محمود الجمعة - لبنان
حدث في البرج الشمالي
ملف: وفاء للبنان
فـاطـمـة قـانـصـوه
لم تكن فاطمة قانصوه على درجة من القوة تسمح لها بالمشي سريعا. كانت تعيش في بلدة دعبال في الجنوب اللبناني. بعد تعرض البلدة للقصف الشديد من المدفعية والطيران الحربي الإسرائيليين، غادرت الأم البلدة للبحث عن بيت تحتمي فيه وأسرتها. غادرت دعبال واتجهت مشيا على الأقدام نحو مخيم البرج الشمالي، أحد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين القريب من مدينة صور في جنوب لبنان. وبدا لها أن منطقة البرج الشمالي ستكون آمنة، إذ لا يوجد فيها أهداف عسكرية لتكون هدفا للعدو.
وعندما أصبحت على مشارف المخيم، قريبة من مصنع للصابون، مر بها إسماعيل، أحد سكان المخيم، والقى عليها التحية المعتادة: "السلام عليك." بعد أن أصبح على بعد حوالي خمسين مترا منها سمع دويا هائلا ارتجف له قلبه، وتسمرت خطواته، وشعر بارتباك جعله للحظات لا يعرف ما يفعل.
كان دوي الانفجار الشديد ناتجا عن صاروخ أطلقته طائرة حربية إسرائيلية من طراز اف 16، وقد وجه إلى مصنع الصابون، فدمره. كان الانفجار شديدا. وتناثرت الشظايا مئات الأمتار.
هب شباب المخيم لمحاولة المساعدة. عندما وصلوا المكان الذي لا يبعد مئتي متر عن المخيم ، وجدوا هولا لا يمكن تصديقه. بالأمس كان كل شيء جميلا، وكل شيء في مكانه. في تلك اللحظة، كان كل شيء مدمرا ومبعثرا. همة الشباب كانت اقوى من التدمير. لم يساورهم الخوف من غارة ثانية. نسوا انهم هدف سهل لعدو لا يعرف الإنسانية والعمل الإنسانى.
منزل حسين الزيات المحاذي للمعمل دمر بالكامل، رفع شباب المخيم من الأنقاض ما استطاعوا بأيديهم العارية. حملوا الأشلاء الممزقة للأم وأطفالها الثلاثة إلى سيارة الإسعاف. وقد شاءت الأقدار أن يكون الأب وقت الانفجار خارج المنزل.
عاد الشباب وكانوا كأنهم تمرغوا في التراب، وطمست ملامحهم. نصحهم بعض الأهالي بأن يذهبوا ويغتسلوا للتخلص مما على أجسادهم من مواد قد يكون بعضها ساما.
بعد ساعات من ذلك، قال إسماعيل إنه شاهد امرأة كانت تمر بالقرب من المصنع قبل الانفجار، وتساءل: ماذا حدث لها؟ قال آخرون إنهم لم يسمعوا عنها شيئا. قرروا أن يبحثوا عنها. بحثوا هنا وهناك، ولكن المحاولات باءت بالفشل. مر اليوم الأول ولم يعثروا على أثر لفاطمة. فتشوا في اليوم الثاني ولكن دون جدوى. بعد أن فشلوا في كل المحاولات، قال أحدهم ربما تساعدنا القطط بعد يوم أو أكثر على تحديد مكان جثتها.
وفي اليوم الثالث على فقدان فاطمة كان أحد المنازل المجابهة للمعمل بحاجة إلى وضع قفل للباب الرئيسي، واستدعى ذلك إزالة الركام الناتج عن تدمير سور البيت (التصوينة). وتحت ذاك الركام كانت فاطمة ترقد، والحياة لا تزال في عروقها.
وما حدث هو أنه حين وقع الانفجار الشديد، انخلعت إحدى بوابات المعمل، وطارت ثم هوت على تصوينة المنزل المقابل للمصنع، وأخذت البوابة فاطمة في طريقها. دمرت تصوينة المنزل، وانهال الدمار على البوابة التي كانت فاطمة قد أصبحت تحتها.
وهكذا نجت فاطمة، ربما لأنها خرجت تبحث عن ملجأ لأسرتها، وربما لأنها بحثت عن الأمان في مخيم للفلسطينيين الذين جاءوا إلى لبنان بحثا عن الأمان.
حسين يونس
أثناء الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982 كان حسين يونس في الرابعة عشرة من عمره، أما أيام حرب إسرائيل على لبنان عام 2006 فقد كان أبا لخمسة أطفال، وعاملا زراعيا يوميا يناهز عمره ثمانية وثلاثين عاما.
وحسين يونس رجل بسيط، نقي السلوك ويتحلى بالرزانة والأمانة. كان قبل الحرب يحرس بستانا في تلك المنطقة. ومن أجل التغلب على الواقع الاقتصادى الصعب، قرر أن يربي بقرة لكي تساعده على حياته الصعبة، ولكي تزيد من دخله. ومع مرور الأيام صار لديه بقرتان وعجل، وأثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان كانت إحدى البقرتين حاملا.
خلة حمارة منطقة تبعد حوالي ثلاثة كيلومترات عن مخيم البرج الشمالي، وهي منطقة مليئة ببساتين الحمضيات والموز، وفيها بعض المنشآت كمعمل بلاستك وأمصال المستشفيات. وهي أيضا منطقة كانت في السابق محطة لطلاب المدارس ليدرسوا فيها، هربا من واقع بيوت الصفيح. وكانوا يستظلون بأشجار السرو والكزرينا.
عندما بدأت الحرب كان نصيب هذه المنطقة المفعمة بالحياة الطبيعية قصفا وحشيا، إذ بدأت الطائرات الحربية تلقي قنابلها دون تميز ما بين مدني او عسكري. ولم تبارح أجواء المنطقة طائرات بدون طيار أطلق عليها الناس لقب "أم كامل" (*).
كانت "أم كامل" تقوم بتصوير المنطقة بشكل دائم لكي تقدم المعلومات للطائرات الحربية التي كانت تشن الغارات في الليل والنهار، ولا تترك مجالا لأي كان ان يتحرك او يسعف جريحا او يساعد مستغيثا.
أفرغت الطائرات الحربية حممها على المنطقة، فقتلت ودمرت، واقتلعت الأشجار. وكان بين أهدافها معمل البلاستك، فتعالت سحب الدخان المنبعثة من مواده المحترقة، حتى لكأنك تعتقد أن فصل الشتاء قد حل في سماء المنطقة المحيطة بمنطقة البرج الشمالي.
كان حسين يونس معتادا على الذهاب إلى البستان للاعتناء بالبقرات ثلاث مرات في اليوم: صباحا وظهرا ومساءً. وبعد بدء العدوان، بقي يذهب في الأيام الأولى كعادته، يركب دراجته النارية ويصل كالمعتاد، و يضع التبن لتأكل البقرات، ثم يأتي لها بالماء لتشرب.
كان الناس من حوله ينصحونه بعدم الذهاب لأن المنطقة محفوفة بالمخاطر الكبيرة، ولكنه يعتقد أن البقرات مخلوقات يجب الحفاظ على أرواحها، ولا يعقل أن تترك دون عناية.
في اليوم الثامن للمعركة، انطلق بدراجته النارية كالعادة، وسار هذه المرة بمحاذاة أشجار السرو المحيطة بالبساتين، ولأن "أم كامل" كانت تحوم فوق المنطقة قرر أن يترك الدراجة تحت شجرة سرو، واحتمى هناك من الطائرات المراقبة.
بعد ذلك قرر أن يجري لكي يدخل بوابة البستان، وسمع عندئذ دويا هائلا لا يبعد كثيرا عنه. وصل إلى حيث بقراته، ووضع التبن لها وقدم لها الماء، وعاد مسرعا إلى مكان الدراجة النارية، فوجد حفرة كبيرة. عاد أدراجه إلى المخيم مدركا أن الأوضاع تزداد خطورة كل يوم. لكن هذه المرة كانت صعبة وبدأ يفكر في تقليل مرات الذهاب إلى مرة واحدة.
يسأله البعض "لماذا لا تجلب البقرات إلى المخيم؟" فكان أحيانا يقول قد يتم وقف إطلاق النار قريبا، ولا يصبح هناك داع لذلك، وأحيانا أخرى يقول أنه يخاف على البقرات، خاصة وان واحدة منهما حامل.
قرر في اليوم التالي الذهاب عصرا. فكر في ترك دراجته النارية على زاوية محطة السبعيني، ثم يذهب سيرا على الأقدام. ولكن عندما وصل المحطة غير رأيه، وواصل الرحلة بدراجته فالوصول إلى مكان البقرات مشيا كان سيحتاج إلى نصف ساعة.
وصل إلى بقراته ووضع لها التبن والماء. ولكنه هذه المرة لم يستطع العودة كالعادة، فقد كانت "ام كامل" تحلق في الأجواء. واشتد القصف على المنطقة دون هوادة. وتوالت الغارات حتى أن شظايا القصف ذلك كانت تتناثر فوق المخيم ومحيطه. ولما حل المساء، قرر العودة، وغير خط سيره المعتاد، فبدل أن يحضر باتجاه المخيم قرر الذهاب باتجاه البازورية اعتقادا منه أنها أكثر أمنا من الجهات الأخرى. لم يكن يدري أن القصف كان في كل الاتجاهات.
في طريق عودته تذكر صاحب البستان الذي يعيش في البازورية، وهو من عائلة الجفال. وجد صاحب البستان لا يزال في منزله، وقد فوجئ الرجل بحضوره، ورحب به في بيته، وقد أذهله تصميم هذا الرجل على الاهتمام بالأبقار. وبدأ يؤنبه على المجازفة بحياته، وذكره أن البساتين والأملاك لا قيمة لها إن أصابه شيء. قدم له صاحب البيت ما توفر من طعام قليل نتيجة الحصار الذي اشتد على الجميع.
كانت الساعة قد قاربت الحادية عشرة ليلا، وأصر حسين يونس على العودة إلى بيته. قراره أثار جدلا كبيرا بينه وبين صاحب البستان، الذي قال: "هل أنت مجنون؟ كيف سيكون موقفي أمام الناس إذا حدث لك مكروه أثناء عودتك؟ تعقل يا حسين. مستحيل أن أتركك تذهب. الصباح رباح، والنهار له عينان." ولكن حسين ظل مصرا على العودة إلى بيته في المخيم.
في تلك الأثناء، في مخيم البرج الشمالي، اجتمع أقارب حسين وجيرانه وبدأوا البكاء عليه ظانين انه استشهد. وتعالت أصوات النحيب، وعبارات الندب من قبيل ضيع شبابه من اجل البقرات. بدأت اللعنات تصب من كل صوب على البقرات المشؤومة، وترديد عبارة تذكر بأن الحياة اغلى بكثير من أن يضحى بها على هذا النحو.
تفادى حسين سلوك الطريق العام، واختار دربا بين البساتين. اصطدم بأسلاك شائكة تفصل بين البساتين، وتلافي الاصطدام بالمزيد، بحث عن عصا لتعينه على تلمس طريقه في الظلام الحالك.
حوالي الواحدة ليلا، اقترب من مشارف بلدة البرج الشمالي القريبة من المخيم الذي يحمل اسمها. ارتاب من حالة الصمت المطبق على المداخل الشرقية للبلدة، فقرر أن يمشي ويدق قدميه بالأرض لعله يصدر صوتا يعلن عن اقتراب إنسان، فلا يروح ضحية نتيجة الدخول عن طريق الخطأ في كمين نصبه المدافعون عن البلدة للقوات الإسرائيلية.
ولما وصل الشارع الرئيسي في البلدة، راح يدندن بصوت مرتفع، أملا في أن يسمعه أحد. وفجأة سمع صوت ينادي بسؤال: "من أنت؟" تنفس حسين الصعداء. رد على السؤال:
"أنا حسين."
جاءه سؤال آخر: حسين مين؟
"حسين يونس."
ناده الصوت آمرا: "اقترب؟"
اقترب حسين أكثر من صوت المنادي، الذي طرح المزيد من الأسئلة:
"من أين أنت؟ أين كنت؟"
استجمع حسين شجاعته، وقال
"أنا من مخيم البرج الشمالي، اسألوا عني فكل الناس في المنطقة يعرفوني. اسمي حسين يونس، ولكن البعض يعرفني باسم حسين ريا."
خلال نصف ساعة بدأ الذين أوقفوه يعتذرون له، وقالوا إن ما فعله مغامرة، وطلبوا منه أن يعلمهم مسبقا إن هو قرر الذهاب ثانية.
وصل المخيم فأثارت عودته سالما فرحة عارمة في نفوس الزوجة والأب والأولاد والأهل، وكثرت تهاني والأقارب والجيران بعودته سالما، وبدأ أيضا التأنيب على ما فعل. ولكنه كان يفكر في ما سيفعله في اليوم التالي من أجل البقرات. وقد اتخذ قرارا بإحضارها إلى المخيم.
كان حسين بحاجة لمن يعينه في عملية إحضار الأبقار إلى المخيم. وهذا الشخص كان عليه أن يكون مستعدا لركوب الأهوال. وقد وقع الخيار على عديله، وأقنعه في اليوم التالي بأن يأتي معه لكي يساعده في جر البقرات من مكانها إلى المخيم. قررا أن يذهبا في الساعة الخامسة عصرا، وأعدا العدة للذهاب سيرا على الأقدام. وقبل ذهابه ذهب إلى المدافعين عن بلدة البرج الشمالي ليعلمهم بأنه قرر الذهاب في المساء ليجلب بقراته.
انطلق برفقه عديله واحتميا بأشجار السرو والكزرينا، وكان يطمئن عديله على الطريق بأن يقول له لا تخف أنت معي، فأنا كل يوم احضر إلى هنا وها أنا أمامك حي. كانت الحفر الكبيرة التي أحدثها القصف على مدار الأيام قد غيرت ملامح الطريق. أغصان الشجر المكسرة والمتناثرة كانت إحدى العقبات في طريق العودة، لذا أخذا يزيلان بعضها لتكون عودتهما الليلة بعقبات أقل.
وصلا بعد طول عناء ومشقة إلى مكان البقرات. لم تكن الأحوال تسمح بالانتظار طويلا، فقررا البدء برحلة العودة إلى المخيم مع الأبقار. مشى عديله جارا البقرة الحامل والبقرة الثانية تتبعها وخلفها العجل، في حين كان حسين يحث البقرات على السير بخطوات سريعة.
حوالي التاسعة ليلا اقتربا من مشارف المخيم. تنفسا الصعداء. عادا سالمين، ومعهما عجل وبقرتان، إحداهما حامل.
(*): أم كامل تحوير شعبي لاسم طائرة استطلاع بدون طيار من طراز ام كيه (MK).