عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

ياسمينة صالح - الجزائر

كلمات لحب خارج التغطية


هل ثمة حب حقيقي في زمن الصواريخ العابرة للقارات، ورسائل الجوال الخالية من الدفء والتحيات المرتجلة والسريعة غير المهيأة للباقة والذوق في لغة انسحبت نحو الخلف قبل سبعمائة عام؟ كلما مررنا قرابة نهج البردى، أو تعمقنا في شارع قيس بن الملوح، وسرنا يمينا باتجاه زقاق أبي الفراس الحمداني، وكلما فتحنا كتابا ما يزال يغازل شفتي عبلة ويصف حمرتهما المثيرتين للقبل، كان للكلام شكل الحقيقة التي جعلتنا نصدق القصائد كلها، وكان لصهيل الخيول قيمة الفارس الذي لا يترجل عبثا إلا ليزرع في الدرب مساحة للعودة إلى أول العشق. هل بقي في الحب باب نتسلل منه/ إليه لنحب ونـُحَبَّ دون أن تغتالنا رصاصة صديقة تنطلق من الصفحة الأولى في جريدة نفتحها على عجل؟

* * *

من منا الأحمق الذي صدق أن الحب الأول هو الحب الأخير؟ لا أحد. ولا حتى حواراتنا التقليدية التي تصيبنا بالملل المبكر، وتسحبنا من قناعاتنا إلى اليأس الجاهز في قهوة الصباح التي يرتشفها كل واحد صامتا في مكانه قبالة الآخر، غير قادر على قول جملة واحدة دون أن يبذل جهدا في قولها.

"هل تريد قطعة من الكاتوه؟"

"لا. تعرفين جيدا أنني أحب قهوتي خالية من السكر."

نسيت ذلك منذ تبدل الوقت والعادات. نسيت أنك كنت تشربها بالحليب فصرت تشربها سوداء بلا سكر. نسيت ما كنت تفعله وما أصبحت تحبه منذ صارت الطقوس تعبّد طريق الصمت بيننا، ومنذ دخل الضجر اليومي إلى بيتنا ليجلس على الكرسي الشاغر ها هنا منتظرا أن ننهض ونترك له المكان كله.

"ستتأخر اليوم أيضا؟"

"أنا لا أتحكم في مواعيد شغلي. تعرفين أنني أشتغل في أي وقت وفي كل وقت."

وأكتشف أنني لا اعرف سوى هذا الصوت الذي يحدثه كرسيه حين ينهض ويغادر متمتما بكلمات تصلني بعضها:

"لا تبق مستيقظة بانتظاري، قد أبقى في المكتب إلى الصباح."

"لكن هل نسيت أن اليوم ..."

"اليوم هو أي يوم. هو كل يوم. هل ثمة شيء لا أعرفه؟"

"لا، أبدا."

"حسنا. سأذهب."

تحضرني أغنية قديمة للمطرب الفرنسي شارل أزنافور: "عليك أن تبتسم عندما ينسحب أي شيء جميل، فلا يبقى إلا الهباء في حياة تثير البكاء. عليك أن تعرف بأي شكل، كيف تحفظ كرامتك، مهما كلفك الأمر، وتذهب دون أن تنظر نحو الخلف. عليك أن تترك المائدة عندما يختفي الحب، دون أن تبدو مبتئسا، تنسحب دون ضجيج."

* * *

هل يمكن أن يعيش الحب أطول من عمر ولد للتو مبتورا من اليقين؟ أقولها وأنا أمسك بالجوال لأرسل رسالة مصورة كما كنت أفعل منذ سنين. لكني أكتشف أنني أرتعش. أبحث عن صورة أعبر بها عن شيء يعتريني. أفكر أن عليّ أن أختار صورة تذكره أن اليوم عيد زواجنا العشرين. يا إلهي! هل أجرؤ على تذكيره أنه مضى من عمرنا عشرون عاما من الضجر؟ أفكر في جملة لا تقلل من إحساسي بالحزن، ولا تزيد من شعوري بالغربة. لكني سرعان ما أقتنع أن الاتصال هو أقصر طريق إلى القلب. لا شيء أصدق من صوت يقــول "أحبك" ولو من بات التذكير بموعد لا يجب أن يتجاهله أحدنا.

بيد مرتعشة أضغط على رقمه المسجل وأنتظر. ألم تقل إيديت بياف "إن ثمة حبا يعود من القبر. يعود لأن الحب لا يموت." أحاول تذكر الحوارات البسيطة والدافئة التي يتبادلها أي شخصين دون بذل جهد في الكذب. أكتشف أنني كتلة من الجليد متشبثة بجوال يأتيني صوته قائلا: "معذرة، لا يمكنكم الاتصال بهذا الرقم. قد يكون خط مراسلكم خارج التغطية."

D 1 كانون الأول (ديسمبر) 2007     A ياسمينة صالح     C 0 تعليقات