نورس السليم - العراق
حظه العاثر (حدث في الموصل)
ها هو اليوم يدفع سيارته القديمة التي أكل عليها الدهر وشرب ليذهب لعله يجد من يستأجره فيسد بما يكسبه من سيارته المتواضعة ما يسد به رمقه ورمق أولاده.
في صباح يوم آخر، وبينما أتكاسل في النهوض من فراشي إذا بزوجتي تقول انهض فقد سقطت الموصل بيد الأمريكيين، الأمر الذي كان متوقعا بعد سقوط بغداد قبل ذلك بيومين.
فور نهوضي إذا بصراخ يعلو في الشارع، فذهبت مسرعا إلى النافذة، فإذا بجاري يتشاجر مع زوجته وأمه اللذين كانا يحاولان أن يمنعاه من ركوب سيارته القديمة. فذهبت إليهم على الفور وسألت:
"ما بالك يا أم سعيد؟ وما بالك أنت يا سعيد؟"
أجابتني أمه: "يريد أن يدخل الحرام إلى بيتنا. يريد الذهاب مع ناهبي أموال الدولة."
فقال سعيد: "أليست هذه أموال العراق؟ وأنا عراقي، ولم يعطني العراق درهما واحدا الكل يأخذ أموال العراق إلا أنا. وأنا بأمس الحاجة إلى تلك الأموال، ليس للترف ولكن لأطعم أولادي، ولأصلح سيارتي، مصدر رزقي."
دفع سيارته وشغلها وذهب. هدأت أمه وقلت:
"لا تخافي فلم يعد في الدوائر ما يسرق. اتركيه يعبر عن غضبه قليلا ثم يعود."
وبينما كنت أهدئ أم سعيد أذن الظهر، وكان اليوم جمعة، فتوجهت إلى الجامع، فجمعة اليوم ليست ككل الجمع، فهي أول جمعة بعد سقوط النظام.
ذهبت إلى الجامع الكبير في المدينة الذي كان على مقربة من جامعة الموصل، فإذا بالإمام يقول:
"علينا نحن أهل الجوامع أن نوقف عمليات السلب والنهب."
تجمعنا بعد الصلاة وأخذ كل منا عصا. توصيات الإمام كانت: لا تتهوروا، وإياكم وقتل أحدهم.
كنا أول جامع بادر بهذه العملية في الموصل. خرجنا مندفعين إلى السيارات التي كانت تنهب. ورغم كثرتها، تمكنا من توقيفها. نمسك بهذا ونفرغ ما بسيارته وننقل محتوياتها إلى الجامع. ومن كان لا يقف كنا نضربه بالعصي.
ملأني الفخر بان أكون من بين الذين ساهموا في إيقاف أعمال سلب جامعة الموصل.
بين أصوات السيارات وصراخ البعض وأصوات الأغراض التي تتكسر، علا صوت الإمام صارخا: "اتركوه، كفاكم فقد يموت بين أيديكم."
كان الإمام يتكلم إلى مجموعة من شبان الجامع في الطرف الآخر من الشارع. ذهبت إليهم فإذا بهم قد ضربوا شخصا حتى أصبحت الدماء تسيل منه من كل طرف، وقد كسروا سيارته تكسيرا بحيث لا يمكن لها أن تسير يعد اليوم. وعندما اقتربت من هذا الشخص، فإذا هو جاري سعيد، فقلت للشبان: "كفاكم إنه جاري."
تملكني غضب شديد حتى أنني وددت أن اضرب كل من كان يضربه، ولكنني تمالكت نفسي وحملته مسرعا وذهبت به إلى المشفى الوحيد الذي كان يعمل في ذلك اليوم. وبعد أن أفاق من جروحه قال لي:
"أرجوك يا جاري اذهب إلى سيارتي، فأنت تعرف أني لا املك غيرها واحضرها إلى بيتي."
ذهبت إلى سيارته التي كانت واقفة جوار الجامع. كانت في حالة يرثى لها، وهي أصلا بالية وقديمة، وقد تكسر زجاجها، ودمرت العصي هيكلها.
التفتت إلى الجامع فإذا بإمامه قربه. قلت له
"ما الذي أخذه لكي تفعلوا به ما فعلتموه؟"
فقال لي: "أنت تعلم أننا لا نستطيع أن نضبط كل تصرفات شبان الجامع."
ثم أراني ما كان قد أخذه. كانت مجموعة أغراض قديمة لا تعادل قيمتها ثمن أي من قطع زجاج سيارته.
عند وصولي إلى بيت سعيد رأتني أمه فسألت:
"ابني سعيد ما الذي حصل له؟"
فقلت لها: "جروح بسيطة. سأجلبه إلى البيت الآن."
ذهبت إلى المشفى وأحضرته إلى البيت. في الطريق حدثني وقال:
"كيف سأعيش؟ مصدر رزقي الوحيد قد دمر، ولم يبق لي عمل. إنني ضعت ولم يبق لي شيء."
قلت له: "لا تخف، سأذهب إلى الجامع لأقنع شبانه بأن يدفعوا لك تعويضا."
ذهبت إلى الجامع فرأيت الشبان يجمعون الأغراض التي امسكوها. وكانت هناك مجموعة من الرجال وبينهم الإمام فجئت وسلمت عليهم.
سألني الأمام: "كيف حال جارك؟"
قلت: "كيف سيكون بعد ما فعلتموه به؟"
أجاب أحدهم: "يستأهل، حتى يبطل الحرام."
قلت: "من أين يطعم أولاده الآن؟ تركتم الذين سرقوا ملايين وركضتم وراء المساكين."
قال آخر: "أنت إنسان مؤمن، وتعرف أنه لم تكن هناك طريقة نوقف بها النهب إلا هذه."
قلت: "هو صار ضحية غضبكم، ولا بد أن تعوضوه وتصلحوا سيارته."
انتفض الجميع. قال أحدهم: "هل نضحك على أنفسنا؟ نوقفه ثم نعطيه؟ ومن أين نعطيه؟
قلت: "بيعوا هذه الأغراض وأعطوه من ثمنها."
قال الإمام: "هذه الأغراض أمانة، وسوف تعود للدوائر."
تركتهم، وفي طريق عودتي رأيت رجال المحلة مجتمعين ويتناقشون في الأوضاع، فقلت لنفسي سأكلمهم لعلي اجمع منهم ما أتمكن به من إصلاح سيارة جاري. انضممت إليهم، وفي خضم النقاش شرحت لهم ما حصل مع جارنا وطرحت عليهم فكرة جمع مبلغ لنصلح سيارته.
قال أحدهم: "كيف تقبل أن نساعد شخصا سارقا؟"
قال آخر: "خليه يتعلم لكي يترك الحرام."
وقال آخر: "أصلا المفروض أن نطرده حتى من المحلة بعد الذي فعله، لكن من اجل أولاده سنتركه."
ساعدت جاري بما أستطيع، وبعد أشهر، وبعد أن اضطر لبيع أثاث منزله لإصلاح سيارته، وبينما كنت أسير في الشارع، فاجأني إعلان من جامعة الموصل عن بيع الأثاث الذي استعادته من الجوامع كخردة، فقد أعاد الأميركيون تأثيث الجامعة بكاملها.