عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » الأعداد الشهرية: 01-120 » السنة 2: 13-24 » العدد 14: 2007/07 » مقتطف من رواية السقوط في الشمس

سناء شعلان - الأردن

مقتطف من رواية السقوط في الشمس


سناء شعلانالجو يغطُّ في آخر مداعبات الخريف، السماء تتهيأ باستحياء لولادة شآبيبها المنتظرة، ها هو القطار يتوقّف عن إصدار صفيره المحموم، يتوقف في مكانه المرسوم له بالقضبان الحديدية. من الشبّاك الذي يجاور الشاب الحليق الذي يجلس إلى جانبي أتابع حركات الركاب المتجهين جميعاً نحو البوابات، البعض يشقّ طريقه سريعاً بين الجموع، البعض يتوقف، يحرك رأسه يميناً وشمالاً بحثاً عن صديق أو قريب في انتظاره، وآخرون يتجهون سريعاً نحو أقرب حافلة أو سيارة أجرة، يستقلونها مبتعدين عن المكان.

أصبح القطار شبه فارغ، أسرع إلى التقاط حقيبتي النّسائية القديمة، وارتداء معطفي الشتوي البنّي اللون، ذلك اللقاء الحميم أوّل ما خطف نظراتي عند أوّل خطوة أخطوها خارج القطار، لقاء بين شاب أسمر وفتاة شابة في المحطّة، أتساءل بفضول: "من تراه يكون؟" أتابع للحظاتٍ حركات أطرافهما واضطراب ابتساماتهما وفرحة نظراتهما المسكونة بكلام، أظنُّهما يستطيعان فكّ رموزه.

أصمتُ، أخطو خطوة ثانية وسادسة وتاسعة، أصبحت في ساحة المحطة، البوابات واحدة اثنتان ثلاث... سبع، تماماً كما تركتها منذ ثمانية عشر عاماً، أما الوجوه فلا أعرفها.

أشعر برغبة خفية تدعوني إلى تفقُّد محتويات المحطة: الأرضيات والمحلات والمقاعد والأشجار وعمال المحطة وسيارات الأجرة والمسافرون والقادمون كلّهم غرباء، كلّهم يجهلونني، وأجهلهم، تستحضر ذاكرتي صوت العمّ أبي علي، قاطع التّذاكر، يدلّلني بصوته المعهود قائلاً بدفءٍ فطري ساذج: "يا صلاة الزّين على الحلوين، أين عيون الرّجال عنك؟ ألم تتزوجي بعد؟" فأجيبه إجابتي التي كان يردّدها بعدي مقلداً صوتي بسخريةٍ: "لا أفكر بالزواج أبداً."

أين هو العمّ أبو علي؟ لعلّه رحل الآن إلى دنيا أخرى، كان رجلاً مسناً عندما عرفته، تميزه قامته القصيرة، وبشرته التي تكاد تكون سوداء لكثرة ما لوّحتها الشمس، فلقمة العيش كثيراً ما تحرق وجوه أصحابها لا سيما إذا كانوا فقراء من أمثال أبي علي.

طيب هو، أهمل كلّ متع الدّنيا، بل أهملته كلّ متع الدّنيا، إلاّ متعة الحديث مع المسافرات، والاقتراب منهن حدّ الالتصاق في القطار، وافتعال الحكايا والقصص للتودّد لهنّ، فهو مستعدّ دائماً ليهيء مكاناً جيداً لك في القطار لا سيما بالقرب من الشّباك في المقاعد الخلفية، بل ومستعد لحمل حقائبك مقابل بعض الحديث المتقطِّع معك، وهو يلتهم بنظراته المحمومة جسدكِ وابتساماتك، بشرط أن تكون المسافرة صاحبة جسد ممشوق، يضطرب بشباب تحت ملابس تصفه بجرأة بل، ولا تمانع أحياناً من أن تبرزه، وتكشف عن أديمه في بعض المواقع، لا سيما الصدر والرقبة والأكتاف. أما إذا كانت المسافرة كبيرة أو سمينة فلا نصيب لها عنده أبداً، فسرعان ما يتجهّم، ويعطيها تذكرتها بخشونة وبحركة آلية بغيضة، ويسارع ليرقب وجوه الحسان المبتسمة له أو منه ترقبه من نافذة القطار مبتعدة، ويعود إلى مكتب المحطة لينتظر القطار القادم، فحياته لم تكن سوى المحطة ونساء المحطة. بقيتْ المحطة، وها هي النساء تملؤها، أمّا العم ّ أبو علي فأظن أنه قد رحل.

تنبعث رائحة القهوة في المكان من أحد المقاصف في المحطّة، هذا المقصف لم يكن في الماضي، بل كلّ المحلات هنا باتت مختلفة، الواجهات، التصاميم الألوان، السلع، الوجوه، لا سيما الوجوه.

أما بائع الزهور فلا مكان له هنا، أصبح محلّه يبيع المثلجات التي تبدو شهية. ترى متى أُغلق محله؟ لعل زهوره حزنت لفراقي، فأنا كنت عاشقة لها. محلَّه كان قبلتي الأولى عند وصولي إلى هذه المدينة. كنت أختار زهوري بنفسي، بل وأنسقها بيدي وأدلف إلى المدينة وأنا أضمّ باقة حمراء إلى صدري، دائماً حمراء، هكذا هم العاشقون دائماً يحملون الورود لمن يحبون. أما الآن فلا محلّ للورود، لا محل للأشواق، أين ذهب العاشقون؟ أنا كنتُ شعباً من العشاق، هذا المحل يقتات من عشقي، أطيل التحديق في واجهته الزجاجيّة، يدعوني صاحبه للدخول، لكنني أتجاهل دعوته، وأسير بتؤدة حطّمها الانتظار، وأثقلتها السنون والذكريات.

أجلس في أحد المقاعد الخشبية، تظللّني السنديانة القديمة، لقد أصبحت كبيرة وضخمة، ولكنّها لا تزال شابة، أشعر بأنّ غصونها الوارفة ترحِّب بي بشكل خاص، وتشفق على وحدتي، لقد عرفتني في حين أنكرتني المحطة، فالسّنديانة لا تنسى أبداً من يحفرون بدموعهم على جذعها.

الكلّ يسير مسرعاً، ففي مثل هذا الصباح الباكر تستقبل المحطة الكثير من المسرعين وأصحاب الحاجات والوظائف والأعمال، إلا أنا فأجلس بهدوء أرقب الوجوه، أتحسسها بحنوّ غريب، بحنوّ الأم التي تفتقد صغارها، كما أفتقد أحلام بالذات دون إخوتها، أفتقدها بقدر ما أخشى والدها، لأول مرّة أخشاه، لطالما سببت له الحزن، لقد أرادني حبيبة، فلم أعطه غير زوجة بليدة وحفنة من الأبناء، وحياة هادئة ورتيبة إلى درجة الغثيان، أخشاه لأنني أهنته عندما حزمتُ حقائبي دونما أيّ سبب، وتركتُ أبنائي بل تركتُ حبيبتي أحلام باكية وحيدة، تحدِّق في وجه أبيها المخذول، وامتطيت أشواقي وقطعت نصف الأرض لأعود إلى هنا، لقد وصلتُ قبل ساعات قصيرة إلى البلد، وهرعتُ كالمجنونة إلى القطار.

وها أنا ذا لا تفصلني عنك إلاّ دقائق قليلة. لن يسامحني، أنا أعرف أنه لن يفعل، له الحق، لقد منعني من الحضور، خيَّرني بين رؤيتك وبين أبنائي وعمري وسمعتي، خمِّن من اخترت؟ اخترت رؤيتك، لا شيء يمنعني عنكَ، القدر لا تصدِّق به، أنا أمقته، حبُّك هو قدري.

دائماً أعلمتكَ إنني مستعدة لكي أحرق الدنيا بخوراً في معبدك، كنت تضحك ولا تصدق، ها أنا ذا أحرق دنياي تعويذة سحرية كي أراك.

ستوبخني على هذه الحرائق، ستقف مقهوراً وأنت تنظر إلى دنياي وقد احترقتْ، ستقول لي بنبرتك الحالمة: "لِمَ فعلتِ هذا؟ لِمَ هدمتِ بيتك، وأضعتِ أبناءك من أجل رؤيتي؟ لقد خسرتِ زوجك للأبد، ولأجل من؟ لأجل رجل لم يستحقك أبداً، اللّعنة لا تزالين مجنونة بشكل استثنائي."

عندها سأقول لك غير مبالية بالدنيا ونيرانها، بل غير مبالية بدموع أحلام وانكسارات زوجي وهمسات الأقارب وسخرية المعارف: "لقد عدتُ."

لطالما كنتَ فضولياً وقلقاً بشأن وحدتي، فأرحتك وتزوجت كي تشعر بالراحة، ولا تتململ في فراشك قلقاً من وحدتي وغربتي في فراشي، في البداية حدثتك في رسائلي طويلاً وطويلاً عن زوجي، ثم عن طفلتي الأولى أحلام ثم انقطعتْ المكالمات، يبدو أنّ شعورك بالذنب نحوي مجرد جرح ليس إلاّ، وقد برأ بزواجي من غيرك. لم تتصل بي لأخبرك أنّ أحلام قد كبرت، وقد أصبحت فتاة جميلة، حسناً فعلت بعدم اتصالك، فأنا لم أعد قادرة على زفِّ أي أخبار لك عن أسرتي وزوجي وأطفالي.

أتململ في مقعدي الخشبي، أتخيَّل عيون الشَّباب والمتطفِّلين تلتهمني، وأحاول أن أتهرب منها، فلطالما طاردتني نظراتهم وتعليقاتهم في الماضي، هكذا تعوَّدت أن أجلس على هذا المقعد متحمِّلةً تعليقات المسافرين التي تغلظ أحياناً، وترقِّ أحياناً أخرى في انتظار القطار.

أجيل نظراتي سريعاً في المكان، أجد الكثير من المسافرين القادمين والباعة، لكن لا أجد أي نظرة إعجاب أو رغبة، بل لا تغازلني أيّ كلمة شابّة، ابتسم ساخرةً من تخيُّلاتي، فالمحطّة أثارتْ بي ذكريات الماضي، وجعلتني أخال نفسي المسافرة الشابة ذاتها التي كانت تجلس في هذا المكان منذ سنوات طويلة، فتنشر بشرتها الوردية وعيناها الصافيتان العطر والجراح في المكان كما كتبت لي في دفتر مذكراتي في يوم من الأيام.

لا زلتُ أحفظ كلماتكَ عن ظهر قلب كأنّكَ همستَ بها في أذني قبل دقائق، لا زلتُ أحفظ رائحة جسدكَ المتعطش دائماً للمزيد كأنّي ما أزال في حضنكَ، أما طيفكَ فلا يغيب عني أبداً، رافقني لسنوات طويلةٍ، ثم أصبح طيفكَ هو ذلك الأثير الذي نحدّثه دائماً، ونسرّ إليه بنجوانا، ونسميه أنفسنا، لقد كنتَ بعض نفسي، بل كنتَ كلِّي.

قبلكَ لم أحدِّث نفسي أبداً، بل لا أذكر ملامح ذاتي، ولكن عندما وقعت عيناي عليكَ، بدأت أملك طيفاً ساحراً يرافقني أينما ذهبت، أحدِّثه فيسمعني، وأشتكي له فيواسيني، أعاتبه فيقبل عتبي، أحتاجه فيعينني، وفي الليل يحدِّثني، يرقد إلى جانبي، تلفحني رائحته، يهدهدني بقصصه حتَّى أنام.

حدَّثته طويلاً وطويلاً وطويلاً عن رحلتي المعنَّاة معك، كل ليلة احتضنته بدموعي، وكفنته بآهاتي، وتركتُ أناملك تتغلغل بسحر في خصلات شعري.

أشعر بوحدة خرافية في هذا المكان، أكاد أشعر بقدميّ تخوران فلا تكادان تعيناني على الوقوف، أمعائي تضطرب، والقيء يكاد يصل الى أعلى بلعومي، بعد كلّ هذه السنوات لازال جسدي يضطرب كلما اقترب موعد لقائك، كم من الدهور سأنتظر حتَّى يُقبل المساء وأراكَ؟‍

طيفكَ يحاصرني، ويجثو قريباً منِّي، يستفزني بدعوى الذكرى، ويدفعني نحو الماضي، نحو الذِّكرى نحو جنَّة الهوى، وبحركة طفوليَّة يدفعني إلى سِفْر الماضي لأقلِّب صفحاته منذ البداية، حيث ألقاكَ.

وفي أول صفحات السِفْر كُتب بماء الذكريات والألم...


السقوط في الشمس. الناشر: دار الوراق، الأردن (2004).

JPEG - 14.8 كيليبايت
غلاف: السقوط في الشمس

غلاف رواية لسناء شعلان بعنوان السقوط في الشمس

D 1 تموز (يوليو) 2007     A سناء شعلان     C 0 تعليقات