مرام عايش أمان الله - فلسطين
بين النكبة والنكسة (*)
ملف: شجون فلسطينية
وقفت نهارا بأكمله أتفيأ بظلال أهدابي وسط طابور لم تدرك عيناي نهايته، أنتظر "تصريح" عبور للذهاب إليها، بحجة الحاجة الماسة للعلاج في إحدى مشافيها. ثماني سنوات قد مضت دون أراها. يافا، الاسم الذي طالما اشتقت لأن أصبح أما لطفلة بهذا الاسم. أيجدر بفتاة مثلي أن تنشغل فيم تسمي ابنتها حتى قبل أن تجد فارس الأحلام المنتظر، أو تفكر فيمن يكون؟ حملت الرحلة ما لم أكن أتوقع، فقد هربت مني كل مظاهر الفرح والابتهاج، وبقيت يافا. أيعقل أن تغيب شمس هذا النهار لتنتهي صلاحية تلك الورقة اللعينة معلنةً ساعة الهجرة "من جديد"؟
هكذا كنت أشعر منذ بداية المشوار. ولكنها غابت الشمس. أحسست أنني حقا مهاجرة على الرغم من عودتي إلى مدينتي بيت لحم. شعرت كأنني أخبئ مفتاحا عجيبا عجزت تسعةٌ وخمسون عاماً أن تصبغه بالصدأ. شعورٌ اجتاح أشلائي أثناء تجوالي في أنحاء المعرض الفني الذي كان قد افتتح في بيت لحم في ذكرى النكبة وينتهي في الذكرى الأربعين للنكسة.
أرجوحة تحملك ما بين النكبة والنكسة، في لوحاتٍ اخترقت كل الحواجز دون "تصريح". أخذتني إلى بحر يافا ساعة الضحى لأطبع على خدها قبلة الصباح الباردة برود الندى والملتهبة بحنين كل فلسطيني بمعزل عن كونه لاجئ.
لوحةٌ ذوبتني في جزئياتها، حتى أنني دفنت روحي بين ذرات رملها المتشبثة بالسفن خوفاً من أن تفلت سابحةً في بحر اللاعودة ذي الأمواج القاسية. لتلقيني بعدئذ وبلا رأفة أمام نفسي في موقف أشبه بوقفة الاستجواب الأمني الخطير. وِقفة تعمّد فيها الفنان بذكاء أن يسجنني في زنزانة من الأفكار المتزاحمة، فوجدتني على غير علم أحدّق فيّ من خلال مرآة كبيرة، كان قد دسّها الفنان بهدوء المتمكن بين لوحاته، كتب عليها: "ستظل يافا بانتظارك." لم أدر لحظتها أأبقى رهن الاستجواب، أحدّق في كل تفاصيلي متسائلةً، حتى يصدر مني وعد بالوفاء؟ أم أهرب من ذاتي لعدم تيقّني من قدرتي على الحصول على "التصريح" ثانيةً؟ أم أنه لم يقصد "التصريح" أصلاً؟
وعدت، وخجلت، وارتبكت، وهربت. لكنه لم يعتقني، فقد أخذ يتأرجح بي في رحاب البلاد البعيدة القريبة، الى عمواس وحاراتها، أراقب المارة مع صبايا الحي، نتسلى بالبزر المالح مع الشاي المطبوخ بالنعنع الأخضر تارة، إلى بيارات البرتقال الفواحة في سهول الخضيرة تارة أخرى. ثم جردني مني وحبسني في حزم السنابل المتمردة منفجرةً كبركانٍ ثائر نحو السماء، في لوحة عارمة بالتحدي المجبول باللاموت. فحلّقت حرةً من كل القيود مع طائر الفينق الكنعاني صاحب الحق دون غيره بالبقاء، لتضيع مني أجنحتي بعد حين، فأسقط من علي، لكنه على غير العادة يرأف بحالي، فأجد نفسي في أحضان زهر الحمحم الليلكي والحنون الأحمر في مشهد فائق الرقة والأمان.
لكنها لم تتعب الأرجوحة بعد، فما بين الحياة والموت كان موقف عظيم، فقد رأيتني مصلوبة كما المسيح ابن مريم الذي صلب دون وجه حق، وكأنه هنا يؤكد الفنان بقوة على عودة اللاجئ الفلسطيني إلى دياره، كما تؤكد الكتب السماوية عودة المسيح. لوحةٌ صامتةٌ ناطقة، تحسم العودة لا محالة. وكأن الفنان عمل جاهداً على تجريد الفلسطيني من ثوب اليأس والتراجع، فالمفتاح أضحى بندقيةً مصوبةً إلى الأبواب التي لابد لها أن تفتح.
وما زالت الأرجوحة محفوظة الطاقة كبندول ساعة، تروح بي وتأتي، حتى أصابني دوار فظيع، ففقدت قدرتي على التركيز، حتى أنني خلت البحر صار رملاً، قد انغمس فيه كل ما فيه دون حركة. فهل قصد الفنان أن يجبرني على عيش التجربة، متأرجحةً في ربوع بلادي الممنوعة عني حتى في الأحلام؟ لوحةٌ جعلت يافا بحراً من الرمال، فلا حراك. أظنه كان ضمنياً يريد أن يقول: "ستظل يافا بانتظارك."
(*) من وحي معرض صباح الخير يا يافا للفنان التشكيلي يوسف كتلو. في العدد أيضا مقابلة مع الفنان.
◄ مرام أمان الله
▼ موضوعاتي