هدى الدهان - العراق
عــود الـبـخــور
خطوة، ونظرة لا مبالاة تلف بها المكان. آه رائع! منضدتها المعتادة كما هي لم يشغلها أحد. كانت ستحزن لو شغلها أحد اليوم بالذات، فلا يمكن لأحد آخر أن يحتل ما تحب على الأقل في يوم تحتفل فيه بذكرى ميلادها، أو لنقل عام مضى وربما عام سيأتي: أحلى، أكثر حزناً، أقل حميمية. لا يهم. مضى عام. هل هي وحدها التي تفرح كلما مضى عام من عمرها؟ ولكنها تحس أنها تودع حزنا وتفك ضمادا عن جرح، وأن العام القادم سيكون أحلى.
هذه أول مرة تحتفل في هذا المكان الذي أحبته واعتادته في الأشهر القليلة الماضية، وأحست إنها كلما احتاجته وجدته يستقبلها كابنة مشتاقة. مقهى صغير اسمه "بخور." لا تعرف سبب تسميته بهذا الاسم، مع أن أصحابه لا يشعلون فيه عودا واحدا. ولكنها جلبت معها شمعتها الصغيرة، وعود البخور الذي تحبه، وقطعة الكيك المليئة بالفواكه التي تتلذذ بها. وهنا سيُعِدّون لها قهوتها السوداء، وهي هنا لم تعد بحاجة لتذكر النادل بأنها تشربها سوداء مرة. كانت تستغرب من الذين يتعجبون كيف تشربها مرّة هكذا، وتقول:
"هناك الكثير من المرارة في حياتنا نتجرعها، نغص بها، أو نتحملها بصمت، فلماذا نلوم فنجاناً صغيراً ونقول إنه يسقينا المرارة؟"
وجاء فنجانها يتهادى. أحست نفسها كأنها أم أتت لتأخذ طفلها من مدرسته. تلقفته مدللة، وأشعلت شمعتها رغم دهشة ارتسمت على وجه امرأة عجوز في الطاولة قبالتها تمثلت في رفع أحد حاجبيها. لم تعبأ، فأشعلت عود بخورها من نار الشمعة. وقعت عينها على حبيبين يحتلان الطاولة البعيدة، ورأت الحبيب يهمس في أذن حبيبته ببضع كلمات ويشير إليها برأسه والحبيبة تخفي ابتسامتها خلف كتفه. لا يهم ما دامت رسمت ابتسامة على شفتين.
بدأت بتذوق أول قطعة من الفواكه. ثم لم تعد ترى بقية الطاولات وكأن حاجزا انتصب فجأة أمامها رفعت رأسها فإذا به (هو):
"آه. هذا أنت. صدفة رائعة. ما الذي أتى بك إلى هنا؟ تفضل اجلس."
"انتقلت للعمل في شركة قريبة من هنا، وأحسست بحاجة لفنجان قهوة قبل أن أعود للبيت."
"فنجانك عندي اليوم، فاليوم عيد ميلادي."
"كل عام وأنت بألف خير. اشتقت لك."
"أتحلُ الكلمات المتقاطعة؟"
"ماذا؟ لا افهم."
"لماذا كلماتك مقتضبة؟ حدثني عنك. انطلق. ما بك؟
"سمرّتني المفاجأة. لم أتوقع أن أراك يوماً."
"وها قد رأيتني. أضحكني. أبكني. افعل أي شيء."
"لا شيء يحتوي فرحتي برؤيتك. عطرة هذه الرائحة."
"هذا العود الأخير من علبة البخور التي أهديتني إياها قبل عامين؟"
مستحيل! بقيت للآن؟
"أنفقت منها إنفاق البخيل، فلم اعرف من أين اعثر على مثلها. كنت قد طلبت منك في آخر مرة كنا معاً أمرين كهدية لعيد ميلادي. جئتني بالبخور، ولكني طلبت منك أمرا آخر، أتذكر؟
"نعم. وخجلت أن أرفضه وخجلت أكثر أن أقوم به. خجلت أن اذهب إلى عرّافة لتقرأ لنا الحظ. فاشتريت البخور كترضية لك، وربما لتنسي أمر المستقبل.
"وها نحن في المستقبل."
"عديني أن نلتقي هنا دائما. أنا لن انتظر عاماً آخر حتى أراك تحتفلين بيوم مولدك."
لم تجبه. رفعت قطعة ليمون محلى إلى فمها.
"شاطريني حلواك."
"لا تكفي لكلينا."
صمتٌ لفّهما. بدأت شمعتها تشوّه براءة شرشف المائدة بقطراتها الحارة، وأوشك عود البخور على الانتهاء، واختلطت بقايا رماده بالشمع البارد. انتبهت إلى أنه لم يعد أحد ينظر إليها باستغراب. لا تدري لماذا. هل عدّوها مجنونة حين كانت وحدها؟ وحين جاء الآخر ووقف قبالتها حاجبا العالم عنها لم تعد ترى شيئا ثم حين جلس اختفت كل النظرات وانشغلت العيون عنها؟ لماذا؟ ألا يُعد الاحتفال بالعمر احتفالاً إلا إذا كان معها الآخر؟
◄ هدى الدهان
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ