فكري داود - مصر
عينان خضراوان وفرع صفصاف أصفر
في مواجهة الداخل بابان لحجرتين متجاورتين. على يسار الباب الأول ركن هو أحد أركان الردهة الأربعة. قاعدتا جداريّ الركن مسندان لظهرها. من تحتها يمتد فراش جلدي يخفي الأرضية عارية البلاط.
منذ بضع سنوات وهذا مجلسها تقريبا، تنام ساق ملمومة فوق ساق ملمومة أخرى. تحتهما مقعدة ممتلئة، قياسا إلى سائر البدن البض. على يسار الداخل، ويمين الخارج تقبع، تدور الأقدام، تتعالى الأصوات أو تتواطى، لا تقترب من سيرتها إلا مرات قلائل. لم يعد يصل إليها الخطو، إلا لوضع طبق طعام، أو كسرات من خبز في صمت.
توقفت عيناها تقريبا عن تبادل النظرات مع أي عيون منذ سألت سؤالها اليتيم:
"لماذا كلهم يجرون يا أمي، وأنا...؟"
تعود الأم بالذاكرة، ربما عند أول شهور حملها بعد انتظار طال. تواكب نموها داخل البطن مع دقات القلب. ميلاد تقليدي. مباهج شتى وآمال عراض. وجه كالحليب للوليدة. عينان خضراوان كسندس الجنة. بكاء طويل وحركة رتيبة للأطراف.
أول الخلفة هي. مركز الدائرة بدتْ. نمو سريع للبدن، وحركة بطيئة لخطوات متثاقلة، يصاحبها اتكاء متواصل على الجُدر. وسرعان ما هاجمها الهمدان، لتؤول خطواتها شيئا فشيئا، إلى سكون يدوم.
في مركز الدائرة لا تزال. محط كل الأنظار الكبيرة، ولكن تصاغرت الوصفات وقوائم الأدوية. تمارين عديدة دون مردود يذكر. أيكون الكرسي المتحرك أقصى الأهداف السامية؟
قدوم جديد لأخت جديدة، يعقبه قدوم لأخ. ترى هل لذلك ذنب في انحسار المباهج عن ذلك الركن؟ انهماك غير محتمل للأم في أعمال بيتية غريبة، لنهارات عديدة، لم يصادفها خيال الأب، ذلك اللاهث خلف لقمة العيش. هل من حكمة ما في كبر النكبات أول حلولها، قبل أن تحتال إلى أفراد في القبيلة؟
سنوات بضع راحت قبل أن تتوقف عادة انتقالها من الكرسي إلى الركن أو العكس. ومنذ جرى على لسانها في المرة الأولى، لم يعد يجري سؤالها للأم: "لماذا؟"
ترنو عيناها من الشرفة الدانية إلى فرع الصفصاف النافر عن جذعه. تعرف منذ كانت ترى النور فوق الكرسي موقع الجذع تماما، الواقع على حافة القناة القريبة من الجدار. لم تزل تذكر إناث الضفادع المتقافزة حول الماء، بخلفيات قوية كاليايات، وبأماميات حية تصلح لها أفضل اتكاء.
وماذا يجدي السؤال في مواجهة عيون الأم الصامتة، وفي مواجهة أقدام أخويها، الجارية إلى الخارج، المقتحمة للحجرات، القافزة في حِجْريّ الوالدين، وفوق أكتاف الجدين والأعمام و...؟ لم تزل تمتد خلسة أي يد في الموعد المحدد لاستبدال طبق شبه فارغ بآخر شبه ممتلئ، أو بثمرة جوافة، أو بضع حبات من تمر.
يعاود نظرها الامتداد عبر الشرفة. يحز في نفسها شحوب الأوراق بصفرة تؤدي حتما إلى السقوط. يوشك الفرع أن يعرى.
تروح يدها الوحيدة الدافئة لتسحب الثمرة، أو حبة تمر. تجاهد لترتفع بها إلى شفتيها الفيروزيتين. تحار العقول كيف ظلتا هكذا؟ كيف يزداد الوجه المستدير بياضا؟ وكيف بقي شعاع عينيها الخضراوين في أبهى سراج؟
بأجنحة وأقدام صحيحة تطير العصافير. فوق الغصن تروح وتجيء دون الحاجة إلى معين.
بضع سنوات أخرى كانت واجبة المرور قبل أن تزداد الساقان تشبها بالحبال: عديمة العصب. وقبل أن تتوقف يدها الوحيدة الدافئة عن مواصلة الامتداد، وقبل أن يضعوا لها متكئا صغيرا في مواجهة الفم، تنحط عليه الحبات أو كسرات الخبز أو ...، حيث يجاهد الفم ليقنص بعضها، دون أن يحاول لسانها ـ الباقي سليما ـ بطلب العون. ومن الليل إلى الليل تُحْمَل صامتة إلى حمام ضيق، لينزع عنها (بامبرز) اليوم الفائت، يشطف نصفها السفلي المهترئ، لتنحط بالفراش، بعد التصاق جسدها بـ (بامبرز) جديد.
يمتلئ حلمها بصغار كثيرين. تطير أمامهم أعلى من سطح الأرض. يطيرون خلفها بعيون كحيلة، وملابس بألوان الفراشات. وسط بستان مزهر تحل، تمتد كلتا يديها، لتقطف زهرات متباينة الألوان، وتجلل رؤوسهم الصغيرة.
تتنبه لوعي اللحظة. يروح الصغار خارج الحلم ويجيئون، ممسكين بأحذية العيد الجديدة، تُرى هل تسأل عن حذائها؟
تتندر ألسنة الكبار بأخطائهم، تمتلئ أشداقهم بالضحكات على فعل مشين لأحدهم لم يكن يتوقع وقوعه، دون وصولها ـ أي الألسنة ـ في أي مرة إلى تلك القابعة بعيدا عن حلمها. بعيون خضراء مفتوحة وآذان تلتقط دبيب أخويها بأحذية العيد، قُرب السلم الخارجي، وفوق السطوح، وتحت شجيرات الصفصاف، عند شاطئ القناة الضيقة، وقرب إناث الضفادع المتقافزة، وبين الفراشات، وتحت غصون العصافير.
ترتفع العينان لأعلى. لأول مرة يوشك الدمع أن يغشيهما، تصطدم بالسقف الخرساني الواطئ كأنه لسجن، ثمة برص كبير يعيث فسادا، يلملم ذبابات هائمة، وهو يطارد زوجين من عنكبوت مرتجف، تأخذها الدهشة لقدرة أقدام تلك الكائنات، على وطء السقف، وظهورها إلى الأرض.
مراسم دائمة تدور بينها عن بعد وبين الأخوين، كطرفين لا يتنبه أحدهما مرة إلى إمكانية انسحاب الآخر من دنياه دون ضجيج.
ينحط الطبق محل أخيه. كسرات تروح وكسرات تجيء. شربات ماء فاترة بزجاجة مهملة لصق الركن إلى جوار الزجاجة. يستند ظهرها كالنائمة. وحتى حلول المساء، لم يُثر الانتباه انسحاب روحها منذ الصباح.