عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

عيسى عبد الحفيظ - فلسطين

هيجان الذاكرة

ملف: شجون فلسطينية


نلتف حول كانون الفحم في ليالي الشتاء، مدثرين بالبطانيات الخشنة ذات اللون العسكري، يتوسطنا الوالد ـ رحمه الله ـ ويبدأ بسرد ذكرياته عن فلسطين. الطيرة وبيادرها والبيت ذو البوابة العريضة الضخمة المؤدية إلى حوش واسع ليستوعب العربات والدواب، البارودة العصملية والمعارك والشهداء، الزيتون والحقول والخير العميم، أرضنا في العزيزية على شاطئ حيفا الجنوبي، الكرمل والهادار ومعسكر الإنجليز والمقهى الذي تلامس جدرانه أمواج البحر.

ننام الخمسة ملتصقين من قسوة البرد في شئ يشبه الحجرة، جدرانها من الطين الممزوج بالتبن، وسقفها من القصب المحزوم بخيطان (المصيص)، تعلوها طبقة من بقايا أكياس التمر المجدولة من الخوص، والمغطاة بطبقة طينية سميكة لمنع الدلف في الشتاء أو لنقل تخفيفه ما أمكن. لكن المياه تعرف طريقها من الشقوق فلا تلبث حين يبدأ المطر بالتسرب والنزول، فتسارع الوالدة لوضع صحون التوتياء تحت الشقوق، لتسقط قطرات الدلف في المواعين المختلفة الأحجام والأشكال وبدون تراتب زمني، فتحدث أصواتاً رنانة أصبحت مع الأيام عادة مستحبة قبيل النوم تماما كهدير (بابور الكاز).

قضى الوالد وحسرة الوطن تدمي قلبه وكيانه، يستلقي بعد صلاة الظهر وينفث دخان سيجارة (الهيشي) ويطلق لحنجرته العنان بالميجانا والأوف. تخال وأنت تسمعه أنه يلقي خطابا سياسيا مع زفرات تحرق الأخضر واليابس. أختلس النظر إليه فأرى دمعة تسقط رغما عنه، لا يلبث أن يمسحها وهو يردد :

ريتك يا خمسطاش أيار ما كنت هليت

لأنا فيك فارقنا الحباب

ثم تتملكه سورة غضب مفاجئة فيصرخ بملء حنجرته بعد الأوف:

يا قلبي ريشة البولاد حدك

بحر ما يلحق الغطاس حدك

أيا جسر المجامع مين هدك

خون ولا من البنا عياب

ثم ينظر إلينا ويشير إلى الوالدة ويقسم بالطلاق ثلاثا أن البناء بريء من هدم جسر المجامع براءة الذئب من دم يوسف.

***

ثلاثون عاما مرت بالتمام والكمال على خروجي من بيتنا في المخيم، وها أنا أعود إليه في طريقي إلى الوطن. لم يتغير الوطن بسكانه وطيبتهم، لكن ملامحه تبدلت بفعل الإسمنت المسلح، وفرش طرقاته الترابية بالإسمنت أيضا، وتغذيته بالتيار الكهربائي، والمياه التي نادرا ما تتوفر في الأنابيب.

أجلس واسترجع الذكريات مع أصدقاء سقطوا على الدرب وآخرين طواهم الزمن ومتطلبات الحياة، ويبدأ الشريط بالدوران آلي ثلاثين سنة خلت.

بقيت الوالدة في بيتنا بالمخيم ورفضت الخروج آلي بيوت أبنائها في المدينة، فالمخيم وطنها بالمنفى وبشكل خاص الحي الذي نقيم فيه منذ النكبة، حيث الأقارب والمعارف من القرى المحيطة بالطيرة، وما زالت الجلسات المسائية تلتئم أمام البيوت تجتر ذكريات الوطن الذي بات حلما قد يتحقق ـ حسب اعتقادهم ـ بعد قرار الدخول.

أنظر إليها مليا. كم تغيرت وكم طالت منها السنون! أخاديد عميقة وظهر مقوس وعكازة وزهد عجيب في كل شئ حتى في الحياة. تمسح عينيها بظاهر كفها لا شك أنها الدموع، لكنها تنظر إلي فجأة وتبتسم، وتسألني عن إمكانية زيارة الطيرة، مخزن الذكريات، والدمع الدائم والحلم الأبدي. أجبتها إنني لم أقرر بعد ولا فكرة عندي حول الإمكانية، فبدأت تصف الطريق الموصلة آلي الطيرة والدرب الذي يقود آلي بيتنا. قلت لها أن الجغرافيا تغيرت، فهذا الوصف ينطبق قبل خمسين عاما، فأجابت والدهشة تعقد لساني بأن التاريخ لم يتغير.

كان أحد الزملاء في الرحلة قد سألني عن مسقط رأسي، وما أن اقتربت الحافلة من مدينة حيفا حتى أعلن الزميل عن ذلك بمكبر الصوت الداخلي وطلب مني أن أوجه كلمة بهذه المناسبة. تناولت الميكرفون وتكلمت ربما كثيرا لكني لا أدري ما قلت. كل ما أذكره هو أن الكلمات كانت تتسابق آلي شفتي مندفعة كسيل هادر، واختلط الحلم بالواقع، بل وتحول خلال تلك اللحظات آلي مزيج من الفرح والوجع والحزن والاشتياق. في تلك اللحظة كان الكرمل يعانق البحر، والشبق يطفح من غابة السرو فينز الصنوبر سائله الصمغي على الأرض التي ما زالت بكرا منذ عهد كنعان.

وصلت آلي حيفا ولم أجرؤ على الذهاب آلي الطيرة، كنت أخشى أن يخونني القلب وأنا أتحسس الحشائش التي تطل من شقوق الجدران العتيقة. ماذا سيحدث لي عندما أفتح البوابة الضخمة وأسمع صريرها يتكرر بعد خمسين عاما؟ ماذا سيكون رد فعل الأحاسيس إذا ما تطابقت الصورة التي كنت أرسمها بمخيلة الطفولة عندما أضع رأسي على وسادة القش في المخيم، بعد سهرة مع ذكريات الوالد مع الصورة على الأرض والتضاريس المفعمة بأشجار التوت والزيتون ونبات الصبار؟

لا أيتها العجوز، لا اعتقد أنني سأذهب آلي الطيرة، فقد يتزاوج الحلم مع الواقع وعندها لا أدري ماذا سيحدث، فقد أتحول آلي ذكرى تفقد حاسة النطق لتتحول آلي هديل الحمام الذي بنى عشه في شقوق جدران بيتنا الغربي المطل على شاطئ البحر.

***

بلغني من (عارف ذكرى قديمة) إن بيتنا ما زال واقفا كالطود يناجي أمواج البحر، وانه بالإضافة آلي ذلك مسكون من عائلة يهودية عراقية. جمعت (الكواشين)، وجمعت عائلتي وقررت الذهاب آلي هناك. أم حسين التي تجاوزت السبعين من العمر، الفلسطينية الوحيدة التي بقيت في الطيرة بين خمسة وعشرين ألفا من (السفارديم).

أفادني السائق أنه يعرفها ويعرف منزلها الذي تقيم فيه مع أولادها الأربعة. ناضلوا على مدار ربع قرن حتى تمكنوا من تثبيت ملكيتهم لقطعة أرض في الطيرة التي يصرخ فيها الماضي من قسوة الحاضر. بيوت قديمة ما زالت ماثلة أمام المباني العالية المغطاة بالقرميد.

تستضيفنا الحاجة أم حسين وبعد رشفات سريعة من كأس الشاي الساخن، نتوجه برفقتها آلي حيث بيتنا. نصل آلي الحي فتختلط الأمور على أم حسين ولا تسعفها الذاكرة، فتقف حائرة تنظر يمينا ويسارا. ولم هذا التيه؟ أليست تلك هي الصبارة الضخمة الساكنة في تلافيف الذاكرة؟ وهذه شجرة التوت التي تقع خلف البيت مباشرة؟ وتلك شجرة التين التي أصبحت بحجم خرافي والتي أطلق سراحها جدي لتكون (سبيل) للغادي والرائح يتذوق حباتها تحت ظلالها الواسعة؟

بدأت أجري، والأولاد وأم حسين يسرعون خلفي، وعند شجرة التوت انعطفت يمينا. كانت بوابة بيتنا الضخمة تقف هناك بانتظار الأحبة وراء البحر ووراء الليل وخلف الضباب. إنه هو البيت الساكن أبدا في تجاويف القلب وصحوة العقل وتلافيف الذاكرة، فبوصلة الذاكرة لا تخطئ.

***

رميت بالصور أمامها، قربتها من النظر أكثر فأكثر وتمعنت بكل التفاصيل. خشيت عليها من هيجان الذاكرة. ثم بدأت تلثمها فابتلت الألوان بالدموع وأخذت تغني بصوت متهدج يقطع نياط القلوب.

احتفظي بالصور كما احتفظت بالكواشين، لم أعد أنا بحاجة لها بعد الذي رأيته بأم عيني، ورآه ابني الذي لم يبلغ السادسة من العمر، والذي استفسر عن السبب في إقامتنا بمدينة رام الله إذا كان هذا البيت بيتنا. فهل تستطيعين الإجابة عن السؤال؟ وهل رضيت الآن أيتها العجوز؟

= = =

الكوشان: وثيقة إثبات ملكية أرض أو شهادة ميلاد.

السفارديم: اليهود الآتون من الدول العربية.

السبيل: خدمة مجانية للمارة كتقديم ماء للشرب.

الهيشي: تبغ نفل، يلفه المدخن بنفسه.

الخيط المصيص: خيط سميك.

العصملية: نسبة إلى العصر العثماني.

D 1 حزيران (يونيو) 2007     A عيسى عبد الحفيظ     C 0 تعليقات