عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

هبة محمد الأغا - الشارقة/غزة (*)

التراب لم يصل لصاحبه


هبة الأغاكعادته، كان يجلس كل يوم بعد صلاة المغرب على ذلك الكرسي الخشبي القديم، ويجلس لفترات طويلة. أراه يمسك جريدة ويعصرها قراءة، وتارة يحمل كتابا يقلبه كثيرا، أو يأتي بمذياع يسمع منه نشرة الأخبار التي مللناها كثيرا.

جاء ذات يوم مبكرا، بعد صلاة العصر بقليل. لم أتوقع أن يفسد عليّ مراقبته في هذا الوقت، خاصة وأن وقت العصر ننجز فيه واجباتنا ودراستنا، وأجلس بعد المغرب على شرفتي أناجي السماء قليلاَ، ثم أخلد للنوم بعد صلاة العشاء مباشرة استعدادا لصلاة الفجر.

عجبت من قدومه مبكرا هذه المرة، وكان معه طفلة صغيرة، تبدو وكأنها حفيدته، ثم لحقتهم سيدة شابة، ومعها رجل، شعرت أنه زوجها، وجلسا سويا ثم غادروا جميعا ومعهم ذلك الرجل العجوز.

مر يومان، لم يأتِ فيهما الرجل، ساورني قلق عجيب، لم أكن أعلم جنسيته، ولا أعرفه شخصيا، ولكنني شعرت بقربي منه، وأنه يمت لي بصلة، شعرت ببعض الحنين تجاهه، فمنذ وفاة والدي، وأنا أفتقد حنان رجل كبير يحنّ عليّ بطيبة قلبه ورحمته.

وفي اليوم الثالث جاء الرجل، قررت أن أنزل وصديقتي لأتمشى قليلا على ذلك الكورنيش الممتد، وأحاول أن أتحدث إليه قليلا. اقتربنا منه، وعلى استحياء بادرته بالسلام، فنظر إليّ بحنان يقطر منه:

"وعليكم السلام يا بنتي."

تلعثمت قليلا، وابتلعت كلماتي، ولم أعرف بم أبدا، حتى بادرني بقوله:

"كيف الجامعة معك؟ شاطرة؟"

"الحمد لله يا عمو، الجامعة مليحة، وأنا بجيب امتياز فيها."

"يبدو من لهجتك أنكِ فلسطينية."

رددت عليه بسرعة وانفعال، وأنا أجزم بفلسطينيته:

"أنا فلسطينية يا عمو، من غزة. أنا من غزة نفسها. اجيت من سنتين بس، وأنا..."

قاطعني بشغف:

"أنت من غزة؟ يعني لسة ريحة غزة فيك."

أومأت إليه برأسي، وأطرقت شوقا إلى الأرض.

كان الرجل فلسطينيا من غزة، ولم ير غزة منذ أن كان في العاشرة من عمره، وخرج مع والده الذي كان ضابطا في الثورة الفلسطينية، وتشتـتا في أصقاع الأرض، حتى استقر المقام بوالده في الكويت، ثم انتقل هو إلى الإمارات للعمل، ولم ير فلسطين منذ ذلك الحين.

"بالله يا عمو إذا بتنزلي زيارة تجيبيلي شوية تراب من فلسطين. والله مشتاق أشمه. أنا دايما هون قاعد، بس للاحتياط هاد رقم تلفوني."

"على راسي يا عمو، بإذن الله."

وسافرتُ إلى غزة، ومكثت فيها واحدا وعشرين يوما، وحرصت أن آتي بقليل من التراب والصدف من بحر غزة، وعدت، وانتظرت الرجل وتأخر قدومه، ولما اتصلت على هاتفه، كانت ابنته الكبرى تخبرني بأنه قد فارق الحياة مشتاقا إلى أرض غــــزة.


(*) طالبة من غزة تدرس في جامعة الإمارات في الشارقة. ذهبت لزيارة أهلها في غزة في الصيف، ولا تزال محاصرة مع شعبها في القطاع.

D 1 كانون الأول (ديسمبر) 2007     A هبة محمد الأغا     C 0 تعليقات