عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

مرام أمان الله - فلسطين

ســـؤال


لم أتردد في الإجابة. كانت المرة الأولى التي أجيبه دون تفكير على أحد أسئلته التي لا تنتهي. "طبعاً لأ،" إجابةٌ سبقت نهاية السؤال. خرجت بسرعة الهارب من سجنٍ مؤبّد. لم أقم لحظتها وزناً لسؤاله، مع أني كنت أطيل التفكير في كل ما يسأل، ثم أتبعه بالنقاش التفصيلي والتحليل الذي يحمل في جزئياته شيئاً من الإعجاب المستتر بحكمته المغلّفة بقشور الشيب الذائب في أنحاء السواد. لا أدري، أشعرته بديهيّ الإجابة؟ أم كنت في واقع الأمر أنتظره بلهفةٍ منذ سنين. ابتسم متفاجئاً وغاب دون تعقيب. وغابت معه تلك اللحظات، وانطوت في صفحة ذلك اليوم المتلاشي بين أكوام الأيام المنقضية في اتجاهٍ واحد.

حسبته ذهب دون رجعة، حسبتني نسيته لحظة انزلقت مني الإجابة عليه، ممزوجةً باللاإكتراث المتعالي، وكأن قرار تهميشه كان صادراً قبل حتى أن أُسأله. ولكنه عاد من غيبوبته يدقُّ عنوةً في أذني، كجرس الكنيسة يوم الأحد، أو كصوت المؤذّن ساعة الفجر: فجأةً يداهمك في الحلم ليسحبك إلى صلاة الفجر. تحاول الهروب إلى الحلم ثانية إلا أنه يكون قد هرب الحلم، فتبقى وحدك تسمعه دون غيره بكل ما فيك من تركيز.

في كل التفاصيل يتشكل، أراه متجسداً في الأشياء حولي، أسمعه مشوِّشاً رنين كل الأصوات، كما ذبذبات العدو المتجسّسة أيام الحرب، أشتمه متسلّلاً مع كلّ ما أستنشق، وكأنه قد سكن أنفي أو كل الفضاء، أتذوّقه، أحسّ به، أفكّر فيه كلّ التفكير بغيره. يلاحقني، أحاول الهروب منه عبثاً. أيعقل أن يأسرني سؤالٌ فيه بهذه القوة، وهو لم يكن قد نال مني أكثر من الاستخفاف به وقت الإجابة؟ ألأني شعرت أنني تعجّلت الإجابة عليه أفكّر؟ أم تراه كان أكبر مما فهمت وقتئذٍ؟ أزادتني تلك السنين نضوجاً جعلني أدرك الحقيقة فيه الآن أكثر؟ أم أنه يعاقبني لاحتقار كونه سؤالاً يُسأل؟ حقاً لقد أخطأت في حقه، فقد حرمته حتى من فرصة التفكير فيه.

أدركت مؤخراً معنى أن أكون "أنا" في هذا المحيط المجتمعي الغريب، في الوقت الذي لا أقوى فيه على تغيير طبيعتي المربوطة بتحديد واجباتي، علاقاتي، صلاحياتي ومساحة حريتي. حقيقةٌ أدركتها متأخرةً. يسعى الجميع إلى طمسها ظاهرياً والتفنّن في تطبيقها عملياً. ثقافةٌ مبنيةٌ على أساسٍ من الإدّعاء الضحل، الزاعم بالمبادئ والقيم التي تطوي في أحشائها عدداً لا ينتهي من الأوبئة والعفن المجتمعي المدمّر. ولكنه من الصعب على المرء التشبث في خيوط الوهم والخيال، فالأمر واقعٌ مفروض، لذا فلا تلزم المكابرة والزيادة في الادّعاء. فبكل جرأة هنا أعلن عن ندمي واعتذاري. لم أتقن يوماً فنّ الاعتذار، فتجدني دوماً أفكر كي أتجنّب الوقوع فيما يلزمني به، إلا أنني الآن موقوفةٌ رهنه.

ترى كيف يكون الاعتذار من سؤال؟ قد يكون السؤال صعباً، إلا أنني أصلاً لا أدري لماذا سأل، ولماذا أجبت. كل الذي أدري أنني تعبته. ما انفك يراودني في اليوم ألف مرة.

ولكن هل سيعود أبي يوماً ليسألنيه ثانية: "هل تتمنين لو خلقت شاباً؟" كنت لأجيب في الحال: "يا ريت!"

D 1 أيار (مايو) 2007     A مرام أمان الله     C 0 تعليقات