مختارات: غازي القصيبي - السعودية
عن الشعر والشعراء
الشاعر في رأيي هو الإنسان الذي منح موهبة التعبير عن تجاريه وانفعالاته بطريقة فنية موسيقية معينة. وقد يكون الشاعر طبيبا أو تاجرا أو مهندسا، وقد يكون ذا اتجاهات يمينية أو يسارية، وقد يكون قصيرا أو طويلا، وقد يمر بك في الشارع فلا تلمح في مظهره ما يدل على شاعرية أو رومانسية. الشاعر فرد كبقية الأفراد، لا يميزه عن غيره سوى القدرة على التعبير الفني الشعري.
غير أن هذه الصورة الساذجة على ما يبدو لا تعجب بعض النقاد والشعراء الذين يتحدثون عن الشعر بلغة أقرب إلى الألغاز، ويتحدثون عن الشاعر كما لو كان مخلوقا خرافيا عجيبا يعيش على القمر، ويضفون عليه من الأوهام والهالات ما يجعل القارئ العادي يتخيل أن الشاعر متميز تميزا لا جدال فيه عن البشر.
ومن الأوهام الشائعة عن الشاعر أنه ارق إحساسا وأرهف شعورا وأعمق عاطفة من بقية الناس. وإذا كان الشعراء معذورين إذا تحمسوا لهذا الرأي وعملوا على إذاعته ونشره، فلست أدري ما عذر الآخرين. لا يوجد ثمة دليل على أن الشاعر أرق من غيره إحساسا. ولعل الذين عرفوا عددا من الشعراء، من خلال معايشتهم لا من خلال قراءة دواوينهم، يدركون أنهم كباقي البشر: عرضة لمختلف أنواع الضعف البشري. من الشعراء من يتميز بأنانية لا حدود لها. ومنهم من يتصرف بقسوة وغلظة. ومنهم من يحب المال حبا يتضاءل أمامه حبه لحوريات الشعر وعذارى القصيد. ومنهم من يلهث وراء كلمة مديح كطفل لمح لعبة جديدة. ومنهم من يفزع من كلمة النقد فزع المرأة من أن ترى امرأة أخرى ترتدي نفس الرداء. والقدرة على الحب والعطاء والإحساس ليست وقفا على الشعراء. بإمكان عباد الله من الناثرين أن يحبوا بعمق وتفان، وان تمر بهم أعمق العواطف وأغزرها، وأن يعيشوا تجارب تفوق أصالتها وروعتها تجارب أعظم الشعراء.
ومن الأوهام التي تحيط بالشعر وتأبى أن تفارقه وهم مؤداه أن الشعر—ولسبب مجهول لم يوضحه أحد بعد—يفوق غيره من وسائل التعبير الفني. وهذا الوهم هو الذي يدفع كل طالب في المدارس الثانوية إلى تجربة حظه مع الشعر. وهو الذي يدفع بعض كتاب النثر الفني إلى الإصرار على أن ما يكتبونه شعرا. وهو الذي يجعل معظم الشعراء يشعرون بشيء من الزهو والتعالي على غير الشعراء. والحقيقة –ومعذرة للشعراء من القراء—هي أن الشعر من حيث المبدأ لا يتمتع بأي ميزة على غيره من وسائل التعبير. وبوسع قطعة نثرية أن تكون أروع وأجمل واعمق أثرا من قطعة شعرية. بوسع مسرحية أن تثير في قارئها من النشوة الفنية ما لا يثيره مائة ديوان، بل إن الكلام العادي الذي يتفوه به إنسان عادي قد يكون في بساطته وعفويته وصدقه أروع من أعمق الرموز الشعرية.
ويتفنن بعض النقاد في وضع قائمة للمواصفات التي يجب أن تتوفر في الشاعر ليحظى برضاهم. ومن هذه المواصفات واحدة تتحول تدريجيا إلى كليشيه، وهي أن الشاعر يجب أن يكون مفكرا عظيما في الوقت نفسه. لا جدال في أن الموهبة المدعمة بثقافة واسعة اقدر على التعبير والإبداع من الموهبة التي تتغذى على نفسها. ولكن الإيمان بهذا الشيء واشتراط أن يكون الشاعر مفكرا عظيما شيء آخر. بإمكان الشاعر أن يكون مبدعا دون فكر عظيم. لقد أهمل التاريخ الأدبي أشعارا لفلاسفة نابغين، واحتفظ بأشعار لمجانين وموسوسين. ولست أدري أي فكر عظيم يختبئ خلف أشعار بودلير أو ريلكة أو بايرون، وأي فكر عظيم عند شعراء معاصرين عرب مثل السياب وناجي وأبو ريشة ونزار قباني؟
ويتواضع بعض النقاد فلا يشترط الفكر العظيم، ويكتفي بأن تكون للشاعر "فلسفة حياتية محددة" أو "رؤية كونية متميزة" أو قدرة على كشف حجب المستقبل والتنبؤ بمصير الحضارات. من النقاد من لا يتمتع بقراءة قصيدة رائعة بحجة أنه لا يجد فيها موقفا للشاعر من الوجود. ومنهم من يعيب على الشاعر لأنه بحث في شعره عن نبوءة مستقبله فلم يجدها، وكأن الشاعر كاهن من الكهان أو بصارة من قارئات البخت. هذه المواصفات لا تقل شططا عن سابقتها، فالشاعر قد يكون فيلسوفا وقد لا يكون. قد يتميز برؤية كونية وقد لا يتميز. قد يقدر على التنبؤ وقد يعجز عنه دون أن يكون في هذا كله ما يرفع من قدر شعره أو يحط منه.
مقطع من مقالة منشورة في كتاب عن هذا وذاك للشاعر السعودي غاري القصيبي. الناشر: تهامة (1981)، الطبعة الثانية. ص 19-21.
- غلاف كتاب لغازي القصيبي
◄ عود الند: مختارات
▼ موضوعاتي