عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

أميمة أحمد - الجزائر

من دفاتر المنفى: الكذابون


أميمة أحمداندلق على خوان خشبي. كان الله في عون هذا الخوان وقد سقط عليه ما لا يقل عن مئة وأربعين كيلو غراما من اللحم والشحم المكدس طبقات في البطن والفخذين والصدر والعجيزة. سمنة شوهت هذا الرجل الذي كان يوما على وسامة معقولة. اليوم عندما تنظر إلى وجهه المنتفخ وخديه المترهلين ولونه الشاحب من شدة التدخين ونقص التروية بالأكسجين، يخيل للمرء أن هذا الحاضر لا يمت لذاك الماضي بصلة.

وتجلس إلى جانبه زوجته، قصيرة القامة فيها شيء من التشوه، فقد ابتليت بعدم تناسق كتفيها الضيقين مع ثديين ضخمين. ويبدو وجهها لامرأة لا يقل طولها عن متر وسبعين سنتيمترا، في وقت لا تتجاوز مئة وأربعين سنتيمترا، لذا بدت القزامة لافتة سيما والسمنة المكدسة على ظهرها فأصبحت محدودبة.

جلس الزوجان جنبا إلى جنب، وعلى ذمة كل منهما في غيبة الآخر أنهما كالأخوة منذ سنوات طويلة ويتظاهران كزوجين سعيدين، أديا رسالتهما بتنشئة الأبناء، والآن ركنا للهدوء.

هدوء؟ لا وجود لهذه الكلمة في قاموس الزوجة، وقد ذاع صيتها بالتوتر المعدي للآخرين، فدائما من حولها يتوتر لتوترها إلا زوجها الذي اعتاد عليها، ولم يعد يبالي بها حتى وإن كانت في حاجة ليأخذ بيدها.

تعيش مرفهة لدرجة المبالغة، وبنفس الوقت تشكو ضيق اليد والقهر والعذاب. ولتقنع الآخر بذلك تزعم أنها تابعت الأخبار وما رأته كان مؤلما. وتنفث دخان سجائرها كأنها في غرزة حشاشين، وتقول:

"والله الواحد لا يعرف كيف يعيش في هذه الحرب في العراق ولبنان وفلسطين عنها يخرس القلم فدوما فيها القتل."

ولكن هذه "المناضلة" كانت في مصيف رائع على البحر أثناء الحرب على لبنان، ولا يفوتها صيف دون أن تستأجر فيلا ضخمة لتقضي الصيف مع العائلة ومن لف لفيفها.

أمامي جلس الاثنان، وكل منهما ينغم على وتر لإرضاء الآخر، من المديح والثناء وكأنهما لأول مرة يعرفان بعضهما. راح يقول نعيش حياة ضنك، وهي تحملت كثيرا في مشوار الحياة، ولم يسمع منها أي مخلوق شكوى من أي نوع كان، نعيش على مرتب حد الكفاف:

"ماذا يعني أربعمئة أو خمسمئة دولار في الشهر والبلد غالية كما ترين؟"

فترد الزوجة: "الحمد لله عايشين. المهم لا نحتاج أحدا. أنا أعيش بلقمة الخبز وتكون من عرقي ولا أحتاج أحد."

حدقت في الوجهين عل وعسى أن يخجلا قليلا مما يقولان. أيعقل أن يكذبا عليّ وأنا أعرف أنهم اشتريا بيوتا وسيارات، وكل عام تقضي الزوجة نصفه خارج البلد، حتى أنها قالت لي إنها أمضت عاما كاملا في المصيف ولم تضع قدرة الطعام يوما على النار، وأجابت على دهشتي: "لماذا الطبخ والعذاب بالطبخ والمطعم يرسل لي ما أريده جاهزا؟"

وأذكر يوما قال الزوج: "أصلا الراتب بالكاد يسدد أجور الخادمة والكهرباء والتلفون، وأحيانا لا يكفي." فتساءلت إذن من أين يسد فجوة النفقات التي تزيد عن ألفي دولار شهريا؟ ومن أين له ثمن السيارات والبيوت؟ كان يشكو العوز في وقت أرسل زوجته للمصيف وبقيت أشهرا. حتى ضيافة الحلوى التي قدمتها لا يشتريها غير المرفهين والأثرياء.

خرجت لا أصدق أن لدى الناس هذه المهارة بالكذب، فزرت صديقة تقول إنها تعتبرني أختا لها، وتصارحني بكل أسرارها كما تزعم. اكتشفت أن ما تدعيه سرا ليس إلا حديثا للفتنة، فتنقل أحاديث تثير ضغينة هذا على ذاك. ووقعت في فخ "أسرارها" لتنتقم من أحدهم الذي لا ترتاح له. وراحت تتحدث عن ضيق اليد، وحجم فاتورة الهاتف التي كانت أكثر من نصف الراتب، وتقول:

"ماذا يفعل راتب عشرون ألف دينار لنفقات البيت؟"

وتحلف أغلظ الإيمان، وهي لا تقطع أوقات الصلاة مهما كانت الظروف بأنهم يعيشون بصعوبة، وتحمد ربها "كمؤمنة" ترضى بما قسمه الله لها.

نظرت حولي وأنا أسمع لهذه "الفقيرة" تستقبلني في فيلا بأرقى أحياء العاصمة، وفي مرآب الفيلا سيارة آخر طراز مع سائق. وبالجهة الأخرى فيلا لابنها وقد وقفت سيارة ابنها أيضا آخر طراز. ومن المطبخ تنبعث روائح أشهى المأكولات الفاخرة للغداء، فقد صدف مروري عليها مع الظهيرة. توقعت عندها عزيمة لضيوف، فكانت الوجبة لهم فقط.

انتبهت من دهشتي على صوتها:

"ما لك يمين تحلفيني، ما معنا نكمل الشهر من النفقات المفاجئة بمرضي."

فسألتها: "ألم تعالجك الدولة على حسابها وبأرقى المشافي العالمية؟"

تشاغلت عن الجواب بقولها: "دقيقة حتى اطفي النار تحت الشوربة."

عادت وكنت جهزت نفسي للرحيل وبادرتها "استأذن لدي موعد نراكم بخير." أدركت أنها كذابة من فئة "خمسة نجوم."

شعرت أني جلدت نفسي بهاتين الزيارتين. تألمت كثيرا، ولعل ألمي كان أكثر عندما تذكرت واحدة تصورتها الأخت التي حرمت منها، وفي آخر لقاء بيننا قبل ثلاث سنوات كانت تشكو لي عدم قدرتها شراء تذكرة سفر لترى أمها قبل موتها، فتبرعت لها بثمن التذكرة كأخت، لكنها رفضت، وسافرت، ولم أرها إلا مرة واحدة بعد عودتها، فاندهشت من ثروة حطت على رأسها فجأة، تسكن قصرا منيفا، ولديها وخدم وحشم، وسيارات، وسيارة وسائق لابنها.

هؤلاء كلهم مناضلون، يتبجحون بأنهم يقتسمون لقمة الخبز مع فقراء الوطن، الوطن البعيد الذي أصبح سلعة للاتجار السياسي لا غير، والناس الذين ألقي القبض عليهم خرج أبناؤهم من المدارس صغارا لعدم قدرة الأم على تدريسهم، وليساعدوها على تدبير نفقات البيت. عندما خرج الآباء كانوا شيوخا، ووجدوا الأبناء عمالا لم يكملوا دراستهم، والمحظوظ منهم أنهى شهادة معهد متوسط، وعاطل عن العمل لأنه يؤخذ بجريرة والده.

D 1 تشرين الأول (أكتوبر) 2007     A أميمة أحمد     C 0 تعليقات