مصطفى نصر - مصر
المبنى الجديد
بدأت المشكلة حينما صعد حسن، وهو واحد من شاغلي المبنى الجديد، مع زوجته صبرية إلى السطح لتعليق هوائي التليفزيون (اريال). الليلة كانت شديدة الإظلام، والجو موحش. ظلام في كل مكان. أرض فضاء سوداء حول المبنى، ويظهر مبنى الإدارة الكبير من بعيد، بعض حجراته مضاءة. لكن الهواء كان منعشا.
دار حسن وصبرية حول المبنى للبحث عن المكان المناسب لوضع الهوائي. أطلا من فوق الجدار القصير الذي يحيط بالسطح. كل الحجرات أمامهما مكشوفة، والحمامات وحجرات الطبيخ. عدد كبير من الحجرات مضاء. شاهد حسن ولدا صغيرا يجري داخل الشقة. يعرف حسن كل سكان العمارة. كلهم زملاؤه في المحطة ومتزوجون – مثله – حديثا. لم ينجب منهم سوى اثنين أو ثلاثة، هؤلاء كانوا متزوجين قبل السكن في المبنى.
شاهد حسن في الدور الثالث حجرة وحيدة مضاءة. أسرع إلى الناحية الأخرى ليتمكن من رؤية من بداخلها. رأى مرسي فوق سريره. مرسي هذا يعمل كهربائيا في المحطة، وتزوج منذ ثلاث سنوات، وكان يسكن عزبة بعيدة. لكنه لم ينجب للآن. فوجئ حسن بزوجة مرسي تقترب من النافذة وهي ترتدي قميص نومها الشفيف. أسرع حسن إلى زوجته التي ما زالت تتابع الفضاء البعيد وحجرات الإدارة المضاءة. لم ينادها حتى لا يكتشف أحد وجودهما فوق السطح. أشار إليها، ثم أمسك ذراعها. كان يضحك سعيدا كأنه اكتشف كنزا.
ركعت صبرية على ركبتيها كي تشاهد المشهد على راحتها وبتأمل. هي تعرف زوجة مرسي ليست صديقتها، لكنها تبتسم لها وتحييها كلما قابلتها على سلم العمارة، أو في الشرفة أو النافذة. كانت زوجة مرسي تتعرى. الرجل لم يفكر في غلق النافذة، فأمامه حائط ليس فيه نافذة أو شرفة. هكذا أراد المهندس سعيد: ألا تكشف نافذة أو شرفة حجرة من حجرات المبنى.
مرسي لم يفكر في السطح، لم يخطر بباله أن أحدا يتابعهما منه.
ابتسمت صبرية وقالت لزوجها هامسة:
"بنت الـ ... من يصدق أن يصدر هذا منها؟"
لم ينزل حسن وزوجته إلا بعد أن قام الزوجان من فوق السرير وابتعدا عن نظريهما.
ضحك حسن سعيدا لأنه اكتشف سلوى لم يكن يدري بها.
***
كان قد اشتكى سعيد – مدير المحطة – بالهيئة لكل من يقابله عن تعطل العمل، لأن عددا كبيرا من الفنيين الذين يعملون معه يسكنون ضواحي وقرى وعزبا بعيدة. ويأتون إلى العمل بالقطارات وسيارات الأجرة مما يؤدي إلى تأخرهم عن مواعيدهم. بعضهم شباب صغير حديث الزواج، لم يجدوا سكنا مناسبا في البلدة لارتفاع قيمة مقدم الإيجار، فسكنوا في القرى والعزب البعيدة.
اضطر سعيد آخر الأمر إلى أن يدخل إلى رئيس الهيئة ويشكو له هذا. سأله الرئيس:
"وماذا تريد؟"
"أفكر في إقامة مبنى لهم."
"ليس لدي مانع مادام في مصلحة العمل، ابحث الموضوع من كل جوانبه وقدم لي تقريرا كاملا بذلك."
جمع سعيد كل العاملين –الذين يسكنون الضواحي والقرى والعزب البعيدة– وأخبرهم بما تقرر، وطلب منهم تقديم الطلبات إلى الإدارة، وأن يكتبوا أنهم على استعداد لخصم قيمة الإيجار الذي سيحدد فيما بعد من مرتباتهم.
أرض الهيئة مترامية الأطراف، والمبنى الجديد سيكون مواجها لمبنى الإدارة الكبير الذي صممه مهندسون أوربيون. فأراد سعيد أن يكون مبناه أكثر فنية وقيمة منه. فجعله على شكل الحرف الإنجليزي يو (u) مكون من جانبين مواجهين لبعضهما البعض يربطهما مبنى على شكل نصف دائرة، بحيث تكون جميع الحجرات مطلة على الشارع ومعرضة للشمس والهواء. مبنى سيحدث تغييرا في فن العمارة.
بعض سكان العمارة تزوجوا منذ سنوات قليلة لا تزيد عن الثلاث. وحوالي عشرة لم يتزوجوا بعد، لكنهم قدموا ما يثبت ارتباطهم. وحددوا موعدا للزواج. فمن شروط السكن في المبنى الجديد أن يكون الساكن متزوجا.
أقيم يوم الافتتاح حفل كبير حضره وزير التعمير والمحافظ ورئيس الهيئة ونواب الشعب عن المحافظة، وتم فيه زفاف سكان المبنى الجديد الذين لم يتزوجوا بعد.
أشرف سعيد بنفسه على كل صغيرة وكبيرة في الحفل: ملابس الزوجات، والحلوى التي ستقدم للضيوف والأنوار. كل شئ. إنه مشروع عمره الذي سيظل باقيا ليشهد له بالمقدرة.
وقف "العرسان" ببدلهم الموحدة مصطفين كأنهم ضباط في حفل تخرجهم. وقرر رئيس الهيئة أن يكون المبنى والحدائق المحاطة حوله من الأماكن المخصصة للزائرين الذين يأتون إلى الهيئة من كل مكان في العالم.
***
في اليوم التالي دفع حسن زوجته وهي تجلس بجواره قائلا: "هيا إلى السطح."
"ماذا بك يا رجل؟ أعجبتك اللعبة؟"
وصعدت معه. دارا حول الجدار القصير متابعين كل الحجرات، شاهدوا في الدور الرابع حجرة وحيدة مضاءة. ورجب –زميله– نائم على السرير بفانلته "السواريه" كاشفا عن ذراعيه وصدره وهو يقرأ الجريدة، وزوجته تدور حوله بقميص نومها الأزرق. حدثته وهو لاه عنها بالجريدة. ثم ضاقت به فأمسكت الجريدة، كرمشتها ورمتها بعيدا، وقام رجب إليها وهو يبتسم. فقالت صبرية:
"ياه من الستات."
قال حسن وهو مشدود إلى ما يرى: "لكي تتعلمي."
ظلت المرأة بجوار حسن، يتحدثان همسا إلى أن أحسا ببرودة الجو، كما أن الزوجين اللذين يتابعانهما ابتعدا عن مرآهما.
في اليوم التالي رأى حسن رجب آتيا بقميصه المكوي وحذائه اللميع، فابتسم له، ثم ضحك عاليا مما أثار رجب، فصاح فيه: "ما الذي يضحكك؟"
"تذكرت نكتة."
"رؤيتك لي ذكرتك بالنكتة؟"
في المساء أعدت صبرية سندوتشات وبعض الفاكهة والحلوى ليأخذاها ويتسليا بها فوق السطح. ليلتها شاهدا البنت سعدية –زوجة عبده– تجلس في صالة شقة مرسي.
قالت صبرية: "ما الذي جاء بسعدية إلى هنا؟"
"زوجها في وردية ليل، وهي وحيدة، لم تنجب بعد."
دارا حول السور القصير، لم يجدا حجرة نوم واحدة مضاءة. عادا إلى شقة مرسي. التليفزيون أمامها والبنت سعدية تأكل الفاكهة والسوداني واللب الموضوع فوق الطاولة القصيرة.
دار حديث بين مرسي وسعدية. ثم قامت زوجة مرسي وجاءت بشريط فيديو. وضعته في الجهاز. قالت صبرية: "هيا يا حسن، سيشاهدون فيلما."
كادا ينزلان خاسرين. فالليلة، رغم السندوتشات والفاكهة والحلوى المعدة، لم يخرجا بشيء يستحق الرؤية. لكن صبرية لاحظت أن المعروض في التليفزيون فيلم من (إياهم).
صاح حسن: "كيف تشاهد سعدية فيلما من هذه الأفلام مع رجل غريب؟!"
كانت سعدية مشدوهة، تحرك جسدها في عصبية. واضح أنها لم تشاهد هذه الأفلام من قبل. ومرسي يحكي لها ويشرح. عندما ابتعدت زوجته لإحضار الشاي، اقتربت يد مرسي من ظهر سعدية العاري، فتململت قليلا، ثم رجعت بظهرها إلى مسند المقعد، ضاغطة يد مرسي التي مازالت فوق الظهر.
صاحت صبرية: "يا نهار أسود ومنيل."
لم ينم حسن ليلتها، ظل وجه سعدية ماثلا أمامه بشفتيها الممتلئتين وفمها الواسع. عبده زوجها كان يعمل معه في وردية واحدة، لكنه اختلف مع المهندس، فغضب عليه ونقله إلى الوردية الثانية.
***
عاد المهندس سعيد إلى الخلف. غاص في مقعده الواسع، أغمض عينيه.
عندما صدرت الأوامر بتنفيذ ذلك المبنى، أحس بأن الفرصة قد سنحت له لتحقيق حلمه القديم، بأن يبني مبنى ليس له مثيل، خاصة أن الهيئة أعطته أرضا كبيرة ولم تبخل عليه بالتمويل. بعد أن رأى المبنى شامخا وسط أرض فضاء كبيرة، فكر في أن يشترك بالرسم في مسابقة هندسية أقامتها مجلة أوربية متخصصة، وأكد له الجميع بأنه سيفوز بالجائزة.
***
لم يصعد حسن إلى السطح باقي ليالي الأسبوع. يوم السبت تبدأ الوردية الثانية، سيكون عبده معه. أيحكي له عما فعلته زوجته؟ لا. فكر حسن في أن يضم إليهما عبده وسعدية ليتسليا بالمشاهدة مثلهما. انتظر حسن عبده. منذ أن سكنا المبنى الجديد لم ينتظره، سارا معا. قال حسن:
"أريدك في المساء وزوجتك سعدية، سأريكما شيئا."
"إيه، فيلم في التليفزيون؟"
"نعم."
صعدوا السطح معا. أوصت صبرية سعدية بألا تضحك بصوت مرتفع –كعادتها– وأن تتحدث همسا. اكتشفوا هذه الليلة حجرتي نوم مضاءتين. كانوا يتابعونهما معا. ينظرون إلى واحدة ثم يسرعون إلى الأخرى، ويعودون بعد قليل إلى الأولى. فرحت سعدية بما رأت. وضحك عبده من اللعبة، فهو يرى زملاءه في أوضاع يراهم فيها لأول مرة.
الذي كشف الموضوع أن حسن انسحب من لسانه ودعا رزق صديقه وزميله في الوردية إلى هذه المشاهدة، وأوصاه بأن يأتي بزوجته ليشاهدوا ما يحدث جماعة. انبهر رزق بما يرى، وضربت زوجته على صدرها وصاحت: "يا نهار اسود. أهكذا ؟!"
قال رزق: "سأحضر معكم إذا ما صعدتم ثانية."
ونزلوا إلى شقتهم. كل شيء كان عال العال. لكن رزقا تذكر شيئا أقلقه. مادام كانوا يتابعون حجرات النوم من قبل، فحتما رأوه مع زوجته وشاهدوا عريه وعريها. ذلك أرقه وجعله مستيقظا حتى الصباح. وعندما رأى حسن وعبده في المحطة، صاح فيهما وأراد أن يخنقهما معا، وبكى: "أكنتما تشاهداني عاريا كل ليلة؟"
ثم قدم بلاغا إلى العلاقات العامة بالهيئة بذلك.
***
أتصل رئيس الهيئة بالمهندس سعيد — مدير المحطة — غاضبا. قال من خلال التليفون:
"إيه الكلام الفارغ اللي بسمعه ده؟"
لم يسأله سعيد عن أي كلام فارغ يقصد، فهو يعرف أنه يعني المبنى الجديد الذي أنشأه وجعله مثالا للعمارة الحديثة والفن الجميل. فإذ به يكون نقمة عليه وسببا في ضياع مستقبله في الهيئة. صاح رئيس الهيئة: "المحافظ اتصل بي وسألني عما يحدث في مبناك الغريب."
ماذا يقول له؟ أيكذب ما حدث؟ كيف والناس في البلدة ليس لها حديث غيره؟
قال بصوت خافت: "سأحقق في الأمر حالا."
لم يرد رئيس الهيئة، واكتفى بأن دفع سماعة التليفون في عنف.
قام سعيد من مجلسه وصاح في خيري، مساعده ورئيس مكتبه: "لابد أن أؤدب هؤلاء الأولاد."
إدارة العلاقات العامة أرسلت إلي وأخبرتني بأن الموضوع لو انتشر في البلدة ستكون عواقبه وخيمة، فالبلدة صغيرة، ومعظم سكانها يعملون في الهيئة.
قال سعيد غاضبا: "أردت أن أساعدهم وأحميهم من القفز في القطارات والجري وراء الأتوبيسات، فكان هذا جزائي منهم."
أوصت إدارة العلاقات العامة بطرد الثلاثة من السكن.