ياسمينة صالح - الجزائر
الحلم يأبى العتمة
ها أنت حر. لم تكن الحرية أبعد منك كما هي الآن. لم تكن الحرية قريبة منك كما هي الآن. قريبة حد الدهشة، ومحاطة بالصور الكثيرة التي كنت تعتقدها ضربا من الخيال. الآن لم تعد معينا بشيء. لم تعد معنيا بالوطن ولا بالسياسة ولا بالخبز ولا المطالب اليومية البسيطة والضرورية. لم تعد معنيا بالحب ولا الضغائن الصغيرة، ولا بالأكاذيب البيضاء التي أغرقت المدينة والناس معا. لم تعد معنيا بأي شيء، سوى باللحظة التي تحررت فيها من مواجعك المزمنة، ومن خيباتك التقليدية الصغيرة منها والكبيرة، ومن تلك الوجوه التي خانتك كثيرا عن حسن أو عن سوء النية.
ها يومك الاستثنائي يصبح جميلا. محمولا أنت على الأكتاف. تصلك الهتافات مبهمة ولكن صادقة، وحارة. ها يرددون الشعارات التي كنت ترددها ويهتفون باسمك. أجل. هو اسمك الذي صار يعرفه الناس الآن. اسمك الذي كان نكرة بالأمس القريب. لم يكن يعرفك أحد غير الضابط الذي كان يداهم بيتك رفقة المخبرين الذين كانوا يثيرون الفوضى والخوف وهم يفتشون كل ركن من جلدك، ويبعثون القلق في المكان. اسمك الذي كان يعرفه السجان كلما بصق على وجهك صباحا كتحية تحمل رائحة الحاكم للمحكوم.
حتى الرجل السمين الذي كان يتلذذ بتعذيبك لإجبارك على الاعتراف كان ينطق باسمك ويبصق عليك ويسب سلالتك التي يقارنا بسلالة الكلاب! كان الرجل السمين مسؤولا في قسم السجون، مسؤولا لأنه كان يملك خاصية التعذيب. بالكلمات ثم بالأفعال. وكان يصر على تعذيبك بنفسه ليعطيك شرفا عظيما كلما قال لك: "أنا لا أتعاطى هنا إلا المهمين،" ثم يشفي فيك ضغائنه وأمراضه الخاصة.
كنت أحيانا تستغرب كل هذا "الاهتمام" بك، منذ اكتشفت حجم الملف الذي يمتلكونه عنك مكتظا بجرائم لم ترتكبها وبأفعال لم تسمع عنها من قبل. تفاجأت أنهم يتهمونك بالانتماء لتنظيم القاعدة. وبدت لك التهمة على حجمها مثيرة للابتسام! لم تكن شيئا في النهاية. لم تكن أكثر من مواطن بائس، وموظف بسيط في مؤسسة وطنية دخلتها لتكتشف حجم الخسائر فيها. لم تكن معنيا بشيء من قبل، ولكنك صرت معنيا بكل شيء، بعد أن فهمت أن اللعبة ستجردك من خبزك، فقررت الانضمام إلى صف المطالبين بالتغيير فيها. اعتقدت أن لك الحق في ذلك لأنك ابن مجاهد سابق شارك في الثورة التحريرية وساهم في طرد المحتل من بلاده قبل أربعين عاما.
كنت تريد أن تثبت لأبيك ولنفسك تلك القيمة التي لا يمكن أن تذوب. من مواطن بسيط إلى نقابي. تلك كارثة لا يمكن غفرانها. أن تكون نقابيا فمعنى ذلك أنك تحشر عقول الموظفين بالسياسة. رابطا بين الخبز والحرية، وتلك تهمة غير مغتفرة! الذين شجعوك كانوا يرون فيك وجها جميلا للوطن. كانوا مثلك من البسطاء والفقراء والمقهورين والمنبوذين والمهمشين. كانوا يخافون التعبير عن حبهم لك خوفا من العيون التي كانت تراقب تحركاتك وتصنع لك ملفا في سجل "الإرهابيين" الجدد.
كنت إرهابيا جاهزا لأنك تطالب بالتغيير وتعترض على الراهن، وتعارض الواقع البائس الذي أحال الناس على الفقر في دولة النفط! من فكرة صغيرة إلى فكرة بحكم الوطن. فقد لمست يدك الحقيقة. حقيقة اليقين المطلق الذي لا يمكن الدفاع عنه خارج الدفاع عن الأرض التي يستثمر فيها اليهود باسم العولمة والانفتاح على الآخر، والقرية الصغيرة! دم والدك والشهداء الذين قضوا تحول إلى ماء بعد أن صارت الحدود مفتوحة للأقدام السوداء، والاستعماريين الجدد.
من شخص بسيط، يعود إلى أمه مساء وإخوة يتسكعون في الشوارع بحثا عن عمل، إلى رجل استثنائي. كلما داهمت الشرطة بيتك تشعر بأهميتك، بالرغم من هلع أمك وإخوانك. لم يكن يعنيك الخوف. كنت معنيا بالتغيير.
وها أنت حر الآن. التغيير الوحيد الذي بلغته يكمن في نهايتك. لم تمت في سريرك بمرض بائس، ولا بالتخمة. كان موتك مغايرا لكل الميتات. يشبه الموت الذي كنت تقرأ عنه في الكتب، وفي كلام الرجال الذين عايشوا زمن الاحتلال مرتين. مرة أثناء الاحتلال ومرة بعد الاحتلال! الموت الذي يجعل منك استثنائيا في عيون الآخرين. فقد عجز السجان في إذلالك كما كان يتمنى. حتى الرجل السمين الذي أنهكه التعب من التعذيب شعر بأن كرامته جرحت بسبب صلابتك. كنت مرهقا من الضرب. كانت الدماء تسيل من كل جسمك. ولم يكن يعنيك ذلك.
فكرت في أمك التي لم ترها منذ شهور، وفي إخوانك الذين يبحثون ـ عبثا ـ عن عمل في مدينة تبيع نفسها للأجنبي حارمة أبناءها من العيش. فكرت في حلمك القديم بالزواج، لتصبح أبا لأطفال تعلمهم أشياء ضرورية للحياة. ولكن. في الأربعين من العمر فقدت الرغبة في الزواج، لأنك رفضت توريث أطفالك الخوف والرعب اليومي من صوت خطوات رجال الأمن، والسجان وهواة لعبة التعذيب.
اليوم، أنت محمول على الأكتاف. تابوتك المغطى بالراية الوطنية يذكرك بالوطن الذي تغادره غير آسف. لكن أمك تبكيك في مكان ما. وإخوانك الذين فجأة يصبحون أيتاما من جديد. فكرت في الحياة. كم هي بائسة. لكن السجان في مكانه. وقد فتح باب السجن لضحية أخرى.
◄ ياسمينة صالح
▼ موضوعاتي