ربى عنبتاوي - فلسطين
سقى الله
لم تزل خيوط الدخان تتراقص في المكان. هناك حيث يسود اللون الأسود، قاتما كالوضع العام، دخلت العائلة مذهولة. البنات يبكين، والأب يكتم دموعا خلف وجهه المحمر كلون الدم.
"فار دمه من الحسرة." تنَاقلَ المشهد أناس تهافتوا لإطفاء السنة النيران في المحل. إلا أن آلهة المجوس التي خلقها البعض هناك، لم تترك خلفها ثوبا أو سترة. فقط زوج جراب أسود وجد أسفل أحد الرفوف.
*****
لينا اعتادت أن ترتب الملابس وتعيدها إلى أماكنها. والدها يكافئها بأن تختار قطعتين لها كل أسبوع، فتفعل. أما هدى فتفضل النقود. تأخذ مبلغا وتشتري كل مرة نظارة شمسية. أصبح لديها العديد. تحب جداً شكلها على الوجه.
وليد وحسن، التوأمان الشقيان، لا أحد يمنعهما من اللهو واللعب، وتدوير شماعة الملابس المتحركة، ما دفع والدهما بعد سقوط وليد وجرحه لرأسه إلى فتح غرفة للدمى ولُعب الأطفال حتى ينصرفا قليلا عن العبث بالشماعات.
أبو وليد محله هو عالمه، يقرأ المعوذتين كل صباح، ويتذكر كيف ترك له والده أرضا ومحلا صغيرا وسط البلد: المحل بلا بضاعة والأرض بلا زراعة، وعليه أن يختار بينهما. كانت التجارة تستهويه أكثر، ولولاها لما تعرف على شريكة حياته وأم أولاده جمانة. حين اشترت منه وشاحا للعنق لونه رمادي، كان يفضل لها الوردي ولكنها اختارت، كما أختارها هو وتزوجها في نفس العام.
صعد الدرج خطوة خطوة. اقترب يوما من إشهار إفلاسه لأنه وسّع المحل مقترضا مبلغا من أحد المصارف. تراكمت الديون وباءت توقعاته بالفشل مع اشتداد المنافسة. قرر أن يبيع المنزل لولا دعم زوجته وأشقائه. باعت كل ذهبها، وأخرجت بناتها من مدارسهن الخاصة، واقتصدت في المنزل إلى ابعد الحدود. لا ينسى حين قالت له:
"سنبيع المنزل ونسكن في بيت مستأجر لو شئت."
مرت سنون تقشف واعتدال، وبينهما يتعلم الدروس، ويجني النقود. أصبح محله بعد عقد من الزمن أبرز محال المدينة، والأول في الملابس.
*****
صرخ أخوه:
"زعران، يعتقدون أن البلد غابة، ونحن لقمة سائغة سننتقم، جماعتنا ليست بالقليلة."
قال أبو وليد: "لا، لا. لا تزر وازرة وزر أخرى."
انهار فجأة ونقل للمستشفى. وفي اليوم التالي ملأت الجرائد صور محله المحترق. ليس هو فحسب بل ثلاثة آخرون.
بوادر حرب أهلية، جو مشحون بالاتهامات، ردات فعل.
"اللعنة على تحليل الصحف ونشرات الأخبار، الحرق حرق، والقتل قتل." قالت هدى أيضا بغضب:
"أصبحوا يشتبهون بمن يتقارب مع الفصيل الحاكم، ويحسبونه عليهم."
جدال في رواق المستشفى بانتظار الاطمئنان على صحة الأب.
خرج الطبيب متجهما، تجهماً جعل الطفل حسن يبكي لساعات، ويبكي أيضا كلما أدرك أن والده أضحى عاجزا عن حمله وإلقائه بالهواء. أصبح يكتفي بالجلوس في أحضانه على كرسي العجلات.
*****
بعد شهر من ذلك اليوم، وبينما كان أبو وليد قرب المدفأة، اقتربت زوجته منه واضعة يدها على رأسه:
"لا تقلق، إخوتك قاموا بالواجب، وملؤوا المحل ببعض البضاعة. بداية لا بأس بها. وبالنسبة للجناة، فقد بلّغنا الرئيس ووعَد بكشف الجناة ومعاقبتهم."
لم يجب، وريما تمتم شتيمة. أدركت أن كل ما يتعلق بالمحل يؤلمه. قالت:
"ابنتك لينا نالت الدرجة الرابعة. تراجع بسيط بعد ما مررنا به في الشهر الماضي.
حينها قال:
"لسنا سياسيين وهكذا يحدث لنا، فكيف لو كنا؟ ليتهم هم من فعلوا."
سألت: "تقصد المحتل؟"
أجاب: "كنت سأواسي نفسي، كنت سأتفهم."
همست بأذنه
"صحيح، نقتل بعضنا بعضا، ربما لا نستحق الدولة."
قال: سقى لله أيام زمان، كنا أخوة أما الآن فنحن الأخوة الأعداء.
تمنى مع زوجته عودة الماضي بقتامته وظلمه، حيث الحاكم المحتل القاسي يحكمهم بقوانينه العنصرية.
نظر إلى السماء وكأنه أحس بخطأ ما. استغفر الله مرتين.
وقبل أن يكمل المرة الثالثة قرأ على شريط الأخبار: "مقتل طفل في اشتباك فصائلي."
◄ ربى عنبتاوي
▼ موضوعاتي
- ● يوم أرض بنكهة خاصة
- ● سأختار حلمي
- ● مقارنة
- ● الخامدون
- ● رقعة شطرنج
- ● الـبـســطـار
- [...]