عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

سناء شعلان - الأردن

التراث في مسرح سعد الله ونوس


التراث في مسرح سعد الله ونوس: ألف ليلة وليلة في مسرحية الملك هو الملك

سعد الله ونوس: كاتب مسرحي سوري. من مسرحياته: حفلة سمر من أجل خمسة حزيران (1967)، الفيل يا ملك الزمان (1969)، مغامرة رأس المملوك جابر (1970)، الملك هو الملك (1977)، مسرحية الاغتصاب (1990)، منمنمات تاريخية(1994)، ملحمة السراب (1996). توفي عام 1997.
.

سناء شعلانمسرح سعد الله ونّوس والتراث

يثير المسرح العربي الراهن جملة من الأسئلة الهامة عن موضوعات المسرحية العربية المعاصرة، وطرائق تناولها للمشكلات والأحداث التي تجرى في البناء الاجتماعي العربي داخل أنساقه الاجتماعية والسياسية والثقافية. إنّ أهم ما يميز المسرح العربي الحديث أنه مسرح تجريبي بالمعنى العام، إذ ليس هناك صيغ شكلية جاهزة أمام الكاتب، ومن هنا عليه أن يدخل في باب التجريب في سبيل صياغة تجربته" ، وقد أدرك سعد الله ونّوس أهمية التراث في بناء التجربة المسرحية، وفي ذلك يقول الكاتب عمر الطالب "لعلّ تجربة سعد الله ونّوس للإفادة من التراث في المسرح تعدّ من أفضل هذه التجارب جميعا" .ومسرحية الملك هو الملك من أبرز تجارب سعد الله ونّوس في توظيف التراث الشعبي في المسرح، وهي المسرحية الخامسة لسعد الله في مسيرته المسرحية، وقد أنجزها عام 1978. ويرى سعد الله ونّوس الحركة المسرحية أفقا واسعا للاختيار والتجريب.

ألف ليلة وليلة في مسرحية الملك هو الملك

لقد استوحى سعد الله ونّوس مسرحيته من حكايتين من حكايات ألف ليلة وليلة، ومن المعروف أنّ هارون الرشيد في حكايات ألف ليلة وليلة يضجر، وأمام هذه الحالة إمّا أن يدعو نديما ليسامره، أو خليعا ليسليه، وإمّا أن يخرج متنكرا في زي التجّار هو ووزيره جعفر البرمكي، وسيافه مسرور، وأحيانا نديمه أبو نوّاس.

سعد الله ونوسولقد استفاد سعد الله ونّوس من بنية الخروج التنكرية هذه، ففي إحدى الحكايات يخرج هارون الرشيد مع وزيره جعفر متفقّدا الرعية ليلا، فيسمع رجلا يقول: "آه لو كنت ملكا لأقمت العدل بين الناس وفعلت كذا وكذا. فيقرّر الخليفة أن يأخذه إلى قصره، وأن يجعل منه خليفة ليوم واحد إلى آخر الحكاية. وفي حكاية أخرى يخرج هارون الرشيد، ويتخذ لنفسه وزيرا وسيافا، ويتقن الدور حتى ليحاور هارون الرشيد إن كان ما يراه هو نفسه.
حبكة المسرحية:

تحكي المسرحية حكاية ملك ملول، يسمّى فخر الدين المكين، وينزل مع وزيره متنكرين إلى أزقة المدينة؛ لكي يروّح عن نفسه، ويجد تسلية كبيرة في زيارة رجل فقير مجنون يدعى أبو عزّة، يحلم بالملك والسلطة؛ كي يثأر من شهبندر التجّار والشيخ المتسببين في إفلاسه، بينما تناكده زوجته، ويسخر منه خادمه عرقوب، الطامع بوصال ابنته عزّة. وتخطر للملك فكرة ممتعة، ماذا لو خدّر ووزيره ذلك المغفّل، وألبساه ثياب الملك، ثم وضعاه في القصر حاكما ليوم واحد؟ أية مهزلة مسلية، وأية دهشة صاعقة ستدبّ بين الحاشية حين يلحظون الغريب الأبله في زي الملك؟ ويفعل ووزيره ذلك بغية الضحك.

غلاف: الملك هو الملكولكن الأمور تنقلب عندما يستيقظ أبو عزّة ليجد نفسه ملكا، فيأخذ بالتصرف وكأنّه ملك منذ أن وُلد، ويضرب على يد الكلّ بيد من حديد، والغريب أن لا أحدا في القصر يلحظ أنّه ليس الملك الحقيقي، بل الكلّ يعامله باحترام حتى الملكة، ويجد الوزير بربير في الملك الزائف بديلا أقوى من الملك الحقيقي، فيستعير من عرقوب بزته، ويخرجه صفر اليدين. وعندما تمثل أم عزّة أمام زوجها وعزّة أمام أبيها لا يتعرف عليهما أبو عزّة، وبدلا من أن ينصرهما على الشهبندر والشيخ، يدافع عن الظالمين اللذين أصبحا دعامتين لحكمة الباطل، وبذلك يكون أبو عزّة المغفل قد تنكر حتى لنفسه، ثم بعد ذلك يصدر حكمه على أبي العزّة الفقير بالتجريس علنا، وعلى ابنته عزّة بأن تصبح جارية في قصر الوزير.

وهكذا تنتهي المسرحية بنتيجة مفادها: إنّ الرداء هو الذي يصنع الملك، وكلّ من يلبس الرداء مهما كان أصله الطبقي لا بد أن يتحول إلى طاغية.

"أعطني رداء وتاجا أعطك ملكا ".

الحركة المسرحية:

لقد قدم سعد الله ونّوس مسرحيته الملك هو الملك بمستويات ثلاثة، وهي:

أ‌= الملك ووزيره وحاشيته ورجال دولته.

ب‌= بيت أبي عزّة.

ج= زاهد وعبيد ودورهما في اللعبة.

وقد ربط الكاتب هذه المستويات الثلاث بطريقة غير مباشرة، إذ قدمت على هيئة مشاهد بدت مستقلة، لكنّها ما لبثت أن تداخلت بحيث بدت لحمة واحدة.

ويقول نديم محمد: "في مسرحية الملك هو الملك ليس هناك بناء درامي عقدة وحل وعلاقة سببية بين المشاهد، بل هناك بناء يقدم على مشاهد وفواصل لكلّ منها استقلاليته". في حين يقول رياض عصمت: "إنّ بناء المسرحية كلاسيكي تماما، إذ تنقسم إلى مقدمة وخاتمة بينهما فصلان، كما إنّ المسرحية تحافظ على قانون الوحدات الثلاث: فزمانها لا يتجاوز 24 ساعة، ومكانها منحصر بين بيت أبي عزّة والقصر، أمّا وحدة الفعل، فهي متحقّقة بشكل مثالي، فيما إذا حذفنا مشاهد زاهد وعبيد المقحمة".

أمّا أنا فأقول: إنّ المسرحية مع الاستقلالية في مشاهدها، فقد كانت تتميّز بالوحدة على مستوى البناء الكلي، فكلّ مشهد أو فاصل له وظيفته في هذا البناء، وبدونه يصبح العمل مختلاّ، كما أنّ هذه المسرحيات قد استفادت بشكل واضح من تقنيات مسرح التغريب، وفيها بعض من أجواء مسرح العبث.

المسرحية وتقنيات التغريب والعبث

غلاف: ملحمة السرابيرتبط مفهوم التغريب عادة بمسرح بريشت (1898-1956)، مع أنه لم يخترعه، وإنما تبناه وطوّره، وأدخله إلى المحيط المسرحي بشكل فعّال، فقد كان بريشت يصرّ دائما على أن يجعل المتفرجين في حالة يقظة دائمة، بكسر الإيهام من خلال التغريب، أي أنّه رفض إخفاء وسائل المحاكاة وتحقيق الإبهام لدى المتفرج ؛ لذلك فقد دعا بريشت إلى إزالة ما يسمى بالحائط الرابع ، وتحطيم كلّ ما يوحي بالإيهام بواقعية ما يحدث؛ حتى يظلّ المتفرج في حالة يقظة كاملة، ويشارك بعقله في القضية المطروحة أمامه .وقد استخدم ونّوس وسيلتين بارزتين من وسائل التغريب وهما: فضح اللعبة المسرحية، واستخدام اللافتة:

ففي الوسيلة الأولى يصرّح الممثلون بأنّ ما سيشاهدونه ليس إلا تمثيلا، ولعبة معدّة مسبقا، وهم بذلك يمنعون المتفرج من الاستغراق في المشاهد، والتوهم في أنّ ما يحصل فوق الخشبة شيء حقيقي، وبذلك يستطيع ونّوس أن يوصل للمتفرج الفكرة التي أراد لها أن تصل. أمّا في الوسيلة الثانية وهي استخدام اللافتة فهو يكسر بها الوهم المسرحي، ويوقظ ملكة المحاكمة لدى المتفرج؛ لأنّ اللافتة غالبا ما توضّح ما سيحدث، أو تحلله بعبارة موجزة جدا، تدعو المتفرّج إلى التفكير والمناقشة. وقد لجأ إليها ونّوس في مسرحيته، فكان يُظهر لافتة تشرح مغزى الأحداث، وتثير ذهن المتفرّج.

"لافتة: الملك هو الملك .... والذي كان المواطن أبا عزّة ينسى خصومه. "لافتة: الملك هو الملك .... والطريق الوحيدة المفتوحة أمام الملك هي الإرهاب والمزيد من الإرهاب.

والعبث يُظهر في هذه المسرحية في سلوك الشخصيات، بل في الشخصيات نفسها، فنحن لا نرى في مسرحيته شخصيات إنسانية مقنعة من لحم ودم، بل نرى ما تتطلبه اللعبة: دمى تحركها الخيوط. خيوط في أيدي الشيخ وشهبندر التجّار، أو خيوط في يديّ المؤلف نفسه. والشخصيات تغدو شخصيات فنتازية في موقف واقعي. تعيش في أحداث كلّها سخرية وعبث "والإعداد الجيد (يسخر) الأحداث القديمة، ويضفي الموضوعية على شمولية الشخصيات من خلال وحدة الحدث. فالملك يتخلّى طواعية عن ملكه، وأبو عزّة المخبول يصبح ملكا، وبذا يستسلم كلّ إلى وضعه الجديد، الملك يصبح مخبولا، والمخبول يصبح ملكا، هذه هو جوهر العبث، أن يسري الجنون في كلّ مكان، في بيت أبي عزّة وفي قصر السلطان.

الشخصيات

يمكن تتبُع شخصيات المسرحية منطلقتين من مستوياتها الثلاثة:

أ‌= الملك، الوزير، قبل اللعبة وبعدها.

ب‌= بيت أبي عزّة: أبو عزّة المغفل قبل اللعبة وبعدها.

ج‌= زاهد وعبيد.

د‌= الشيخ طه وشهبندر التجّار.

ويبدو الملك في هذه المسرحية إنسانا ضجرا، تسيطر عليه حالة من السأم، وتكون تسليته الوحيدة في العبث بالبلاد والناس بدل مساعدتهم، ولكنّه يصبح هو ضحية لهذا العبث، يقول الملك: "عندما أصغي إلى هموم الناس الصغيرة، وأراقب دورانهم حول الدرهم واللقمة، تغمرني متعة ماكرة، في حياتهم الزنخة طرافة لا يستطيع أيّ مهرّج في القصر أن يبتكر مثلها" .والحقيقة أن شخصية الملك إلى جانب شخصية أبي عزّة هما الشخصيتان الناميتان في هذه المسرحية، لا سيما بعد أن يّلبس الملك أبا عزّة الرداء، ويسلّمه الصولجان، ويصبح الثاني ملكا بدل الأول، إنّ الملك يصبح ضحية لعبة أرادها هو، فسارت الأمور عكس ما يشتهي، ويمكن تحديد المفارقة في أنّ الملك أراد أن يتسلى بالآخرين، فأصبح مادة تسليتهم ، وقد أدى فقدان الملك لعرشه إلى وصوله إلى حالة الجنون، ويمكن القول إنّه قد بدأ عابثا، وانتهى مجنونا.

والحقيقة أنّ هناك فروقا بين ملك سعد الله ونّوس وبين ملك (خليفة) ألف ليلة وليلة. ففي حين يتفرج ملك سعد الله ونّوس بحثا عن المتعة، وإن كانت بالآم الناس، يخرج هارون الرشيد؛ لينظر في مصالح الناس ويتفقّد أحوالهم،

"إنّ صدري ضيق ومرادي في هذه الليلة أن أتفرّج في شوارع بغداد، وأنظر في مصالح العباد."

كما أنّ شخصية الملك في هذه المسرحية تختلف عنها في حكاية الليالي، الذي بدا قويا متمكنا من كلّ مقاليد الحكم، فالتسلية كانت عنده موظفّة في سبيل تحقيق العدل، كما أنّ التنكر كان يكشف مظالم، فيعيد الحق إلى أصحابه، ويقتصّ من الظالم، إضافة إلى أنّ الملك الحاكم في الليالي، يفشل في ممارسة واجبات الملك، مما يؤكد قدرة الملك على إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح.

أمّا الوزير فإنّه يعي دوره جيدا، لذلك نراه يبدي معارضته للعبة، وهو يحسّ أيضا بأنّه قد خسر الوزارة حين خلع ملابسه، وبالتالي فهو يحاول استعادتها من الملك الجديد، وينجح في ذلك.

وتبرز في المستوى الثاني للمسرحية شخصية أبو عزّة، فهو رجل ملتاث، غارق في الخمر والديون، بعد أن هُزم أمام منافسة الشهبندر.

وإذا تأملنا شخصية أبي عزّة، وهي شخصية محورية، وجدنا أنّه يتحول ولا يتطوّر، حتى مظاهر خبله تزول بسرعة مستحيلة، ليتلبس بإتقان دور الملك.

إنّ قطع أبي عزّة لصلته بالماضي لم يكن مبررا من الناحية الإنسانية، إذ إنّ من المستحيل أن يكون أبو عزّة الحاكم هو نفسه أبو عزّة الملك، إذا عددنا أنّ الشخصية عبارة عن مركب نفسي وفكري متراكم، وإلا كيف يقبل إنسان أن يحكم على نفسه بالتجريس، وأن تكون ابنته جارية في بلاط الوزير؟! ولكن يمكن قبول الشخصية منطقيا في إطار اللعبة التي صاغ سعد الله ونّوس خيوطها، والتي تقول إنّ أبا عزّة الحالم المغفل، قد مات نهائيا، ووُلد منه إنسان لا صلة له بذلك.

والحقيقة إنّ شخصية أبي عزّة في مسرحية الملك هو الملك تختلف عن شخصية أبي الحسن في حكاية النائم واليقظان، فقد كان أبو الحسن مغفلا فعلا، وقد فشل في أن يحكم بعد أن حقق له الخليفة هارون الرشيد حلمه، فضلا عن أن أبا الحسن لم يتمسك بالعرش الذي لم يكن بمستواه كما كان الحال مع أبي عزّة.

وإذا بقينا في بيت أبي عزّة نجد صبية حالمة تحلم بفارس ينقذها مما هي فيه، وترى في عبيد منقذا لها، بل ولجميع المظلومين، ولكن ما يحصل لها يكون مأساويا إذ تصبح جارية في قصر الوزير.

أمّا الأم والزوجة أم عزّة، فهي صورة للأم التي تحاول أن تبحث عن مخرج لأزمة الأسرة، والمتمثّلة في استهتار الأب، وإغراقه في شرب الخمرة، وعدم اهتمامه بالمسؤوليات المادية، كما أنها تحلم بزوج مناسب لابنتها، وتحلم بخروج زوجها من أزمته، وترى في مقابلة الملك حلما فيه بوادر لانفراج أزمتها، لكن الملك يردّ أم عزّة خائبة على عكس الشائع في الليالي، إذ إنّ هارون الرشيد كان يحقّ الحق وينصر المظلومين، ولعلّ شخصية أم عزّة تقترب من شخصية أم حسن في حكاية النائم واليقظان، فأم حسن كانت تعاني من غفلة ابنها، وفي نهاية الحكاية تلقّت الضرب على يديه عندما كان يصرّ على أنّه الخليفة هارون الرشيد.

ومن الشخصيات المميزة في بيت أبي عزّة الخادم عرقوب، وهو شخص مبتذل أخلاقيا وفكريا، وقد كان بقاؤه مع أبي عزّة بسبب طمعه بالزواج من ابنته، وحين يُسند إليه تمثيل دور الوزير مع سيده، كي تكون اللعبة محبوكة يفشل في دوره، ويخرج صفر اليدين ملوما محسورا، وهو يقول: "حتى النقود التي بعت بها الوزارة تبين أنّها مزيفة. ضاعت التي حلمت بها زوجة، هي لعبة كنت فيها المشاهد والضحية، ولكن هل تعلمت شيئا؟ أخشى أن يكون قد فات الأوان، لم أعرف كيف ألتصق بالذين مثلي، ولم أعرف كيف أصل إلى الذين فوقي، وأخشى أن يكون الأوان قد فات".

المستوى الثالث لشخصيات المسرحية هما زاهد وعبيد، وهما يعبّران عن الثورة وفكرها، وعلى الرغم من أن زاهد وعبيد وجدا في زمن الحكاية ومكانها، وأنّهما مربوطان بها، إلا أنّهما ظهرا وكأنهما من عالم مختلف في وعيهما السياسي، وطريقة طرحهما للأمور، فهما يتبعان العمل السري؛ في انتظار الساعة المناسبة بلا تقديم أو تأخير، "عبيد ينبغي أن تتواقت مع الساعة المناسبة لا يبكّر ولا تتأخر".

والغريب أنّ سعد الله ونّوس لم يدمج هاتين الشخصيتين في بناية الدرامي، عندما حرمهما من الصلة مع حبكة الملك وأبي عزّة، وهذا مقتل المسرحية. أمّا الشيخ طه وشهبندر التجّار، فيمثلان التحالف القائم بين الدين والقوى الاقتصادية المتحكمة في السوق، لذا فهما يمسكان بخيوط اللعبة، وبمعنى آخر، هما من يحرك أمور السياسة والاقتصاد معا، وقد كان حضور الشخصيتين ضعيفا في الحكاية، على الرغم من دورهما الكبير.

وحالة الاستلاب تسيطر على معظم شخصيات المسرحية "وما يحدد درجة استلاب الفرد هو قدرته على كشف التنكّر، فأم عزّة لا تستطيع أن تتعرف على زوجها ولا على خادمها، بينما ترتعش ابنتها، وهي أكثر وعيا، إذ تكاد تتعرف عليها، أمّا عرقوب الانتهازي، فإنّه يستلب نفسه بنفسه، لقد حاول أن يقفز فوق حقيقة الطبقية، أو أن يتحايل عليها، فخسر كلّ شيء، وحتى في النهاية عندما يبيع رداء الوزير بعملة زائفة، يعجز عن استنتاج أنّ الرداء هو الملك، وأنّ الرداء هو الوزير أيضا. وفي الضفة الأخرى يمثل ميمون والسياف فرقة الإنشاد، وحتى الملكة التي لا تظهر. حالات استلاب خطيرة، أو يدعمون وضع الاستلاب بشكل عام. وسيحصد الإمام والشهبندر ثمار هذا التدعيم"، ويحذرانه بعبارة قاطعة ومطمئنة: "لقد أصبح —الملك— ملكا أكثر. ويمثل أبو عزّة قمة الاستلاب، فهو يتحول في ليلة وضحاها إلى رجل يجهل نفسه وتاريخه وابنته وزوجته، بل ويتنكر لنفسه، ويحكم على نفسه بالتجريس.

اللغة

يحاول سعد الله ونّوس في هذه المسرحية، أن ينوّع في أساليب العرض، ففي بداية المسرحية يبدأ بالسّرد، إذ يقوم الممثلون برواية الحدث من خلال توجههم المباشر للجمهور. ويستخدم الكاتب في هذه المسرحية بعض الظواهر التراثية، ويوظّفها توظيفا يتلاءم مع طرحه السياسي. ومن هذه الظواهر ظاهرة التنكّر، فيجرّدها من مضمونها في الحكاية؛ لتصبح زمرا لتكريس الواقع الطبقي.

ومن الظواهر التي تميّز الحكاية في ألف ليلة وليلة تصور ثراء هارون الرشيد، وما يعيش فيه من بذخ، وما في قصره من فخامة تبهر الأبصار، وقد أخذ سعد الله ونّوس هذه الظاهرة؛ لتجريدها من مضمونها وإعطائها بعدا رمزيا جديدا.

يقول سعد الله ونّوس مثلا واصفا البلاط: "البلاط في قصر الملك مرقاة بمخمل ثمين، تنتهي إلى مصطبة يتربّع فوقها العرش، كرسي ضخم من الأبنوس والعاج مشبّك بالذهب والمرجان، له ذراعان تنتهي كلّ منهما برأس تنين أرجواني الألسنة، ما عدا ذلك ثمة أبهة عادية أبهة باردة ومنفوخة في الفراغ.

غلاف: منمنمات تاريخيةولو قارنّا صورة هذه الأبهة بما ورد في الليالي لوجدنا أنّها في الليالي ترمي إلى خلق حالة من الإعجاب والدهشة والخيال عند القارئ. بينما هنا تفرغ من المعاني لتحتوي على معنى واحد وهو الفراغ. أمّا المشاهد التي صوّرتْ الحياة في بيت أبي عزّة أو الجمع بين زاهد وعبيد، أو مشهد الجمع بين الملك ووزيره فقد اتسمت بالانسجام بين الحدث والشخصية، والرسم الواقعي الذي يرتبط الحكاية بمضمونها، دون أن يكون هناك أيّ تغريب أو كسر للإيهام.

وقد انسجم الحوار في المسرحية مع المستويات المختلفة التي يعبر عنها، فقد كانت العبارات في بعض المواقع قصيرة وسريعة، وكان ذلك في لقاء زاهد وعبيد السريع، والذي كان يجب أن يتم بسرعة حتى لا يُكشف أمرهما. "عبيد: خفت أن تتوه ولا تعرف المكان.

زاهد: لن يعرفني وأولادي لو مررت بك في شارع عام لما عرفتك.

عبيد: المهم ألا يعرفني عسس وجواسيس مقدم الأمن." ويختلف عن هذا الموقف الجلسات الطويلة لعبيد وعزّة، إذ كانت عزّة تستمتع بالإصغاء إلى عبيد، وهو يروي لها الحكايات الطويلة عن المجتمعات التنكرية، وقد تميّز أسلوب الحوار هنا بالروح القصصية التي تمتلئ بالتشويق.

وقد تباينت لغة الحوار في المسرحية حسب تباين الشخصيات والموقف، ففي المشاهد التي صوّرت حوار الملك مع وزيره، أو حوار أبي عزّة مع عرقوب، أو حتى مع زوجته وابنته، فقد كانت لغة روائية مسجوعة تشبه لغة ليالي ألف ليلة وليلة، بل اسم الملك ووزيره فيهما سجع، فخر الدين المكين بربير الخطير.

واللافت للنظر في لغة أبي عزّة بشكل خاص، تحملّها للكثافة وقوة التعبير في بعض المواقف، وانتقالها من المستوى السجعي إلى اللغة اليومية، وذلك بُعيد جلوسه على العرش، وهذه لغة لا تُبرّر نظرا لثقافة وحياة صاحبها، ويبدو أنّ هذه الملاحظة قد غابت عن ذهن سعد الله ونّوس.

يقول أبو عزّة وهو يصوّر ولادة الملك في داخله: "اجتاز أرضا سبخة، وقدماي لا تغوصان ولا تبتلان، أمشي وكأنّي أنزلق على سطح من الجليد المتلألئ، وما ورائي تطويه ريح غضارية وتحمله بعيدا... أأنا مسحور أم أصاب عقلي أمر من الأمور".

وفي الطرف النقيض نجد لغة زاهد وعبيد لغة حديثة، تخلو من السجع؛ وذلك لاعتمادها التحليل السياسي المعاصر، "عبيد هناك شعور بالخيبة والعسر، التذمر يشتدّ، والناس يطحنهم البؤس، لكن التناقضات لم تنضج بعد، أقول لك وأرجع أن تبلغ الإخوان الذين تحفظوا (يحفظون) ما أقوله، أمام الملك الآن بطريقة وحيدة مفتوحة، هي الإرهاب والمزيد من الإرهاب.

وكثيرا ما تنجح اللغة في المسرحية إلى مصطلحات ومفردات العصر الحديث على الرغم من أنّ سعد الله ونّوس يبدو حريصا على أن يصبغ المسرحية بالصبغة التراثية، على شاكلة لغة ألف ليلة وليلة، فنجد كلمات مثل: التتويج، المرحلة القادمة، مبادرة منظمة، الاستقرار الملكي، الإجراءات الإصلاحية، الإرهاب، النظام، عناصر النظام، جهاز الأمن، ... وغيرها من الكلمات.

ويتقن سعد الله ونّوس لعبة لغة ألف ليلة وليلة، فكثيرا ما نجد الجوقات تصدح بالأشعار المغناة، وذلك سيرا على هدي الليالي، التي كثيرا ما تتضمن الأشعار في متن سردها، ففرقة الإنشاد تستقبل الملك بأشعار مغناة تقول فيها:

أنت مولانا الكريم = = سرت بالملك العظيم

فابق يا نسل الكرام = = في نعيم لا يرام

بالغا كلّ المرام = = في صفا حسن الختام

البشر في جبينه = = والخير في يمينه

فاحفظه يا رب السما = = معزّزا ومكرما

إذا فهذا النص المسرحي كثيرا ما استفاد من العناصر اللغوية الجمالية التي يتناقض معها، كما أنّه قد استفاد من طاقات اللغة الايجابية في الليالي على مستوى الحلم والتخيّل والاستنكار، ووظّف هذه الطاقات في بنية الإيحاءات الرمزية التي ركّز عليها.


ملاحظة: غلف المسرحيات المستخدمة أعلاه لطبعات صادرة عن دار الآداب، بيروت.

D 1 شباط (فبراير) 2008     A سناء شعلان     C 0 تعليقات