عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

نازك ضمرة - الولايات المتحدة

ثرثرات أبي العدس


نازك ضمرةكان مربي الغنم الشيوعي "أبو العدس" طويلا كثير الحركة والمشاغبة، لم يكن يأتمن أي راع على غنمه، بل يرعى غنماته بنفسه، يصادقها ويرافقها أينما حل، ولضيق المساحات الصالحة للرعي في منطقتنا، اضطر أن يبتعد عن البلدة التي يعيش بها، متنقلا بغنماته التي لا تقل عن خمسين شاة.

الأرض حول قريتنا واسعة وينمو فيها أنواع كثيرة من العشب والنباتات الرعوية، لكن الاحتلال الصهيوني الذي ينتهي طرفه عند قريتنا، منع الناس من استخدام ارض البلدة من الجهة الغربية، حتى يضمن عدم تسلل الفلسطينيين لمواقعه ومشاريعه الزراعية والاستثمارية.

ولسوء حظ الفلسطيني أن رجال الأمن الأردنيين كانوا يلتزمون بقرار العدو، ويتشددون في تنفيذ منع الناس من الاقتراب من تلك السهول الخصبة الجميلة، ويعاقبون أو يتسببون في سجن من يكرر فعلته، فيرسلونه للمحاكمة إلى مركز المحافظة في رام ا لله ليحاكم عسكريا بالسجن لأسبوع أو شهر أو شهرين، لأن المنطقة كانت تخضع للحكم العسكري، بحجة حالة الحرب الراكدة،

كان أبو العدس شيوعيا ينكر المعتقدات الدينية ولا يطيق رؤية رجال الدين، وكان من أجرأ الرجال الذين عرفهم مرزوق، فمن الغرائب الكثيرة التي أفرزتها غلطة هجرة الفلسطينيين لمدنهم وقراهم أن يصبح راعي الغنم شيوعيا، وأكثر ما كان يثير فضول مرزوق أن أبا العدس شبه أمي لا يقرأ ولا يكتب، فكيف استوعب الفكر الشيوعي بين عامي 1948 و1952؟

كان في الثلاثينات من عمره، لا يستطيع قراءة سطر واحد، وربما يستطيع أن يكتب كلمات بسيطة، فكيف صار شيوعيا؟ ومن علّمه المفاهيم الشيوعية؟ ظل هذا مجهولا عند أهل القرية، ولم يخبر أحدا عن معلمه، وبعد أن كبر مرزوق وصار شابا في المرحلة الثانوية، تنبه إلى أن معلم مدرسة القرية كان شيوعيا، ومرزوق وقتها أصبح يلتقي بشباب وشابات في رام الله، من حزب البعث وحزب الإخوان المسلمين والحزب الشيوعي، إذ كان كل حزب يحاول تجنيد أكبر عدد من الشباب للدخول فيه.

كان مرزوق شديد التأثر بتلك الأفكار، ومن طبيعته انه شديد التأثير فيمن حوله وفيمن يتعاملون معه أيضاً، وهكذا عرف مرزوق عن أبي العدس بأنه كان يساريا متطرفا، وضد كل تراث أو تقاليد.

لم ينجرّ مرزوق لمعتقدات أبي العدس، مع أنه كان يحترمه لشجاعته وجرأته في نقد العقليات والأفكار القديمة، ولولا أنه كان ينكر وجود الله ولا يطيق رؤية رجال الدين لتأثر به مرزوق، وانضم للحزب الشيوعي، وليس الأمر كذلك، بل لولا نكرانه لوجود الله بجرأة وصراحة وعدم رهبة، لأثر في معظم شباب القرية، ولجعل معظمهم يتبعونه.

كاد مرزوق أن يتأثر بأفكار أبي العدس، لكن نشأة مرزوق في بيت متدين، وأسرة عريقة في تدينها جعله حريصا في سلوكه وتصرفاته، لكنه يحب التجدد والتجديد، فظل حريصا على المحافظة على التوازن بين التقدم وبين المألوف والتراث، وبين التجديد والتمرد نوعا ما وفي الخفاء.

من أقوال أبي العدس: "إن ترك الفلسطينيين لبلادهم وهجرة أماكنهم، كان غباء وتخلفا، ومثل غنماتي بلا راع".

يجد مرزوق الكثيرين يستمعون لراعي الغنم، برغم أنه من اللاجئين الذين هجروا قريتهم القريبة على الحدود، ويرونها أمام أعينهم عند خط الهدنة، لكنه أصبح في قريتنا شخصاً مألوفا، وله حضور واستماع لما يقوله في المجالس، وأصبح له صديقان أو ثلاثة من الناس المهمين في القرية، ومنهم مرزوق الذي بدأ يصعد في طريق العلم والدراسة الثانوية، وكان أبو العدس يقدر مرزوق ويحترمه، مع أن فارق السن بينهما كبير، أو إن عمر مرزوق كان نصف عمر أبي العدس تقريبا.

حين هرب أهل قرية أبي العدس فزعا من الصهاينة، فعل أبو العدس كغيره: حمل معه غنمه وهاجر كغيره، لكنه عاد واقترب لحدود قريته بعد أن استقر خط الهدنة وهدأت الحروب والاعتداءات الصهيونية على الفلسطينيين، بعد أن أصبحوا جزءا من المملكة الأردنية الهاشمية.

ذلك الانضمام كان بقرارات فردية لا شعبية ولا ديمقراطية، وتلك كانت الطامة الأكبر على الشعب الفلسطيني، إذا أثبت هذا القرار الخاطئ أن الفلسطينيين ليس لهم دولة، ولن يكون لهم دولة بعدها، ليواجهوا طاردهم، والانضمام لدولة الأردن أكد الادعاءات الصهاينة بأنه لم يكن للفلسطينيين في الأصل دولة.

المهم أن أبا العدس استقر في أقرب قرية مجاورة لحدود بلدته، حيث السهول الواسعة بين القريتين والأعشاب والنباتات الكثيرة الصالحة لرعاية الماشية.

كانت النظرة لراعي الغنم أنه أكثر الناس فقرا وجهلا، وعادة ما يكون يتيما أو معدما، أو يعاني نقصا نفسيا أو جسمانيا، أخرس أو أعور أو أعرج، أو انه اقل الناس قيمة واعتباراً في القرية، لكنّ أبا العدس كان سليم الجسم والعقل والمنطق، طويل القامة ممشوقها كأنه عمود مستقيم.

نادرا ما تراه عابسا أو حزينا، قد يتذمر أحيانا لكنه لا يتألم ولا ينتكس، لا يشكو بل لا يتوقف عن محاولة اكتشاف الحقيقة، والتوسع في المناقشة والفهم، وحين اقترب مرزوق منه دار حديث عن النساء والجميلات، فأثار مرزوق أن مزنية لا يستطيع أي رجل الاقتراب منها أو مغازلتها، فقال أبو العدس له مرة:

= إذا لم أنجح في أن أجعل مزنية تحبني فلا أستحق الحياة.

= عشمك مثل عشم إبليس في الجنة.

= هذا الكلام لا يقال لأبي أبو العدس يا مرزوق، ولا أريد أن أقول ستشاهدون، لكن "سيأتيك بالأخبار من لم توصّه".

المهم أن أبا العدس غيّر فكرة الناس عن راعي الغنم، وواصل الناس جلوسهم على جانب الطريق العام، يتحدثون بأمورهم ويومياتهم ومتاعبهم، ويتحدثون ساعات طويلة لقتل أوقات الفراغ التي كان ما أكثرها في تلك الفترة.

يقول أبو العدس: "ومتى كان للوقت أهمية في حياة إنساننا؟"

معظم النساء يضطربن ويخجلن من نظرات الرجال إن كثروا حولها، مع أن العادة كانت حين تمر المرأة في الطريق العام، يخبو صوت الرجال ويهدون، ريثما تبتعد عن مكان جلوسهم، ينتقد بعض الحاضرين أنفسهم وعادتهم تلك في الجلوس على جوانب الطرقات، ومع ذلك يواصلون تلك الجلسات وطقوسها، والبعض يجلسون أمام المسجد،

يلاحق أبو العدس أي تجمع للرجال في أي مكان، للراحة أو للفرح أو في حزن، وكان يشارك في أفراح أهل القرية وأتراحهم، ولا همَ لديه إلا المناقشة والمناكفة والانتقادات اللاذعة، يتدخل في كل موضوع ومع أي شخص من القرية، وبصوت يعلو على أصوات الجميع.

شهد عليه بعضهم أنهم سمعوه أو رأوه يتحدث مع مزنية في الطريق حين يكونا بمفردهما. كثيرون قالوا إنه نجح في نسج صداقات مع نساء عديدات، يتبعهن أو يصدفهن في البراري والقفار، وسبحان كاتم الأسرار! لديه ثقة بنفسه، مما يجعل الناس يستمعون له ولحواراته حتى لو كانت لا توافقهم. وهذا جعل الشاب المراهق مرزوق يسأل نفسه في مواقف كثيرة، كيف تثقف أبو العدس الأمي؟ وهو لم يدخل مدرسة في حياته، حتى أن قريته لم يكن بها مدرسة ولو صغيرة مثل باقي القرى، فمتى تعلم كل هذه الأفكار والمعلومات العامة. يجيب مرزوق نفسه قائلا، "الله أعلم ثانية".

لكن معظم الناس قالوا إن المدرسين اللذين عملا بالتعاقب في القرية خلال السنوات الثلاث الأخيرة صدف أن كانا شيوعيين، حيث كان مقررا للبلدة مدرس واحد فقط، يعلم الأطفال حتى الصف الرابع الابتدائي، ومن أراد مواصلة التعلم فعليه الانتقال إلى مدرسة القرية المجاورة الأكبر، والتي يدرس الطلاب فيها حتى الصف السابع، ثم من أراد مواصلة الدراسة الثانوية فلينتقل إلى مدارس مدينة رام الله أو مدينة البيرة الحكومية إن كان مجتهدا، أو إلى المدارس الأهلية والتبشيرية المكلفة إن استطاع أهله دفع أقساطها.

انتظر مرزوق فرصة انتقاله للمدينة بفارغ الصبر، لكي يتعلم ركوب الدراجة الهوائية لحبه الشديد لهذه الرياضة، يجتهد في كل شيء، ويسابق مرزوق الريح والبشر والسيارات والخيل والبغال والحمير الكثيرة حوله، وبعد تخرجه سيبدأ بالتفكير كيف يمتلك دراجة لنفسه.

كان المدرس الوحيد في القرية يشعر بالملل وبرتابة الحياة وضيقها، لابد أنه كان يتمنى أن يجد شخصا يزوره أو يكلمه وهو الغريب وليس من سكان القرية نفسها، فما أشد حاجة أي غريب إلى من يسهر معه أحيانا!

كان أبو العدس يحمل معه الجبن أو اللبن أو الحليب ويقدمه مجانا للمعلم، لم يكن أبو العدس بخيلا بل كان يقدم الحليب أو اللبن لكل من يحتاجه ومن يطلبه من أهل القرية، أما الجبن فكان يتعب بصنعه هو وزوجته ليبيعه في أسواق المدينة أو يوصله لبيوت الأغنياء الذين خبروا منتجاته، بحثا عن السعر المرتفع.

حتى في الاقتصاد والتسويق كان أبو العدس أعجوبة، فعدا عن أنه كان كما ذكر أكثر من مرة يعجب بنساء المدينة حين يكلمنه وهن بملابس النوم أو ملابس المطبخ، وعندما تتقوى العلاقة بسبب تردده، يدعونه لفنجان قهوة ويجلسن معه، ويصبح له عناوين متعددة في المدينة، يستريح بها، حيث كان يزور المدينة مرتين أسبوعيا.

ومع معرفتنا أن أبو العدس كان جريئا وصريحا، وناقدا مزعجاً، إلا انه لم يكن غشاشا، فكانت الجبن التي يصنعها في بيته من أنقى أنواع الجبن وأنظفها، حسبما قال معظم من اشتروا منه.

عمل المدرسان بالتعاقب على تثقيف أبي العدس ردا على كرمه معهما وتعلم منهما مبادئ الشيوعية. انقسم الناس أيامها وتبعثرت آراؤهم وتشتت بعد الهجرة والضياع الذي عاشه الفلسطينيون. قال الشيخ علي: "تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى".

انتشرت الأحزاب وانشغل الناس بها عن الوطن والهجرة وعن التحدث حتى عن محاولة الاستعداد لمقارعة العدو المغتصب، وعلى أمل الرجوع أو عودة بعض اللاجئين، أو لاسترجاع بعض الأجزاء مما فقدوا، وبعض القرى بقيت خاوية على عروشها مفرغة من سكانها لأكثر من عشر سنوات، ينتظر الصهاينة قرارا أمميا بإجبارهم على قبول عودة بعض اللاجئين الهاربين من الموت، لكن لم يحدث مثل ذلك، فأقدموا على تدمير كل أثر للفلسطينيين في القرى بين مدينتي اللد والرملة وخط وقف إطلاق النار.

يتدخل الحج داود لإيقاف الجدل بين الحاضرين حول الموضوع قائلا:

= أخطأ الفلسطينيون كثيرا، واقترف العرب أخطاء أكبر حين أحجموا عن سرعة تجنيد الفلسطينيين وتسليحهم وتدريبهم للجوء إلى السلاح، بدل التبرع بالكلام بأن جيوشهم ستقوم بتحرير ما احتله الصهاينة، والمفروض أن ذلك تم قبل فوات الأوان، أو لو ليتهم أقاموا دولة على الجزء الذي بقي من فلسطين.

أما أبو العدس فقاطعهم قائلا: "إن من أبشع أخطاء دولتنا الأردنية الجديدة هو منع من أراد من الفلسطينيين حمل السلاح لمقارعة الصهاينة".

لكن الحج أسعد أضاف: "بل قل لاقى الكثيرون منا عنتا ومطاردة وسجونا من الحكومات العربية المحيطة بفلسطين، جزاء محاولات محاربة الصهاينة أو اختراق الحدود دخولا إلى فلسطين. هل نسوا أننا على أرض فلسطين منذ ثلاثة آلاف سنة على الأقل؟ صار كل فلسطيني يدرك خيانة الدول الكبرى وعلى رأسها بريطانيا في فرض إقامة "دولة إسرائيل وبإصدار قرار تقسيم فلسطين من الأمم المتحدة لإقامة دولتين، فلماذا لم يدعموا الفلسطينيين ليقفوا على أرجلهم وليقيموا دولتهم كاليهود؟"

أجابه أبو العدس ساخرا: "احتج العالم أن الفلسطينيين والعرب رفضوا قرار التقسيم، ورفضوا قيام دولة لليهود على جزء من فلسطين، فلا هم كسبوا بلادهم الأصلية ولا صار لهم شخصية ودولة على الباقي من فلسطين، فثبت العالم إسرائيل وخلعوا الشأن الفلسطيني من عقولهم، فهل قرأوا قصة التحكيم بين علي ومعاوية؟ ولو بذلت دولة واحدة، عربية أو أجنبية مجهودا صادقا لأقنعت الفلسطينيين بإقامة دولتهم على أي أرض بقيت، أو حسب خطوط الهدنة الدولية التي افرها العالم البعيد، حكام معظم الشعوب الأخرى قالوا إن الأيام كفيلة بإيجاد حلول للنزاع المرير بين الفلسطينيين واليهود".

انشغل الناس بتأمين السكن المؤقت والغذاء بعد إتمام التهجير القسري، ثم والأدهى من ذلك انشغالهم بالأحزاب في تلك الظروف الصعبة، فأشغلهم ذلك عن مشكلتهم الأساسية، وهي ضياع الوطن والتهجير، ولم يكن من بين تلك الأحزاب حزب واحد انبثق في فلسطين ولا في الأردن حيث استقرّ معظم الفلسطينيين. طال انشغال الناس بمثل تلك الخلافات و"دولة إسرائيل" حديثة الولادة تستوعب المهاجرين من مختلف أنحاء العالم، وتوطنهم في كل موقع في فلسطين.

وأبو العدس ظل يكبر وتتحسن حالته المادية. غيّر مكان سكنه في القرية، وانتقل إلى عمان، ليفاجئ معارفه وأصدقاءه، بأنه يمتلك فيلا جميلة واسعة في موقع مميز في أحد جبال عمان، عاصمة الأردنيين والفلسطينيين.

D 1 حزيران (يونيو) 2019     A نازك ضمرة     C 0 تعليقات