عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

آمال يحياوي - الجزائر

تداعيات من قبر


الإهداء: إلى روح أختي، وإلى الموت في نشوة انتصاره.

.

المدخل: كنا موتى صديقي، موتى. قتلنا الحضور.

.

ضمني إليك أيها الليل الغارق في سواده القاتم كقبر، ضمني إليك أيها الليل المتخم بتخاريفه الأزلية، بأمنياته المسروقة، بسخرياته الخريفية. امنحني أغنية الشتاء الأخيرة، وألحان الهذيان المجنونة. دع المطر يجتاح سنواتي المشردة. امنحني في غربة انصهاري، حقيبة احتضار جاهزة، قليلا من الدموع، وكثيرا من الصمت.

ضمني إليك أيها الليل الأبدي. افتح جراحي على أنغام سكونك. امنح ضياعي تأشيرته الأخيرة، خذني أين ينام وجعي مهملا، ثملا بسخرياته، بأمنياته، ببكاء أيامه، وهشاشة غربته المتسكعة على أكوام الجليد. خذني إلى سقمي، إلى ذاتي المتطايرة كالشظايا، دعني في أزقة الغربة، في أزقة الاندثار. اسمعني أغنيات الاغتراب، واغسلني بزحام المدينة المحموم. خذني إلى حتفي، إلى تخاريفي الورقية، أين تترنح الآهات، وينمو الضجر في الأفواه الجائعة، وتتلاصق على الجدران أوهام صبية ألفوا المغامرة، فأضاعوا الطريق، وتاهوا في عدم الأسطورة.

امنحني أيها الظلام الهائج على حكايات الصبا تأشيرة النسيان، وأمنح روحي المتعبة تأشيرة الراحة الأبدية، علني أستيقظ من حالة تحنطي. أنا امرأة التعب. أنا امرأة الاحتضار. خذني إلى براري الفناء، علني أتلاشى وتضمحل ذاكرتي، وينبت السبات بأعماقي، فأتجاوز الماضي والحقائق المتفجرة في وجهي كل لحظة، فأنسى. آه. أنسى.

أرمي جسدي الملتهب إلى القطار، فتوقظني صفارات الوداع، ويحتضر آخر نفس للمدينة بداخلي، وأعي الغربة تتربع على عرش جسدي، وتفيض على مسامي الملتهبة، فتفور في الهواء الرمادي وتضل طريقها في ظلمة الليل. ويقابلني هذا الرجل القادم من عدمي. نجلس في جلسة احتضار موحشة، متقابلين كالمفاهيم المتناقضة.

رسمة لآمال يحياويرجل وجهه كقبر، موحش ورهيب. حضوره كرواسب تجريدية صبت في لوحة قاتمة بإحدى المغارات المنسية. تثيرني نضارة الملامح البركانية. الخوف الذي يتلصص على ملامحي يتلاشى، وأفرح بخبث وأنا أتحسس ألوانه الداكنة ووجهه الجليدي. عيناه سوداوان براقتان تطل منهما نظرات متحجرة، تثير ذعري، تهزني بوخز صامت، وتنسدل ابتسامة نصف ساخرة لتتعثر بشفتيه. توهجت عيناي ببريق آسر ورحت أتشبع بالنظر إليه. لملامحه الأثرية القادمة من التاريخ المظلم، أتفرس وجهه التابوت، وأجدني أتجاوز ذعري وضعفي وضياعي، أفرح للوحشة في جلسته، للصمت الطويل الثقيل. أحب رعبه، وأغرق في أنفاسه وتنهداته. رجل يركع الصمت عند قدميه، يجثو الخلود بين يديه، رجل الفرار. رجل القرار.

واستحال القطار نعشا قرمزيا، يمتطي صهوة حصان ثائر، ظل يركض هربا وفزعا. يحارب الليل المثقل بهمومه. فارس الموت الأخير.

ضمني إليك أيها الليل وأعدني إلى وشمي الأسطوري. أعدني تحفة أثرية، نكتة صبيانية، أشيائي الطفولية ضاعت، وأحلامي تخثرت، وها هو الوجع يزحف على خواطري وأيامي. يأكلني تعبي ويتثاءب الوجع بداخلي، ينكسر الجنون وينفجر دما، غضبا ونواحا، أنا امرأة الهذيان.

أسخر من نفسي كل لحظة. وأتشنج في زوايا المكان، كعرافة مدببة الملامح، تمارس تعاويذها البدائية، وتفوح منها روائح مخدرة، وتعربد الخرافة في أوانيها وبخورها. وأسمع أنين العمر الراحل، وصراخ الأحلام المتخمة، فيتبدد لوني، وتشحب ملامحي، وأتلاشى في هذا اللقاء الصامت. وأحس جسدي يتفتت إلى رماد، إلى ذرات صغيرة حقيرة، يعبث بها الهواء المتسرب من النافذة، تتطاير في الأجواء، وتداعب وجه هذا الرجل الصامت. تراه أحس بفتاتي؟ تراه أحس بذوباني؟ ورأى وجهي المفحم وهيكلي العظمي العاري؟ قريبا سينهشني المرض ويأكل لحمي ويمتص دمي كله. قريبا سأموت كفقاعة هواء، وأدفن نصف جثة، سيستحيل جسدي الرشيق، بشرتي النضرة إلى كومة فحم سوداء، إلى لعبة محروقة تثير الرعب في البراري البعيدة.

سيستعمرني المرض الخبيث، ويطعن شبابي ويذبحني من الوريد إلى الوريد، سأموت قريبا. هذا ما قاله الطبيب. ما أكدته التحاليل. اصطنع العزاء وهو يحاول مواساتي، فسخرت العيادة منه، وثار المرضى الذين مروا على مقعدي وماتوا، ثاروا على كل شيء، ومضوا ينتحبون، ومضيت انتحب معهم. انسحبت من العيادة ميتة، وسلمت روحي إلى بارئها قبل الأوان. حاولت مباغتة المرض والموت مسبقا بقراري أنا، بلا ألم، بلا جسد مفحم، بلا عفن. حملت حقائبي وقد نبت الفراغ بها، حملت كتبي، أحلامي، كي أسخر من موتي، كي أسخر من مرضي، سأتجاوزه، سأسافر، سأستقل قطارا سريعا، لن يلحق بي المرض، سأموت بسرعة، سيركض بي القطار بعيدا، سأركض معه، لن يتوقف، لن أتوقف، لن أفكر، لن أذكر شيء.

ينبض الوجع ويجتاح تنهداتي، وأراني أتحسس نبض هذا الرجل الصامت. أحب صمته، نظراته المتفرسة كشهب ليلية، أحب أن اغتسل في الشلال الهادر في عينيه، في ابتسامته نصف الساخرة.

رجل أسود كموت. قطار أسرع من الزمن. وليل مظلم. هذا كل ما أحتاجه، طفيلية مثلي تسلم روحها للموت بهدوء، تسلم جسدها النضر للأسنان الحادة والأظافر المسمومة، للمرض، المعتوه الثمل، ضخم الجثة، قبيح نتن. يزحف على جسدي في ليلة شيطانية، فأشهق مخنوقة، موثوقة بجدار، يغتصبني، يزرع الذعر بصدري، بخلايا جسدي، فتتفجر بالدماء، يتطاير لحمي قطعا مهترئة، فيصيح المعتوه البشع بجنون، يقهقه بشراسة، ثم يمضي في الظلام، يمضي ويتلاشى، وأتلاشى أنا أيضا، وأبقى كتلة عظام منسية، موثوقة بجدار.

آه سأموت ميتة موحشة. سأتعذب بصمت.

أهرب إلى الرجل الظلام. أحسه رحيما كموت مفاجئ. لا أريد أن أموت ببطء، أريده أن يحبس أنفاسي في هذا القطار، أن يقتلني بسرعة. لكنه يخذلني ويتركني لصمته، وللمرض ينهشني بأسنانه، يغرز فيّ أظافره حدّ العظم، ويشد بقسوة، أنتفض، أتلوى كأفعى ملسوعة. هو المرض في قوة جبروته في نشوة غروره. كنمل أسود جارف يجتاح جسدا بضا نضرا. يأكله ببطء.

حتى الموت يمتهن السخرية أحيانا، يفرق بين ضحاياه وفق مزاجه، بعضهم يموت بمجد، وبعضهم يموت ذليلا حقيرا. هكذا بلا اكتراث يراقص الجثث ويرسم لوحات مختلفة، بلمسات مختلفة. وحده الموت الفنان المهووس، يعبث بالأرواح خلسة، يختطفها من فم الحياة على حين غرّة. يسخر من أنانية البشر وغرورهم، من خيباتهم وغبائهم. وحده الموت سيد الحقيقة. يتيح لك رؤية مواجعك في قمة جنونها وعذابها ورعبها، كجنون مرض طفيلي يأكلك بصمت، وأنت تشاهده، تتحسسه، تعايشه مكرها، يخدعك، يجتاح أعضائك لتخذلك وتصبح عدوة لك.

وعيت كل هذه الحقائق منذ احتضنته ليعشش بأعماقي، استسلمت لوخزه، لألمه، لعفنه، وأنا لا أقوى على غير ذلك عندما أهانتني أعضائي وتمردت علي، وخذلني جسدي في آخر الطريق. وحده الصبر يسليني، ببضع كلمات، يخفف عني طعنة أقرب أعضائي إلي، غدر جسدي. آه يا جسدي. أنت بكل تفاصيلك، بكل رشاقتك، بنشوة صحة عابرة، بشباب متلاشي، ها أنت تعانق حتفك، ها هو الليل يعريك. يفضحك، يفضح هزائمك، حرائقك.

ضمني إليك أيها الليل الشقي. احتضنني، استر جراحي العارية، أوقف نزيفي، خذني إلى ظلامك، ابعد عني وخز الإبر، وألم الجسد. امنحني بسوادك، بقوتك، بعظمتك، امنحني الصبر، أحطني ببرنوسه الأبيض وبكرمه. أيها الصبر القابع في قلوب البسطاء، في قلوب الطيبين، أعطني شيئا من ريحك، شيئا من عطرك وبركاته، أعدني إلى حقيقة الإنسان، واعتقني من أقنعة الحياة الساخرة.

كم كانت عابثة حياتي. كم كانت مملة أحلامي، تخاريفي، كم كان ضيقا تافها غروري. كل تلك القضايا الساخرة التي كنت أحشو بها مخيلتي فتتقيؤها قرفا وذعرا، كنت أحلم أن يكون لدي عمل مستقر، منزل، زوج، حياة هانئة سعيدة. ولما لا رحلة إلى أوروبا، سيارة فاخرة، مجد، ترف. أحلم أن أهرب من فقري. من الحي البدائي الذي كنت أسكنه، العمارة المهترئة الصدئة المهددة بالانهيار في أي لحظة. قررت أن أدرس، أطمح، أن أتجاوز واقعي، فوجدتني أسافر إلى حتفي، واستحلت لعود ثقاب محروق، مرمي في زاوية ما، قرب جدار.

ظللت أسيرة العمارة القديمة، أطل من شرفتي كل مساء بوجع، أترقب الخمارة في آخر الشارع، والسكارى، والثمل الذي طعن رفيقه ثم طعن نفسه، بصق على الجدار دما خثرا، ثم قهقه كمعتوه. ومات. وسأموت أنا أيضا.

الليل مظلم، وهذا التعب الممتد داخلي كأرض جرداء. غريبان ننشد سلاما مستحيلا، نتكوم كجرذان مشردة في زاوية مظلمة، نخدش الهواء من حولنا، ونسافر عبثا في الفراغ. تراه مثلي هذا الرجل الصامت بلا وجه، تراه أنيس المحطات، مشردا مثل قدري الضحل؟ تراه مثلي بلع مأساته مكرها، وأروى ظمأ الأيام بخيباته المتلاحقة؟ أتراه لسعه العمر وخذله في آخر أيامه، وهزه الواقع المعاصر بكل تناقضاته، فعبث به في آخر لحظة للهروب وفي قطار مشحون بالوجع؟

توقف القطار. توقفت أنفاسي. تعثرت تنهداتي وتآكلت، خذلني صوتي وجسدي، واستحالا إلى كومة فراغ جامدة. لم يعد يسري الدم بعروقي، لم اعد أقوى على الحركة، ولا على الشعور بأي شيء. لا أحس بزحف المرض، ولا بنبش أظافره الحادة، لم اعد أسمع قهقهاته الشريرة.

أشعر فقط بوخز الصمت والسكون. وحتى الرجل الصامت ما عاد صامتا. تحرك جسده وانتفض واقفا، حمل حقيبته على عجل، كل ذلك الصمت رحل هكذا. على عجل.

بقيت وحدي أتأمله من بعيد. أتأمل صمت القطار وهدوءه المضطرب، وصمت جسدي. تراني مت؟ هل توقفت أنفاسي حقيقة؟ هل توقف نبضي وتلاشت حياتي أخيرا؟ هل سأحتضن الموت بكل أسراره؟ لكني ما زلت أعي العالم من حولي. أرى الكراسي الفارغة، أسمع أنين المحطة، وأحس بأنفاس الليل، بنسمات باردة خفيفة تداعب جسدي المشلول، ماذا تراني أصبحت؟ ميتة أو حية؟ في لحظات الجنون الليلي قد تختلط الحياة بالموت، ولا تدرك أبعادك وموقعك، فهل أنا في النهاية أحتضر؟ وهل هكذا بكل تلك العتمة وذلك الجنون يكون الاحتضار؟

لم أكن قد وجدت جوابا لحيرتي حين هزني بعنف كهل بدائي، صرخ في وجهي وكاد يركلني كي أترك القطار، لو لم أنتفض وأجرّ جسدي المشلول إلى الخارج. أتراه منظري وتواجدي المشبوه ليلا ما جعله يبحث عن التخلص مني، ومن شبهتي وتطاول النظرات الجائعة المتحرشة بي؟ أو كي يتفادى مشاكل اعتداء قد تحدث بالقطار؟ أكان على حق؟ طبعا لن يهمني الجواب ما دمت لا أعرف إن كان للمرض حق في اعتراض سبيل شبابي وحياتي.

متعبة. متعب صمتي. خذلتني أشلائي وعادت للحياة حين قذفت بي خارج القطار، وحيدة في نفق مظلم طويل، كنهر راكد منذ عصور. أعاود تلمس جسدي عتابا، ألعق خذلانه، بعد أن صدقت خلسة أنني مت وأن القطار بسرعته سيرمي بي لأحضان الموت لكنه رمى بي في النهاية في مستنقع بشري بائس، بمحطة قذرة، تعصرها ظلمة الليل، وتطحنها وحشة العتمة.

هكذا خدعت نفسي بصمت رجل عادي، بظلمة ليل ساكن، وبسرعة قطار مهترئ، ما كان كل ذلك أن يواجه المعتوه الجشع بداخلي ويوقف نهمه وشراهته بتمزيق أحشائي. ابتلعت صوتي وخطوت برصيف المحطة البائس، نظرت حولي، كانت حزمة فئران مشردة، مترامية في زوايا المكان، تتقلب ثملة، تتفرسني بنظرات جائعة، تترنح شراسة وشهوة.

ضحكت من أعماقي، انتفضت ساخرة ورمقتهم باستهتار. لو يدركون فقط أن هذا الجسد المثير مسكون بالحمم والعفن، لو يعلمون أن هذه الرشاقة الأنثوية المغرية تخترقها أنياب قذرة مفترسة، تنهشها حتى العظم، بتفوق على فظاعتهم وشناعتهم الحيوانية. خطوت إلى سيارة أجرة فتناثرت الفئران من حولي وتلاشت ساخطة، غارقة في عربدة هستيرية. انطلقت السيارة بي دون أن تحدد وجهتي، وتعثرت نظراتي بلهفة سائق جائع، تحرش بي وتفرّسني بكبت، فانفجر صمتي دهشة وكآبة. سخرت من ذئاب الليل واشتهاء الليل، وكل ذلك الجنون الذي يثيره جسد أنثوي مرتجف في غابة من الضباع والأهواء والحمم المتفجرة. تراه هذا المشرد بسيارته اشتهى ابتلاعي حين قال: "إلى أين، يا الزين؟"

أجبته ببلاهة: "إلى المقبرة."

لحظتها حدث زلزال من مكان ما. ارتجفت سيارته واندفعت ثائرة كمهر جموح، يركض فزعا في البراري البعيدة. اصطكت أسنانه، خرس لسانه، فاضت نظراته ذعرا واهتزت تعاويذه تمخر صمت المكان، وأنا أترقب همهمته ضاحكة، أقهقه بهستيريا مجنونة زادت من رعبه وجزعه. أتراها ساحرة ماكرة، تسللت إلى سيارته البائسة، تحمل بحقيبتها أطراف موتى وبعض العقاقير والبخور الملعون؟ أم أنها جنية ساحرة في ثوب حسناء شهية، تتربص بضحاياها ليلا؟ فهل ستنقض على هذا السائق البائس الذي رماه سوء حظه في طريقها، فلعن عمره، ولعن لهفة احتضان وليمة ليلية مشردة، فجاءه الذعر مهرولا وخرق صدره وهز سيارته في نواحها المسعور؟

كم هو كريم هذا المرض. برغم قبحه، برغم جنونه، ها هو يسخر من همجية البشر وقذارتهم.

ها هي المقبرة، مدينة الموتى، تكسر غرور الناس وبطشهم. ها هو الموت يحمي فتاة عزلاء من نهش الكلاب الشرسة الجائعة.

أصل المقبرة ذليلة. تخذلني أنفاسي، يعود الصمت ليزرع بؤسه على جسدي، تلفظني السيارة وتهرول مسعورة، تترنح في خوف مهيب. وأقف أنا وحدي في ذلك المكان البارد، أتسلل في ظلمته الموحشة، فيقابلني سكونه، يتحسسني، يتلمسني، أسمع صوته الخافت، أسمعه وأترقبه بدهشة ظمأى.

"هنا إذا. سينتهي كل شيء. سينتهي بي المطاف بعد كل ذلك العمر، كل تلك الخيبات، الطعنات والرماد. كل شيء سينتهي هنا وسيرمي بنفسه متعبا ممددا بقبر بائس منسي."

هنا سأنام طويلا، بعد أن يكون المرض قد التهم جسدي ورمى بعظامي لحفرة ما، بهذه المدينة الشاحبة كسراب ليلي غامض. هنا سأجتمع بكل هذه القبور المنسية، سأموت بينهم، وأضمحل بينهم، وأتلاشى وأمتزج بالتراب. أنحني إليه، أتحسسه، ألتقط بيدين مرتجفتين حفنة منه، فتتسلل مرتعشة مترنحة، لتسرع لاحتضانه والعودة للنوم والتكدس فوق بعضها البعض. هو تكتل التراب. وتكتل الموت والتحامه.

بعض جسدي سيلتهمه المرض، وبعضه ستسحقه الأرض وتحوله لذرات صغيرة، تدوسها الأقدام، تذرفها الرياح بعيدا، إلى مدن أخرى، إلى مقابر أخرى. وهذه الذرات المتبقية بين أصابعي. أكانت لأجساد نضرة تنبض شبابا ورونقا؟ أكانت لشفاه كثيرا ما غنت، ما قصت حكايتها، ما لعنت عمرها؟ أكانت لنظرات أسرت القلوب وسحرت الوجدان؟ أكانت للسان ثرثار كثيرا ما كذب أو قال شعرا، أوفاض حبا وجنونا؟ كل هذا التراب أكان لأشخاص بلحمهم وعظمهم، لأجناس متفرقة من هذا العالم، لبشرات ملونة، لثقافات مختلفة، لأجساد شابة وأخرى مجعدة، لأحلام، لرغبات، للهث غبي وراء سحر الحياة. وطمع الحياة؟

كل هذا الرمل المحيط بي سيخترقني ذات يوم، يلتحم بي دون إذن، ذلك الجسد النضر الذي حرصت سنوات على نظافته والعناية به، وانزعجت مرارا لحب طفيلي طفا عليه أو لجرح صغير خدشه. كم استهلكت من مراهم، مرطبات، مساحيق تجميل، عطور وروائح، لأجل طيبه وجماله. هكذا ببساطة تستقبله حفرة قديمة عادية، تحتضنه بلا اكتراث، كما تفعل مع كل الأجساد، لا تعتمد مقاييس محددة، لا تهتم لا بلونه ولا بعطره، ولا بنعومته. هي حفر على كثرتها تتشابه في القدر نفسه، وتستقبل جثثا بالكفن الأبيض نفسه، وينام زوارها على الوضعية نفسها، ليتساوى الجميع أخيرا تحت الأرض.

وحتى القبر الرخامي الذي يختطفه البعض من زيف الدنيا ووهمها يبقى فوق الأرض وليس تحتها. لا أحد يهرّب ظلم الحياة تحت التراب. لا أحد يخرق القانون تحت الأرض. هكذا بين العالم التحتي، والعالم الفوقي، نتساوى جميعا وتتحقق عدالة الموت. في تلك التربة البسيطة نحتضن بعضنا البعض، نتشابه، نتلاحم، نتداخل، كلنا. كيف سأصدق أن هذه النظرات الدافئة، هذه الابتسامات الشقية، جسدي في رونقه وجماله، شبابي في قمة عطائه، سينتهي قريبا هكذا فجأة، ويصبح مجرد رمل بارد منسي؟

أأنا تلك الحسناء اليافعة التي تملأ ابتساماتها ألبومات الصور؟ أم أنا تلك العظام الهشة المرمية في القبر؟ أما أنا تلك الروح الخفية في علم خالق البشر؟

أقود خطواتي للتسكع ليلا بين القبور، أسماء، تواريخ، شباب، كهول، موتى. يشدني قبر مفتوح، فأقف عنده، أتأمله بصمت. في مكان بمثل هذا العمق سأنام يوما، بين الموت والحياة خيط رفيع بحجم قدر، نفس خفيف شديد الخفة، لا تكاد تلحظه أو تحسه. بين الحركة والسكون، هو نفسه، نفس خفيف شاحب. بين كل تلك الأحلام، الرغبات، ذلك الخوف، تلك الأفراح والنبضات، تلك الأماني البائسة والسعادة المخادعة، لحظات دهشتنا، رقصنا، فرحنا، بينهم وبين سكوننا الأبدي ونومنا الطويل، هو نفسه نفس خفيف شاحب. واحد من كل تلك الأنفاس المنتظمة في روحتها وإيابها بالرئتين. فأي أنفاسي سيكون الأخير؟ كم تبقى لي من نبض، من ضخ للدم وللهواء، كي تغادرني الحياة؟

هل سيأتي الموت كريما وينتشلني من قبضة المرض المفترس؟ أم أنه سيشاركه لعبه الشيطاني؟ لن يكترث لصراخي، لتوسلي واستجدائي. سيراني ممددة في سرير صحي خصص لصناعة عذابي وعذاب الكثيرين بتفوق علمي عصري، كثير من الإبر، من القنوات، من الأجهزة، لصناعة موت طويل. سيتمدد المرض بقربي، بثيابه المتسخة، وأسنانه المكسورة المدببة، سيلتهمني، وسأصرخ ملتاعة، أعجز عن الاعتراض لأتقيأه مرارة ودما وعفنا. يسرع الممرض بالحقن والمهدئات. ينام المرض بتثاقل. ثم يستيقظ متثائبا ينقض علي، ينبش جسدي بأظافره أتلوى ألما، أتقيؤه، يسرع الممرض بالمهدئات، فينام مرضي وأبقى لأشهر طويلة بين فكين جائعين: عذاب المرض، وعذاب الحقن. ويقابلني الموت من بعيد، يتفرج على عذابي بهدوء، يتأمل توسلي ورجائي بصمت. ينتظر مثلي آخر نفس. لا يثور ، لا يهتز، يجلس بكرسي مجاور، يقرأ جريدة، يقلم أظافره، لا شيء يعنيه، لا شيء يثيره، جالس ببرود، ينتظر تنفيذ التعليمات كأي موظف في أي مكان. ليست مهمته إيقاف المرض، ولا الإسراع بأجلي. إنه نفسي الأخير، وحده خلاصي. وحده القادر على انتشالي من غرفة احتضاري، وصوت آلاتها وطنينها. وحده خلاصي من غيبوبتي الثقيلة، من ذلك الهمس البعيد لأصوات الأهل والأحبة، لغمغمتهم، لهمهمتهم، لا أنا أقوى على سماعهم ولا على الحديث إليهم. معلقة بين الحياة والموت، ساعات من الاحتضار الموجع والانتظار الطويل.

أهرب إلى حفرتي، إلى القبر المفتوح أمامي، إلى هذه المقبرة المنسية.

هنا سينتهي كل شيء. ستصمت الأجهزة تصمت همسات الأهل، أصواتهم البعيدة، سأسمع الصمت بوضوح، لأنه لن يتاح لي سماع صوت آخر غيره، وسأرى ظلام القبر، لأنه لن يتاح لي رؤية شيء آخر غيره. في تلك البقعة المنسية تتجسد خاتمة الإنسان، بنفس طعم الموت وذوقه، وإن اختلفت لحظات وساعات الاحتضار، سيأتي النفس الأخير على مهل، مشابها لصرخة الولادة. صرخة اشتركنا فيها جميعا وضاعت في ذاكرة النسيان، كما ستضيع صرخة الموت في سر الكتمان.

فكرت أن أتسلل إلى الحفرة، خطوت إليها بفضول محتضِر، أردت أن أتحسس مكاني القادم، أن أجرب موتي المنتظر، تمددت في القبر أتحسس ملمسه، أهو دافئ أم بارد؟ خشن أم رطب؟ ناعم أو أجوف متشعب؟ أكيد انه لن يكون كأفرشة حالمة وردية لنوم عرسان جدد، ولا ككرسي فاخر في صالة فاحشة الثراء. سيكون جافا، بليدا، جاهزا لاحتواء وليمة الديدان النشطة. بدأت أبحث عنها، عن آثارها، عن دبيبها، أردت التعرف عليها مسبقا، أو ربما مهادنتها، ورشوة عطفها. لكنها رفضت دعوتي ولم تظهر، أو ربما تستهويها رائحة الأموات ولا تعنيها أنفاس الأحياء، أو ربما كما يقول العلم، تخرج الديدان من الجثث.

أغمضت عينيي على تعبي، كانت رائحة القبر مخدرة، فرحت أتلمس خيالات بعيدة، أطبقت عليها ذاكرتي ذات عمر، وراحت تفرشها أمامي هذه الليلة، في حفرة ستستحيل قبرا مع الفجر. أخذت تعرض علي محطاتي القديمة، شروخي، هفواتي، ذلك السقوط السحيق الذي عشته بكل هوسه، بانحداره الجنوني الهالك.

من بعيد راحت صور الماضي تتهاوى أمامي، وأصواته تتصادم بطبلة أذني.

صوت أمي ونواحها الجريح، وقع خصلات شعرها المنتفضة من وشاحها الرمادي، وهي تندب حظها بزواجها من رجل شهواني العنف، آثار ضربه، صوت صراخه الوحشي، صوت سوطه، وركل أقدامه بقسوة حيوانية.

صوت بكائي الطفولي الذليل، ونواح ثيابي البالية خجلا أمام أترابي في القسم.

صوت أثاث منزلنا المهترئ وتقاذفه في الشارع خادشا فضول المارة، وحسرة الجيران.

صوت عويل أبي، وتوسله الجريح.

صوت تهديد صاحب البيت ودحرجة كرشه الثقيل دافعا أبي المتشبث به في استكانة بائسة.

صوت سقوط أبي في وحل الإهانة والذل، نفسه الوحل الذي ركل إليه أمي بعجرفته الذكورية.

صوت استعلاء صاحب الدار، وبصاقه على أبي وعلينا كأنه يبصق على جيفة.

صوت تنهدات أمي، وانسكاب عرقها المالح مبللا تعبها اليومي الشاق في تنظيف البيوت، لأجل سد رمق أفواهنا الجائعة.

صوت مساومة أستاذي بالجامعة، صوت ابتزاز صاحب العمل، صوت تحرش أبناء الجيران وشباب الحي.

صوت صراخي وانتفاضتي الهوجاء، حربي على العالم الظالم أمامي، حربي على فقري ووهن أيامي.

صوت نجاحي الحافل، وانتصاري الأنثوي الساحق، وهز جسدي المتدفق فتنة وإغراء.

صوت تهاوي المال والمجد عند أقدامي، صوت انكسار الحياة أمام سلطة جمالي وجاذبتي الفاتنة.

كل تلك الخيالات البعيدة، تلك الأصوات الثقيلة، بقيت تذر رمادها على ذاكرتي، مشرعة أبوابها للنزيف والغصات. عندما يأتيك كل ذلك الوهن العاطفي، ويأكلك على مهل، يتفنن في طهي أعصابك، في نسج شرنقة جنونك، بخيوط عمرك المتسرب من ثقوب الزمن. أتراني كنت سأفكر في المجيء إلى المقبرة، وفي فلسفة الموت، وفي تلك الزوبعة الهائجة من الأوهام والتداعيات، وتخاريف الاحتضار بين البقاء والفناء؟ هل كنت سأتصوف وأجهد أعصابي في البحث عن ماهية الحياة، لو لم يتسلل المرض إلي ويخترقني ويصفع غفلتي ويتلف شبابي؟

أكنت سأفكر في كل ذلك، أم أني كنت سأتمسك أكثر بالحياة وسحرها، والتهمها بكل القوة وبمنتهى اللذة والرغبة والمتعة؟ أكنت سأغرق حياتي في أهوائها وأجري خلف أطماعها وبريقها: لمعان قصر خرافي، سيارة فاخرة، مجد مادي، كثير من الأضواء والحفلات، من الرقص والسمر، من الفساتين الفاضحة المغرية، من العطور الخاطفة الجذابة، وبريق الحلي الثمينة. كل تلك الإغراءات التي تلونها الحياة بعيوننا، نجوما ليلية أسطورية؟

أكنت سأنسى كل ذلك وانسحب وأنا أنعم بالصحة والجمال والشباب، وأزور مقبرة موحشة في ظلمة ليل ساكن؟ أكيد أني ما كنت لأنزلق من بذخ الحياة إلى ذل الموت وفتوره، وأنا احتضن حسني، وأكسر القلوب المرتجفة هياما أمام وقع خطواتي الفائضة إغراء ودلالا أنثويا رهيبا. ما كنت لأترك انتفاضة جسدي الرشيق ونبض جاذبيته الآسرة، مذلا أقوى القلوب، لتنحني عطشا ولهثا ولهفة ظمأى أمامه. ما كنت لأنام هنا، في بؤس حفرة ترابية رطبة وآلاف الأسرة الوردية المتخمة رغبة جامحة، للمسة إغرائي ولنظرة سخية من جمالي.

لكني سلمت كل ذلك الاشتهاء الدنيوي للأنياب المتسخة، وللأظافر القبيحة النهمة، ولرائحة جيفة كريهة في قبر منسي. لكنها الحياة في عبثها، تمزج المجد بالذل، الجمال الساحق بالقبح البشع، كما هو تناقضها في احتضانها للموت.

كل ذلك دفعني للتشبث أكثر بالقبر، الهرب إليه، التعود على صمته وسكونه. تمددت أكثر فوجدتني أهوي إلى العمق، فقدت توازني، وأصبحت المسافة بيني وبين السطح بعيدة، شعرت بخدره، بجفافه الذي تسرب بسرعة إلى جسدي، بدأت أفقد السيطرة على حواسي، شعرت باهتزاز عنيف، ووقع ارتطام قوي، أحسست بثقله علي، فتحت عيني فوجدته جثة ملفوفة بكفن، ذعرت، شعرت باختناق، حاولت التحرك منعني الثقل، حاولت الصراخ خانني صوتي، وشعرت بذرات رمل تهوي في الحفرة السحيقة، تهزني بوخزها العنيف، وغبارها الخانق، ومن بعيد تسربت أصوات غمغمة متلاشية، ووقع خطوات أخذت بالابتعاد شيئا فشيئا، ليحل بعدها سكون الصمت من جديد.

بقيت وحدي والجثة فوقي في القبر. أهي نهايتي؟ هل سأموت؟ أأخذني الليل بشجونه، فلم أنتبه لبزوغ الفجر ومجيء الصباح؟ أأخذتني سكرات الموت لمنتصف النهار لتدفن جثة فوقي في غفلة من هذياني؟ أهكذا أراد الموت أن يمازحني باستخفاف مريب؟ هل يمكن أن يكون انتظاري الموت ساخرا لهذا الحد، ليأخذني في قبر لم يكن لي؟ هل أراد أن يحشرني في المكان الخطأ محافظا على سرية مهامه؟ هل يمكن أن يسبق دفني موتي، فقط لأنني بحثت عنه بين القبور؟

لكنني رغم ذلك لم أمت، وظل الموت يمازح سذاجة الإنسان الهارب من قدره داخلي. نعم. لم أمت. كان وهم احتضار ليلي ساخر، كان سراب سكرات موت. بقي الموت يرفضني، يباغتني، يداهمني حينا، ويرمي بي لضياعي حينا آخر. ظللت معلقة بين احتضار واحتضار، وبقي هو يدور حولي دون أن يأخذني.

عندما فتحت عيني، كان ضوء الصباح الخاطف، يقهر مستفزا أهدابي المثقلة، وبنظرات متعبة حاولت مسح المكان حولي، وآثار الاحتضار الوهمي عالقة بملامحي. تحسست يدا مترهلة ممددة صوبي، عاينت بصعوبة صاحبها: كهل منحني الظهر بهندام بال، وبيده فأس متدلية. شدني كي أنهض وساعدني على الخروج من الحفرة، أدركت لحظتها فقط، مع احتضان أنفاسي للهواء الصباحي، أني ما زلت على قيد الحياة، وأن كل ما شاهدته كان، عبث احتضار فاشل، تلاشى مع تنفس الصباح.

كان لمنظر المقبرة مع شروق الشمس، وقع مختلف، كل هذه القبور المنسية تحسها تعيش بشكل ما، تتنفس، تتنهد، تهتز متثائبة، تفرك عينيها، تمط يديها وتداعب الحشائش المترامية حولها. تحس نفسك في عالم يتحرك، يلقي عليه الضوء مع كل لمسة، نبضا وحياة. حتى القبور تحيا.

أخذني الكهل المسن من يدي، ساعدني كي أنفض هندامي وارتب هيئتي وأومأ لي بالجلوس عند حجر بارز بين قبرين وقال دون أن يسأل عن تفسير لوضعيتي: "ريحي بنتي."

ثم انطلق نحو قربة ماء صغيرة، أحضرها واقترب مني بخطى أثقلها العمر، وقدمها لي بارتجاف الزمن، لم يجزع، لم تخفه وضعيتي، لم يثر ريبته حضوري الغريب ونومي في قبر مفتوح، حين قال بدفء سخي: "تفضلي أشربي، اروي ظمئك يا بنتي، بالصحة."

ثم جلس عند حجر مجاور، ابتسم لي وقد ترنحت أسنانه المتبقية في شفاه غزتها التجاعيد، لكنها بقيت تفيض صفاء وكرما، كان شيئ من السحر ينبعث من كهولته وبؤس منظره، كان ينتظر أن أقول شيئا، لم يشأ التطفل على جرحي، أو خدشي بالسؤال عن حالي وعما أتى بي إلى هنا، كان منظري يخبره بالكثير، بتعب ثقيل، بجسد نحيل ما عاد يقوى على الحياة ومحاربة الزمن رغم شبابه، عندما سادت بيننا مساحة من الصمت، قرر أن يكسر جليده، وقال بحكمة الشيوخ البسطاء:

"إيه المقبرة. عملت فيها أكثر من خمسين عاما، أخذت كل شبابي، حفرت قبورا وقبورا. وكما ترين، مازلت حيا أرزق."

قالها بابتسامة ساذجة، كل هذا الموت وهذا الجو المشحون بالبؤس، يقابل هذا الكهل بوداعة، بفرح طفولي سري، كأنه لا يعنيه، لا يخيفه الموت، لا تخيفه القبور على كثرتها، كم من حفرة حفرها، كم من جثة حملها بين يديه؟ من أين تأتيه تلك الشجاعة؟ من أين يأتيه كل ذلك الرضا؟

"الصبر يا ابنتي. الصبر."

قالها مجيبا عن حيرة مسحت ذهولي الصامت. كنت خرساء أمام حكمته، غير مصدقة أن الحياة ما زالت تدب في عروقي. كنت أتأمله، أتأمل الأشياء من حولي بسذاجة معتوه، كأني كنت في عالم الأموات ودخلت الحياة للتو. كأني لم أر شروقا وشجرا وعشبا اخضر، وترابا، ونسيما يهز الأشياء من حوله، وشيخا بسيطا بالكاد يحمل ثقل جسده، وثقل ذاكرته. بالكاد يبتسم، يتأملك بنظرات هرمة محاولا تحديد ملامحك.

عندما طال صمتي أدرك أنه سيواصل الحديث وحده، ربما لأني لم أكن الوحيدة التي أخذها جنون الاحتضار لتبيت ليلة كاملة في مقبرة. أكثر الذين يزورون المقابر يأتون لاستجداء شيئا من العزاء، ولكتم لوعة الفراق. هم يأتون على كثرتهم لتشيع موتاهم. يبكون. ينتحبون.

هم يبكون أحبتهم، وينسون في خضم ذلك أن يبكوا أنفسهم، يتذكرون جراحهم، ومفقوديهم، لا أحد اقترب من قبر محفور أو قطعة أرض مجهزة للحفر، ووقف أمامها كأنها قبره هو، وبكى عندها على حاله ولأجل نفسه. لا أحد يبحث عن قبره أثناء زيارته للمقابر.

وقف الشيخ بصعوبة. أعاد قربة الماء إلى مكانها، نظر لي مودعا وقال:

"إنها الحياة الدنيا يا ابنتي، مسيرة شاقة، تنتهي عند هذه القبور. أجل. الله سبحانه وتعالى خلق كل شيء وخلق لكل شيء حكمته. ذات يوم تمددت مثلك في قبر مفتوح. نعم كان ذلك قبل أكثر من خمسين عاما، كان الطب قد حكم علي بالموت، فرحت أتلمسه، وأرمي بنفسي إليه، ربما كما فعلت أنت هذه الليلة. تركت طموحاتي، أحلامي، ورميت نفسي لموت ظل يرفضني. لا تصدقي أني مجرد حفار قبور بسيط، لا. لو لا سخرية الحياة. لكنت اليوم مفكرا عظيما.

سرب ابتسامة شماتة تلفها المرارة، وأضاف بغصة:

"نعم هي سخرية الحياة. كنت نابغا بين أترابي، وكانت لي فلسفتي وميولي الفكرية الكبيرة، قبل أن يعترض المرض طريقي، ويلتهم طموحي قبل التهامه لجسدي. وكان قبل كل ذلك قد التهم مستقبلي، حين جلست كل تلك السنوات عند حافة الموت أنتظره، لكنه لم يأت. لا. لا تنتظري الموت مثلي، انطلقي للحياة فليس هذا مكانك الآن، ومجيئك إليه لن يكون بإرادتك، انطلقي وأكملي رسالتك التي خلقك الله لأجلها. وحتى هذه القبور ليست النهاية، هي مجرد مرحلة أخرى نمر بها في عبورنا الإنساني."

صمت فجأة. كان يلملم أنفاسه بتعب. وأضاف أخيرا كأنه يوقع كلامه:

"نحن نمر في مسار حياتنا بمطبات كثيرة. نصارع الأمراض، الفقر، الجوع، الحروب. ونصارع أنفسنا أيضا: أهواءها، رغباتها. نصارع أنانيتنا، أطماعنا. نحارب كل شيء. ونتوقف عند لحظات السعادة العابرة، لنشحذ أسلحتنا، من أجل مواصلة الحرب. أكملي حربك يا ابنتي، ما دامت بجعبتك بقايا ذخيرة. واصلي صراعك، مادام نفسك الأخير لم يحل أوانه بعد. لا تنسحبي من الحياة بجبن. أكملي رسالتك. لا تتركي آخر صفحات كتابك بيضاء، والحبر مازال لم ينضب من قلمك بعد."

D 1 كانون الأول (ديسمبر) 2007     A آمال يحياوي     C 0 تعليقات