عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

مرام عايش أمان الله

انتهاء الزيارة


ما زال يصر على الرحيل عن هذه البلدة الوادعة، يجهّز للسفر بلا حقيبة، قاصداً ترك التفاصيل البعيدة والقريبة في ثناياها وبين ضلوعها.

هذا الصيف الغريب الذي لفّ أجواء المدينة بانتعاش الروح في لقيا الأحبة تارة، وبالألحان الفيروزية الحزينة وقت الأفول تارة أخرى. كم أحببته وكم أحبّته. وها هي أضواء بيت لحم تستعد للنوم بعد سهر دام بضعة أشهر في ليالي القمر الصيفية الهادئة.

أَجَنَباتها عطشى للسبات؟ أم أنها تهرب من وجع الفراق لتلقى محبوبَها في الحلم؟ أو لربما في طيفٍ سكن أجفاناً مطبقة؟

جاءها يحمل الحكايات الصغيرة. يحوك لقاءات العاشقين في الأزقة وخلف أسوار الكنائس العالية. يبعث البهجة في قلوب الصغار بوصول بائع "شعر البنات" الصيفي الذي يدبُّ الحياة في الأحياء والحواري، يصطاد الألحان الغجرية الشقية من عيون الصبايا الغواني، ليعزفَ بها ترنيمة الجسد الممشوق انسجاما مع إيماءة الثوب الصيفي المترنح من هنا وهناك.

عشقٌ سماويٌّ يربطه بهذه المعشوقة الأزلية في كل عام منذ أكثر من أربعة آلاف سنة، وما زال الهوى غضاً واللقاء يتجدد. تحتفي وأبناؤها به غازلين الهدايا المعتّقة من نوى الزيتون القديم والأصداف المتقلّبة المزاج في ألوانها.

تتغلّلها أحضانه بحاراتها المتراصة ذات الأزقة الضيقة وأقواسها الممزوجة بروح القديم المتجدد.

وأما تفاصيل اللقاء وطقوس الحب والمغازلة، فإما قبلة مطبوعة على أسوارها الحجرية البيضاء لتملأَها هوى عذرياً، فتفيضُ احمرارا لتراها وردية الطلّة ساعةَ الضُّحى، وإما أهزوجة صيفية الإيقاع من رائحة الخبز المتسلّلة من النوافذ المتقابلة على الجدران المتلاصقة، لتوقظ السابحين في الأحلام العاجية ملقيةً عليهم تحية الصباح التلحمية.

لوحة أسطوريةٌ ما بين ازدحام الأزقة شيئاً فشيئاً بالخطوات السريعة المتعثرة بظلالها، وتلك المتراخية ما بين الصحو والغفو غير آبهة بمشوار عقرب الساعة. أصواتُ الدواليب الصغيرة لحظة ارتطامها بأرضية الحارة الكثيرة النتوءات من العربات الخشبية اليدوية الصنع، أجراس الكنائس التي تكاد تتلاشى بين الزحام، تدقّ مذكّرةً بوجودها من بعيد، وأنغام فيروز تنأى بالعقول إلى حيث تريد فتسافر معها تاركة ملامح الوجوه تلهو بها نسائمه الصيفية الغضّة كما وحيث تشاء.

لكنه إذا ما حلّ المساء تحوّل إلى ساحر عجيب، يغمر الأنحاء بقدسيةٍ ما كانت لغيره من قبل. أفكار تتنقّل بين العشاق على غير علمهم كما الفراشات الدائمة الترحال من زهرٍ إلى آخر. أصداءٌ ليليةٌ تنسل من نافذةٍ عند باب الحارة إلى النافذة المقابلة لها في الزقاق، لتكشف اللحن السّرّيّ الخافت الأضواء في طيّاتها. قصصٌ صيفية النكهة والملامح تختلس النبضَ في قلب المدينة وتبحث عن حياة.

أحبّه وأحبّ بيت لحم، وأحب أن يحبني كما يحبها.

ولكنه ما زال يصرّ على الرحيل وعلى عجل. كم كانت اللحظاتُ عمراً! وكم كان اللقاءُ حياةً!

أكان الرحيل قدراً قاضياً كما الموت؟ أم أنه يتعمد البعد بين الفينة والأخرى خوفاً من أن تملّه هذه المعشوقة المليكة الدّنفة؟ أم أنها أجراسُ الخريف باتت تدقّ معلنةً انتهاء الزيارة؟

D 1 تشرين الأول (أكتوبر) 2006     A مرام أمان الله     C 0 تعليقات