الهادي عجب الدور – السودان
أنشودة الأبنوس الدافئة وثلوج الشمال
السهول الواسعة المعطرة بالدماء الدافئة والممتدة على مد البصر بسطت أذرعها وصدرها برفق وحنان بنشوة دافئة، وتأملات عميقة، تداعب المسافرين في ذاكرة الرحلة الطويلة، وزخات المطر المتناثرة المنعشة، رسمت في الأفق لوحة متشابكة، كغابات الأبنوس المنسوجة بنعومة وتجلى، تستنشق رائحة دموع السافنا.
ترشف قبلات الأبنوس المتراقص وعبق الأطياف القديمة وإشراقات السهول الخضراء البكر، والنسمات الريفية الهادئة تكنس رائحة أطياف الثلج القديم بعيدا، بعيدا، وقتامة الغربة المرهقة الشاحبة أضحت معلقة على جدران المسافة المثقوبة بالدموع والعناء وعلى ثنايا المحطات المهشمة بالأنين والسهاد الطويل وصخب القطارات الطويلة المتسربة في أعماق أطياف الليالي الثقيلة ووسط واحات الجليد وصقيع الشمال البارد.
والطيور المهاجرة المسكونة برائحة الخريف والسافنا وشبق الأبنوس هنالك أفردت أجنحتها في السماء، تطوق قوس قزح في رحلة الأحلام البعيدة والشمس الملبدة بالغمام، أغمضت عينيها باستحياء وأسدلت رموشها برفق. كأنها لم تكن، واطل قرنها كمعشوقة يائسة من زمن بعيد في عمق السراديب تترقب فارس الأحلام القادم من وراء الضباب، من حكايات وأساطير العصر الأول.
كل شيء هنالك مسكون بالغربة الباردة والذكريات الملتهبة، مسكون برائحة القراصنة، والبحر، مسكون بالتيارات الباردة المقوسة. كل شيء هنالك حاف، عار، جائع، يائس، محطم، مبرقع، مشتاق بنصف روح ليس له طعم.
كل شيء هنالك مكتوب لحن بارد في الأغنيات الكسولة، وفي قاع الخريطة تنام مدن بعيدة وقصائد محفوفة بالدموع الحزينة مغسولة بخمر الذكريات والأحلام وفي قاع وحل المسافة المعروشة بظلام الغربة والعذابات والقلب المرهف هائج بجنون السكون تتلوى أمواجه سرا في موكب الألم تتصادم في رحلة طويلة ومستمرة على مد البصر،
كل شيء هنالك يرتجف مسكون بالخوف الداخلي العميق، مشبع بالاهتزاز، المسافة بعيدة بعيدة جدا، والسهول الرخوة ما زالت أسراب من الأحلام ممتدة ترسم سرداقات الدموع السمراء المعشوشبة بالألم المقشرة بالصقيع ووحل الغربة الآسن، والقرى المسافرة مع أطياف الريح تطارد الأمواج الهادرة ورائحة السراب الخرافي البعيد، السراب الفنتازي المختلط برمال الصحارى البعيدة، القاحلة المحفورة في شرايين الأطياف والذكريات العنيدة، المنسية في دفاتر الرحالة وشبق الحبيبات وعيون الأبنوس وفاكهة الجغرافية المستحيلة، المنهكة في طواحين المكان، وأنياب الزمان والقصائد السمراء تتلوى بالصقيع والنكد المنسوج بهواجس الرحيل والمواعيد والبراري والأحلام المكسورة.
كل شيء هنالك سري غير مباح، سري مكبل محروم من الخريف، محروم من رائحة السافنا ونسمة الحروف، والشلالات الذهبية، وخرير الجداول الفضية.
كل شيء محروم من ظلال الأبنوس، من دمعة العيون السمراء من ضحكة الجبال الزرق من أصوات الوادي الأخضر، من الشواطئ الدافئة، والنخيل الباسق، والبساتين الرائعة، وحلم الأبجدية الأزلي، وكتاب الطفولة الأول، وموعد البهجة.
نعم مازال الجناح مكسورا. الأغنية طويلة. طول الرحلة والقصة كبيرة بحجم الجراح، والدمعة سخينة بلون الأتراح، والمسافة مضنية ومتعرجة بشكل النواح، ورسومات المشهد تعشق المطر والنسمة الدافئة، وأطياف السافنا والرموش السمراء والنهود الملبدة بوهج الصيف ورائحة الخريف هنالك.
◄ الهادي عجب الدور
▼ موضوعاتي