أهذه نهايتك؟ كم هو عمرك متخم بالشروخ. أشفق عليك. ما أشقاك يا أنا.
لملمت دموعي وجررت جسدي إلى الخزانة الثقيلة، اقتنيت فستانا أحمر كلون نزيفي، ارتديته بقهر وتركت شعري ينسدل بانتفاضة مشنوقة، قابلت المرآة فتراءى لي هيكلي العظمي وجمجمتي السوداء. كان الرصاص يتطاير بجنون، والمرايا تهتز، هربت من الغرفة ونزلت الدرج مسرعة، قابلني الكولونيل المتقاعد، وبخبث دفين التقت نظراتنا وأخذ يتفحصني ثم دعاني للجلوس. تقابل قناعانا قبالة بعض وبدأت شفاهه الحطب تتحرك وأنا أنظره كالبلهاء، وألح على نفسي أن اصدق. كان يحدثني عن ثقافته الثرية، عن ذوقه الفني الراقي، عن اللوحات المعلقة في قصره الخرافي، عن مجده، عن تفتحه.
"أخبرني جوجو أنك ممرضة. كنا قد رتبنا استئنافك لمهنتك في المشفى العسكري هنا، ما زال لدي وزني السياسي بعد تقاعدي. في الحقيقة ملامحك ليست غريبة عني. الملامح الجزائرية كانت دائما تشدني."
جوجو كان اسم الدلع لعلبتي الفارغة. وكان عليه أن يقول إنه اغتصب آلاف بمثل ملامحي، بسمرتي القمحية، بشعري الأسود المنتفض، ولون العسل المتدفق في نظراتي التائهة.
"جوجو موظف رائع، أعتمد عليه في تسير شؤوني، في الحقيقة قد أزاح عني ثقلا كبيرا لم تعد شيخوختي تتحمله ورث الإخلاص من والده الذي كان يعمل لدي منذ كنا في الجزائر. صنعت له مجدا وسأساعدك، أعرف أن الجزائر لم تعد بلدا آمنا، هنا يمكنكم بدأ الحياة ونسيان المجازر الدموية، سأساعدك، يبدو من نظراتك التائهة أن ثقل الإرهاب ووحشية ما يحدث أثرت بذبول وجهك الجميل."
ابتسم وأضاف:
"حسنك ليس غريبا عني، أكيد أني رأيتك في مكان ما. لا أعرف، تسرني معرفتك."
وقهقه بتثاؤب، كنت أتحسسه بنظري بحثا عن سوطه، أين أخفاه؟ أين أظافره الطويلة وأنيابه الحادة؟ سيشهرها في وجهي ذات يوم وسيصفعني بقسوة مقيتة.
"فستانك يروق لي، جهزي نفسك للحفلة التي ستقام على شرف زواجكما، سأصعد لأرتاح قليلا، الزمن خانني وأتى على صحتي."
وانطلق ببراءة بلهاء إلى غرفته، وبقيت وحدي أحاول أن أصدق، انكمشت كيتيم مشرد، في مدينة الملاهي، كان دوران الأرجوحة وعلو الناعورة وتصادم السيارات الصغيرة يهزه يفجر أعماقه لتنزف أكثر وسط صخب الأطفال وفوضى ضحكهم.
ثم جاء الليل وبدأت مأدبة العشاء على شرف جثتي وجثة انتمائي. وكان المدعوون جمعا من المثقفين والشخصيات البارزة من أصول مختلفة: أوروبيون، مشارقة، أفغان، أفارقة، وكان الكولونيل ذو الأصل الفرنسي الوحيد بينهم. وجدتني مخدرة بشكل ما بينهم، أحاول التصديق وأبذل جهدا لفهم العالم المحشورة فيه عنوة.
ومن سباتي أيقظني حضورك القوي، انتفضت حين لاح لي وجهك السخي، وجهك الذي أحب، وكالشمس الساطعة أشرقت روحك في أعماقي وعم الطوفان على الحاضرين، ولم يبق في القاعة غيرنا، أنا وأنت. أسرعت إليك، وهرولت روحي تروي ظمأ انتظاري الطويل، التحمت نظراتنا كلحظة اللقاء، ونسينا المكان والزمان، ونسيت العلبة الفارغة المصعوق أمامي، وتشبثت بك كرضيع يهتز ويناغي أمه. أحسست حبنا ينتفض من مساماتنا الجريحة، وسمعت صدى أنفاسك يردد لي بصوت هادئ كالدواء "أنا أيضا اشتقت لك يا رحيمة". وفي صمتنا ظل شوقنا يسرد الذكريات وغربة الأزمنة الهاربة من عمرنا الضائع.
وللحظة، عادت الأضواء، وعاد الحضور إلى القاعة الجليدية، وعاد الزجاج المكسور والمرايا المهشمة، وتذكرنا أننا في باريس وأنك زوج لأخرى وأنا زوجة لآخر، وأننا في حفل على شرف جثة حبنا وشرف جثة انتمائنا. ابتعدنا مجبرين نلملم دهشتنا الضائعة، عدنا لصخبنا المعلب بين المدعوين، انصهر حضورنا وسطهم، وكان زلزال الحقيقة يهزنا كل الوقت. تهنا وسط الموسيقى الصاخبة والأطعمة الفاخرة. مثل هرين مشردين ظللنا نموء، نخدش أجسادنا ونلعب بها بمكر كأنها فئران ميتة.
اقتربت منك في غفلة من هذياني وأنا أرتشف عصيرا باردا كحقيقتنا، وتلفظت كمن يحاول قضم قيوده الحديدية بأسنانه:
"أصبح لكتاباتك وقع خاص، لونها محزن جدا، أصبحت تقتل كل أبطالك."
وبنظرات متشفية تابعت ببرودة سقيمة:
"سابقا كانت كتاباتك تنبض بالحياة، بالحرية، بالقيم. كانت حروفك صافية، نقية، أما الآن أحسني في جنازة وأنا أقرأ رواياتك."
رفعت رأسك إليّ، كانت نظراتك سخية كما عهدتها، بريقها يلمع وسط ظلام أيامك، ودمار مدنك حين أعقبت بأسى مخنوق:
"نعم صحيح. أصبحت أكتب عن الحزن. إيه الحزن."
وبتنهدات خفية تابعت حديثك:
"الحزن هو وجه الفرح الآخر. أنا لا اكتب عنه إلا لأني أدركت قيمة الفرح وحقيقة السعادة، تماما مثل الضوء الذي عشته معك، كانت حياتنا منيرة، ساطعة، وحين افترقنا، نهشتني الظلمة. لحظتها فقط وعيت قيمة الضوء الذي كنت أعيشه. صدقيني نحن لا ندرك قيمة الأشياء من حولنا إلا عندما نفقدها، ويلسعنا غيابها."
"إذن ما زلت تحبني. باريس لم تمسح لحظات الضوء من علاقتنا."
أبعدت نظرك عني، أشعلت لفافة تبغ، رشقتها بين شفاهك وعاودت النظر إلي بصمتك اللذيذ لتضيف برقة حزينة:
"كنت قد انتحرت يوم فارقتك، استحلت بعدها إلى مجرد كذبة، تسير في الشوارع، تركب أفخر السيارات، رصيد في البنك، عقارات. كل هذه الماديات أصبحت عقوبة في حياتي. عندما كنا في الوطن كانت لدي قضية، كافحت من أجلها بيقين. فكرت ببعض التنازلات لأجل أن أنشر أعمالي لفائدة الحقيقة، فكرت أن الحقيقة أكبر من الحب والوطن. لم أفهم أنهم قضية واحدة.
فكرت أن انتصاري سيتحقق في بلد الحرية، فكرت أن قيودي التي لفها الوطن ستفك هنا وراء البحر، فكرت أن مبادئي، أفكاري، قيمي التي عشت أطعمها من حبري وصحتي وحياتي ستهز العالم وستضيء سماءه.
أخطأت، لم أدرك أنني أقامر بحياتي وأحشوها في مفترق طرق مغلق، وأن الحقيقة نسبية، وأن الوطنية نسبية أيضا، وأن الأدب سيسخر مني بذلك القدر.
خسرت. نعم خسرت. كنت كالمحارب البائس، جندي دخل المعركة وأفرغ رصاصه في كل الاتجاهات، ولم يكن يدرك أنه يقتل من يحب."
صوتك المعذب وقعه كسيل من الأحزان المتدفقة، ذابت معها روحي فأضفت بتشبث حارق:
"أحبك، حبك يحتل كل كياني، خلقنا لنكون معا."
وبيأس جاءت إجابتك دامية:
"تأخرنا كثيرا، أنت لم تعيشي كل هذه الأشهر الطويلة في باريس. باريس يا رحيمة غانية جبارة، فاتنة تفترس زوارها من الغرباء، تفرش لهم سمومها اللذيذة ليلعقوها وينفجروا في كل الاتجاهات. الغربة تفضحك، تعريك في كل زاوية وتحت أي جدار. تكشف لك كل لحظة هشاشتك. فقرك، ذلّك. الغربة يا رحيمة مرآة كبيرة تعكس لك صورتك البشعة التي سعى الوطن لتجميلها أمامك. الغربة تحطم تماثيل القيم التي بنيتها في طفولتك البريئة. لا تصدقي أساطير التاريخ، عندما تحتضنين الغربة تجدين أن الوطن ليس تاريخا حافلا يسكننا ولا أرضا بائسة نسكنها. الوطن مساحة نبنيها بأنفسنا بسواعدنا دون قيود."
"إذن لن تعود."
"لا. لن أعود."
سحبت نظراتي ليعود الجليد إلى ذاتي، وبقيت أنت تترصدني بدفئك، وتتحسس أنفاسي تنصهر في استسلام رهيب. وقبل أن أنسحب، رمقتك بنظرات وداع ملتهبة، وقلت بآخر نفس محموم:
"تذكر. عندما التقينا أول مرة كنت قد منحتك الحياة. وحين افترقنا منحتني أنت الموت."
غادرت الحضور وأسرعت لغرفتي التابوت وانتفضت أنتحب بطريقتي الخاصة، وحين انتهت الحفلة، طلبت رؤية بهلواني والكولونيل. نزلت إليهما والدموع تخنقني، جلست وسط دهشتهما بجسدي المفتت وذاتي المحروقة ونظراتي المنصهرة في حقيقتها الرهيبة.
"ما بك؟" قالها الكولونيل.
"أريد العودة إلى الجزائر."
لحظتها انفجرا ضحكا، قبل أن يعقب الكولونيل:
"منذ وصولك وغموضك يحيرني، أنت لست مثل الهاربين من وطنهم."
"لم اهرب من وطني."
"وماذا جاء بك إذا؟"
"لا اعرف."
لم أكن أريد أن يأخذ الحوار بينا بعدا أطول، أريده أن يفهم أنني أكرهه وأن ماضيَّ لا يسمح لي بالعيش في قصره.
"ربما هي الغربة، تعرف يا سيدي أنه يصعب على المرء التعود على حياته الجديدة. خاصة أن زوجتي لم تغادر الجزائر منذ ولادتها."
علق البهلوان بابتسامة محاولا تلطيف الاحتقان بيننا. عندها قال الكولونيل مبتسما:
"معقول."
وقبل أن ينصرف أضاف بشماتة:
"أنصحك أن تعدلي عن فكرة الرحيل، على الأقل ليس الآن، الأخبار تقول إن الإرهابيين يحصدون الرؤوس كل يوم. يا إلهي. أخبروني أن رعية فرنسية تم اختطافها أمس، لابد أن السلطات الفرنسية ستتدخل لأجل تحريرها قبل أن تقع الكارثة."
"الكارثة وقت منذ أكثر من قرن."
قلتها من مكان ما، كانت صورة نحيب جدي تهتز أمامي مع وقع كلماته، نظر الكولونيل لي وقال بحدة:
"ماذا تقصدين؟"
"أنت مجرم. نعم. أنت مجرم."
لا أدري إن كنت أنا التي قلتها أم جدي المصلوب في الصور أمامي، ثار الكولونيل غاضبا وبدأ كل منا يدور، ورأسي يدور، الكراسي، التحف، اللوحات، كل شيء من حولي يدور وأنا أعوي وأصرخ:
"أنت سفاح. سفاح. عباس الذي قتلته، جدي الطيب، ألا تذكره يا كلب؟ ألا تذكره؟"
ثارت ثائرته وهاج غضبه، وسقطت الأقنعة الواحد تلو الآخر، صرخ بي بوحشية، وجرني من شعري بعنف هستيري، أخذ يركلني وأنا أنوح كالمجنونة.
"أسكتي يا حقيرة. يا "فلاقة". اصمتي."
كان يحاول كتم أنفاسي وقتل الماضي المنتفض في دمي، أحسسته يجرني إلى سوطه الأسود، وخلف الجدران كان يبحث عن معتقل بالأسلاك الكهربائية ورائحة الصابون ليشفي غليله، تدفقت وحشيته القديمة واختلط الحاضر بالماضي، هذا وجهك الحقيقي، نعم، اظهر على حقيقتك يا كلب.
وصب غضبه على البهلوان الفارغ أمامي، فاهتز بدوره مذعورا وركلني خارج القصر، مزق ورقة زواجنا وصرخ بي في جنون:
"يا ابنة الحرام، قضيت على مستقبلي."
رموا بي خارج القصر، طردوني بإذلال وحشي منه، من خلفي بقيت باريس تركلني، الطرقات، الشوارع، أكياس القمامة. كل شيء في باريس يركلني، يطردني بوحشية رهيبة، وكان آخر ما سمعته صوت جدي عباس يصرخ في كبرياء.
كنت أهرول في الطرقات، في القطارات السريعة، في ضواحي فرنسا السوداء، في مدنها القاتمة. أركض مشطورة إلى ذرات حقيرة تذرفها رياح الغربة القاسية، احتضنت جسدي وأنا أسبق خطواتي إلى نهايتي، إلى الميناء. حاولت رمي جسدي إليه. خلف هذه المياه البعيدة ينام وطني المتعب. تنام روح جدتي النقية، روح جدي الثوري. هناك هويتي رغم المرارة، رغم الموت، رغم الدمار، رغم الجثث المشوهة، رغم الفقر والبؤس، رغم القذارة، رغم كل البشاعة التي تلف حياتي كل يوم، هناك يحيا الماضي، لن يموت في أعماقي. لن يموت.
جلست أشهق، وأحسستني أتلاشى مع رمال البحر، فقيرة لا زاد لي، لا أهل، لا أحبة، ضالة بلا هوية، بلا عنوان. جلست أكفن جسدي والملم دموعي في حرقة. آه يا أنا. يا ضياعي.
وللحظة. أحسست يدك الطاهرة تهز كتفي المثقل بفجيعته، سمعت صوتك سخيا دافئا يراقص مسامعي بخفة عطرة: "قفي رحيمة."
انتفضت ذاتي الجريحة واغتسلت دموعي لرؤيتك، وحلق الأمل بمساحات روحي الموحلة، واهتزت أنفاسي المشردة، دنوت مني، وأخذتني إليك بنظراتك الزاد والمأوى، ورأيت وجهك الحقيقي، مجيدا مشعا بالعطاء، وجهك الذي أحب، وجهك الانتماء والبقاء. ابتسمت لي لتمسح جراحي النازفة وتعيد النبض بالأراضي القاحلة بصدري، وبقيت أتشبع بالنظر إليك وألملم أنفاسي وأتصالح مع الأفق والحياة.
"رحيمة، لم نخلق في هذه الحياة إلا لنكون معا. احبك."
تهت مع كلماتك الرائعة، تهت مع النبض المتدفق بأعماقنا، وكما لقاؤنا الأول التحمت أرواحنا ليرفرف الحب بأجنحته الملونة البراقة، يحلق بنا إلى ذاتنا، إلى عواطفنا النقية، إلى وجوهنا الحقيقية، إلى وطننا المغروس فينا بشموخ.
"سنعود للوطن. ستبقى أرواحنا ملتحمة، وستبقى أجسادنا من لحم ودم، لن تكون من صفيح."
قالها إيماني بحبنا، بحقيقتنا، لكنك أعقبت بانكسار حاسم:
"لا. لن نعود. علينا أن نعترف أن التاريخ أكبر منا، وأن الماضي أقوى منا، وأن الوطن لن يستقبلنا بالأحضان. نحن جيل ولد في الزمن الخطأ، حملنا ونحن في الأرحام كل خطاياه. حمله أثقل منا. لنعترف أننا فشلنا.
لن نعود. ولن نبقى في فرنسا أيضا. سنغادر إلى مكان آخر، لا يحمل أخطاء الماضي ولا تهكم الحاضر، سنبحث عمّن يعيرنا وطنه لسنوات. علينا أن نهرب، أن ننسى، أن نترك أوجاعنا خلفنا. ما حدث معنا كان رهيبا، بشعا، قذرا. كان أكبر من قلبك الكبير وقلمي.
لن أكتب. لن أستمر في الكتابة. سأعيش لحبك فقط. حبك الانتصار الوحيد الذي حققته في حياتي، سأترك الحقيقة للآخرين، للأجيال القادمة، على الأقل، سيبكي القادمون لأجلنا، وقد يغفرون لنا خسارتنا الرهيبة أمام التاريخ وأمام الذاكرة.
(*): العربي المهيدي: مناضل جزائري. أحد قادة معركة الجزائر (1956-1957).
◄ آمال يحياوي
▼ موضوعاتي