ياسمينة صالح - الجزائر
وداعــا
لم يعد في الأرض العربية متسع لروحنا المشردة، ولم تبق ثمة يد تحط على رأس متعب، كما تحط يد محسن على رأس يتيم. قبل سبعين عاما خلت، كانت للقضية أسماء العابرين إلى مدن الشمس، وكان للشمس طريق واحد لا يمشيه سوى الشهداء، عن قناعة وليس عن واجب مؤقت. تقول الأم للأرض التي ستتركها عما قليل: "وداعا، يكفي أنك جمعت شتاتي قبل الشتات الأخير. يكفي أنني أترك فيك ذاكرتي التي لفظها العرب لأنها أكبر من مصيرهم المحمول على قبة البيت الأبيض وهيكل الكنيست العربي مطأطئ الرأس، لتعبر العاصفة دون خسائر ممكنة، فالغزاة انطلقوا في غزونا مقتنعين أننا لا نستحق الأرض التي نسكنها، ولا البحر الذي يقابلنا، ولا النفط الذي يسيل تحت أرجلنا، لأن حجمنا الصغير لا يتلاءم مع الواقع الهلامي الكبير، منذ تحول القاتل إلى بطل قومي والقتيل إلى ضحية بائسة رعناء."
وداعا
تقولها الأشجار التي ألفت وجوه الأطفال حين يلعبون في مساحات الرؤى، خالين من خطيئة التفكير في الغد، وفي الهموم التي يحملها الكبار عن أمانة للذين ساروا بعيدا ولم يرجعوا، ماتوا في المسافة بين الشوق واللقاء المؤجل بسبب طائرة لا تحمل بين ركابها راكبا يحمل جوازا فلسطينيا مختوما في الشتات. للسماء زرقتها الباردة، وللعشب طعم العتاب المؤجل، تقول الأشجار باكية: "كان لأصواتكم صدى الحكاية التي لبست فصول المكان، سوف يجيء المساء، وبعد ساعة يسقط آخر ليل يليكم إلى هذه الأرض الهباء. سيفتقدكم كل من مر من هنا، حتى الريح التي أزعجت بعضكم ذات يوم ستفتقدكم، لأنها ستجد المكان خاليا ولأن الفراغ يغري على البكاء."
وداعا
يقولها الجد لحفيده الذي سيتركه خلفه. هل يمكن أن تدفن الذاكرة الفلسطينية في البرازيل أو تشيلي أو الأرجنتين أو فنزويلا؟ هل يمكنه تلمس ورقة اللجوء الجديدة بيده المرتجفة وهو يتذكر أنه ولد في القدس، وعاش طفولته المهجرة في بيروت، وشبابه الحزين في عمان، وشتاته الألف في بغداد، وأنه سيموت قبل الوصول إلى دولة لا ينطق لغتها ولا تعرف حميميات الفؤاد الذي كبر على غفلة من الجريمة واللاعقاب؟ سيرحل الجد إذا. لم يحتضن كل أبنائه المشردين في بقاع الدنيا، ولم يبك كفاية كما توقع أن يبكي، لكن الأرض بكت حين غادرت الطائرة، ولاحت في الأفق أضواء الوداع. لا أرض ستغني عن هذه الأرض المنسحبة خلف الضباب، لكن العمر أسود والحظ لم يكن ليبتسم لشعب الأشقياء.
وداعا
قالها الحب للحب المضاد. هل يتسنى التطرق إلى أسباب العشق في جملة سوف تنفجر في وجه عاشقين يموتان في حرب لا تعنيهما، لأن أحدهما صدق الوطن ومات بعيدا عنه والثاني صدق الحب فمات وحيدا ومغدورا به؟ قال لها يوم الفراق: "لا تبك على شيء نعرف أنه سيحصل ذات يوم. لا تبك على تشتتنا في هذه الأرض البائسة. لا شيء يستحق أن نبكي لأجله. لكنها كانت تبكي لأنها سترحل تاركة قلبها في مخيم يُطـــردون منه جماعيا، ولأنها ذاهبة إلى مخيم آخر في جنوب أمريكا، لتعيش لاجئة ببطاقة تذكـّر مستقبليها أن حياتها مرهونة بمزاج الأنظمة التي إن تصالحت مع إسرائيل ستطردها إلى مخيم تحت الماء.
وداعا
لكم ضحك علينا الشعراء من قبل: "بلاد العرب أوطاني"! هل تبقى للقلب وطن يسكنه دون أن يطرده، وتفتش شرطة المطار حقائبه وترمي تفاصيله الدقيقة بنظرة شزراء؟ هل تبقى للعربي وطن يسكنه خارج أنشودة يغنيها مغني البلاد لحماية الناس من الإحباط اليومي ومن داء التفكير في اللاـولاء؟
هل تبقى في الأفق يقين أكثر حقيقة من هذا الإحباط الذي نصبوه فوق راياتنا؟ فقد أطلقوا على "استسلامنا" اسما يصلح للرثاء: "سلام الشجعان"! ودخلوا باسمنا مفاوضات ضرورية لنعيش يوما إضافيا قبل أن يحاصرنا المارينز لحماية "أصنامنا" من جهلنا لماهية التاريخ. لا شيء أصدق من الحقيقة القائلة: بلاد الغرب تأويني، وبلاد العرب تخون دمي كما خانت آخر العابرين وسلمته إلى أجهزة مكافحة الإرهاب، بتهمة "إثارة العنف" في تطرقه لقصائد أحمد مطر وتوفيق زياد وأمل دنقل.
وداعا
لسكان المخيمات الفلسطينية التي تلفظها الأرض العربية نحو الشتات الجديد. ما جدوى البكاء على الراحلين؟ سيغلقون المخيم عما قليل، بعد أن يطردوا آخر لاجئ. سيتحول اسمه من مخيم اللاجئين إلى "مدينة الملاهي"، أو "ماكدونالدز"، فالمرحة تحتاج إلى أرجوحة يتدلى منها "الفرح" كما يتدلى هذا الهباء من خطاب يقول للراحلين: اعتنوا بأنفسكم أينما ذهبتم! لا تعودوا إلى هذه الأرض البائسة، وابقوا حيثما ترميكم الريح، وانسوا حق العودة الذي خانها العرب الهاربون من العار إلى أغنيات "وطني يا صدر الريح." آه أيتها الريح التي تعرف جوهر الأشياء! وداعا!
◄ ياسمينة صالح
▼ موضوعاتي