عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » أرشيف الأعداد الفصلية: 2016- » أعداد السنة 12 » العدد الفصلي 05: صيف 2017 » بنية الزمن في المجموعة القصصية بهية لمرزاق بقطاش

د. فريال طيبون - الجزائر

بنية الزمن في المجموعة القصصية بهية لمرزاق بقطاش


يؤدّي الزمن دورا مهمّا في بناء القصّة؛ فهو يكسبها الحيوية والتدفق والاستمرارية، كما يعمل على منح الأحداث عنصر التشويق، ويؤثر في تكوين الشخصية جسديا ونفسيا، كما يرتبط بالمكان ارتباطا وثيقا. والأديب يختار نقطة الصفر التي يبتدئ بها سرد قصّته محاولا الحفاظ على تسلسل الأحداث، ولكن يرغم أحيانا على التقديم والتأخير في ترتيب الأحداث، وهذا ما يسمّى المفارقة الزمنية.

=1= المفارقة الزمنية:

وهي الخروج عن الترتيب الطبيعي للزمن والتسلسل المنطقي للأحداث، سواء بعودة الأحداث إلى الوراء، أو محاولة استشراف مستقبل شخصية، وهي نوعان: الاسترجاع؛ والاستشراف (الاستباق).

=أ= الاسترجاع:

يتمثل في إيقاف السارد لمجرى تطور الأحداث، ليعود لاستحضار وقائع ماضية. يقول حسن بحراوي: «إن كل عودة للماضي تشكل، بالنسبة للسرد، استذكارا يقوم به لماضيه الخاص، ويحيلنا من خلاله على أحداث سابقة عن النقطة التي وصلتها القصّة»[1].

وينقسم الاسترجاع إلى ثلاثة أقسام وهي: استرجاع خارجي، ويعود إلى ما قبل بداية القصّة؛ واسترجاع داخلي، ويعود إلى ماض لاحق لبداية القصّة؛ واسترجاع مزجي، وهو ما يجمع بين النوعين. وكلّ مفارقة تتّسم بالمدى والاتساع، حيث أنّ المدى هو المسافة الزمنية التي تفصل بين لحظة توقف الحكي ولحظة بدء المفارقة. أمّا الاتساع فهو المسافة الزمنية التي تستغرقها المفارقة.

يضيف حسن بحراوي: «فإذا كان مدى الاستذكار يقاس بالسنوات والشهور والأيام، فإنّ سعته سوف تقاس بالسطور والفقرات والصفحات التي يغطيها الاستذكار من زمن السرد بحيث توضح لنا الاتساع التـيـبوغرافي الذي يمثله في الخطاب الخطّي للرواية»[2].

مرزاق بقطاشفي المجموعة القصصية «بهية» لمرزاق بقطاش، تصادفنا قصّة بهية وهي امرأة جميلة أفنت عمرها في خدمة زوجها وأولادها ولكن أصيبت بمرض عصبي دفعها إلى الانتحار، فكان خبر موتها مصيبة عظيمة وقعت على عائلتها؛ حاول القاص من خلال ذلك أن ينقل للقارئ آثار انتحار بهية على زوجها وبقية أهلها. وقد تخلّلت هذه القصّة بعض الاسترجاعات، التي حاول زوجها من خلالها أن يتذكر ماضيها والأيام الجميلة التي قضتها بينهم ومن ذلك قوله:

«وقعت عينا الشقيق الأصغر عليها لأوّل مرة ذات صائفة حارّة وقد تصبّب العرق على خديها، كانت عائدة لتوّها من قلب المدينة الصاخبة، ولم يذهب به الظن أبدا إلى أنّها قد تصير في يوم من الأيام زوجة لشقيقه»[3]، وهو استرجاع خارجي ذو مدى طويل يعود لأكثر من خمس وثلاثين سنة حين تعرّف على زوجته. وسعة هذا الاسترجاع ثلاثة أسطر.

وفي آخر القصّة يحاول أفراد الأسرة أن يتجرّعوا مرارة صدمة موت بهية ويتقبلوها، فيصور الراوي مدى الحسرة التي كانت بادية على أفراد عائلتها، وخاصة أنّهم نقلوا جثمانها في شاحنة مخصصة لنقل صناديق السردين، ما زاد من حسرة وألم هذه العائلة:

«في المساء، حين اجتمع شمل العائلة، ظلّ الشقيق الأكبر صامتا، لا يدري كيف يخاطب المعزّين، أمّا الأصغر فتذكر ما قالته الفقيدة بعد ثالث يوم من العرس: لم: يا تراكم، لم تضعوا باقة ورود في مقدمة السيارة؟ ثمّ ابتسم واستذكر رائحة السردين داخل الشاحنة التي أقلّت جثمان الفقيدة»[4].

وهذا استذكار مزجي حيث مزج فيه الراوي بين استذكار خارجي وهو يوم العرس واستذكار داخلي يبلغ مداه عدّة ساعات فقط من وقت دفن جثة بهية، وسعته ستة أسطر حاول فيها الشقيق الأصغر أن يسترجع ببعض الألم والحزن يوم زفاف أخيه ويوم دفن بهية. وهنا تكمن المفارقة الغريبة بين سيارة العرس والشاحنة المحملة بالسردين.

في قصّة أخرى تحت عنوان «ذات العينين الشهلاوين»، حاول الكاتب من خلالها أن يحكي قصة أمّ قدّر عليها أن تعيش طويلا لتشهد وفاة ولديها معا ما ساهم في حزنها وألمها، فكان موت ولدها الثاني وجنازته مدعاة لاسترجاع طويل حاول من خلاله بطل القصّة أن يذكر وفاة عمّه في فرنسا، ومن خلال ذلك أراد أن يوضّح مدى فجيعة هذه الأمّ بولديها اللذين فقدتهما معا:

«كان والدي يكلّف والدتي بإعداد الكسكسي المفتول، وينقله بنفسه إليه على متن السفينة التي يعمل على ظهرها. وإذا ما تعذر عليه ذلك، وكانت وجهته إلى ميناء آخر، أوكل المهمة إلى أحد زملائه من البحارة. هي عادة درج عليها منذ عام 1935م، أي منذ أن استقر المقام بشقيقه في مرسيليا إلى حين وفاته»[5]. هذا استرجاع خارجي ذو مدى طويل يعود إلى 1935م، سعته أربعة أسطر.

في قصّة مأساوية أخرى تحت عنوان «البحر يشيّع جنازته»، يذكر الراوي حكاية فتاة يتيمة فقيرة تعمل في حانة يملكها أحد الأغنياء الذي سرعان ما طردها بحجّة أنّها لا تستطيع إرضاء جميع الزبائن، فتعيش مشردة في شوارع العاصمة لا تجد ما تأكله أو حتّى مأوى تبيت فيه، ويستمرّ الحال معها بهذا الشكل حتّى يعثر عليها ميّتة متأثرة بمرض خطير في الرئتين.

وقد التقاها بطل القصّة قبل موتها بأسابيع عند شاطئ البحر الذي غالبا ما كانت تأتيه لتلقّي أشعة الشمس علّها تشفيها من سعالها الشديد، رآها الراوي فتذكر أنّها كانت تعمل في حانة فاقترب منها وجرى بينهما حوار طويل:

«أبصرت بها خلال الصائفة الماضية داخل حانة تقدّم المشروبات للزبائن. بدت لي ربلة مكتنزة، وعلى وجهها بعض المساحيق التي لم تحسن بسطها. كانت تتحرك برشاقة مصطنعة، غير أنّ حركاتها تلك كانت لفتاة تريد أن تنال قوّتها وسط أناس يريدون التهامها كلّما مرّت بالقرب من طاولاتهم»[6]. وهذا استرجاع خارجي أيضا ذو مدى طويل يعود إلى صائفة سابقة عن لحظة الحكي سعته أربعة أسطر.

وقد أدّت هذه الاسترجاعات عدّة وظائف داخل المجموعة القصصية بحيث ساهمت في تقديم معلومات تكميلية عن الشخصيات وخاصّة الرئيسية منها، وإضاءة جزء من ماضيها لتتضح بعض الأمور التي كانت تبدو غامضة للقارئ، وأيضا لمقارنة الماضي بمستجدات الحاضر.

=ب= الاستشراف (الاستباق):

وهو تقنية من تقنيات المفارقة الزمنية وفيها يقوم الكاتب بالتطلع إلى المستقبل وما هو متوقع أو محتمل الحدوث في القصة؛ وهو نوعان: استباق داخلي يحدث داخل القصّة، واستباق خارجي يخرج عن أحداث القصّة ويتجاوزها.

«على المستوى الوظيفي تعمل هذه الاستشرافات بمثابة تمهيد أو توطئة لأحداث لاحقة يجري الإعداد لسردها من طرف الراوي فتكون غايتها في هذه الحالة هي حمل القارئ على توقع حادث ما أو التكهن بمستقبل إحدى الشخصيات (...)، كما أنّها قد تأتي على شكل إعلان عمّا ستؤول إليه مصائر الشخصيات مثل الإشارة إلى احتمال موت أو مرض أو زواج بعض الشخوص»[7].

وللاستشراف وظيفتان: الأولى تتعلّق بما هو تمهيدي الهدف، منها التطلع إلى ما هو محتمل الحدوث في أحداث القصّة، في حين يؤدّي النوع الثاني وظيفة الإعلان عندما يصرّح عن سلسلة أحداث سيشهدها السرد في وقت لاحق.

تحكي قصّة «وخلت الطريق» أحداث العشرية السوداء الدموية في الجزائر، وكيف فقد الإنسان ثقته بغيره بل حتّى بأقرب الناس إليه، فبطل القصّة يفقد ابن عمّه جمال الذي قتله قريب له ينتمي إلى جماعة إرهابية متطرفة، وقد كان ابن عمّه جمال شرطيا في زيّ مدني، وحتّى بطل القصّة تعرض لمحاولة اغتيال في نهاية القصّة، وقد حذّره عمّه أعمر من إمكانية اغتياله، عبر الحوار التالي الذي كان بمثابة استباق داخلي وظيفته الإعلان لما سيحدث لاحقا:

«ويقول لي بالحرف الواحد: خذ حذرك يا بني! وكيف آخذ حذري، يا عمّي أعمر! الذين نحذرهم موجودون بيننا، وهم على استعداد للفتك بنا في أيّة لحظة!»[8]

وهذا ما حدث فعلا ولكنه نجا منها: «وبعد أشهر ثلاثة، جاء من يطلق الرصاص علي، أنا، في قلب الحي، غير بعيد عن المكان الذي سقط فيه ابن عمّي أعمر صريعا»[9]، فكان هذا بمثابة استباق إعلاني لما سيحدث في نهاية القصّة.

أمّا قصّة «الخروج من البرزخ» فتروي أحداث معاناة وعذاب زوج تسافر زوجته لإجراء عملية قلب مفتوح، وكانت إمكانية فشل هذه العملية كبيرا وخاصّة وأنّ والدتها توفيت للسبب نفسه، فيلاحظ على هذا الزوج الخوف الشديد ومعاناة انتظار طويل لما ستؤول إليه نتيجة هذه العملية، وخاصّة فيما يتعلّق بمصير أولاده الصغار:

«سمائي أنا تلبدت بغيوم لا تريد أن تنقشع إلاّ بعد انقضاء النهار كله، الخبر السار أو المفجع سيأتيني من باريس بعد الساعة الخامسة عصرا»[10]. هذا استباق داخلي وظيفته إعلان عن نتيجة العملية الجراحية، فإمّا أن تنجح أو تفشل فيفقد زوجته إلى الأبد.

ولكنّه لم ينتظر طويلا، فسرعان ما جاءت الجارة بالخبر اليقين والسعيد فقد نجحت العملية: «وها هو الخلاص يجيء من حيث لا ينتظره الإنسان. سمعت صرير الباب الخارجي، وإذا بأنظاري تقع على جارتنا وهي تبتسم بفعل سرور غامر. ما الذي دهاها، يا ترى، فترسل تلك الابتسامة، في تلك اللحظات بالذات؟ قالت وهي تدخل المطبخ حيث توجد أمي: لقد أفاقت من رقدتها. العملية الجراحية تمّت بسلام!»[11]. وهكذا كان هذا الاستباق الإعلاني بمثابة مفاجأة سارّة لهذا الزوج.

وكذلك يلاحظ استباق كتمهيد في نفس القصّة وهو استباق خارجي في قوله: «جميع تلك الزهرات ستتحول بعد بضعة أسابيع إلى حبات من البرقوق الأصفر، وسيذوب هذا البرقوق في الفم، وسيجمع بمذاقه الفريد بين السمن والعسل. هذه حقيقة أطلعني عليها الكثير من الناس الذين تذوّقوه. يا ترى؟ هل سيكون من نصيب زوجتي أن تتناول هذه الحبات بعد انتهاء فصل الربيع؟»[12]. هو يتكلم عن أحداث خارج مجال القصّة، بل يظل مجرّد استباق تمهيدي لما سيحدث لاحقا بعد عودة زوجته من فرنسا.

وكانت وظيفة الاستباق داخل المجموعة القصصية أنّه ساهم في التنبؤ لما سيحدث للشخصيات في المستقبل.

=2= حركة الزمن السردي (سرعة النّص وبطئه):

وتسمّى أيضا الديمومة وتعدّ المستوى الثاني من مستويات الزمن بعد الترتيب، ويطلق عليها كذلك المدّة، وترتبط بإيقاع السرد من حيث السرعة أو البطء.

=أ= حركة تسريع السرد: وتتمثل بـالخلاصة والحذف، وهاتان الحركتان تساعدان على تسريع حركة السرد.

الخلاصة: تعتبر تقنية سردية، تعمل على تسريع الأحداث وذلك من خلال سرد أحداث فترة زمنية طويلة في مساحة نصية قصيرة. يقول الدكتور حميد لحمداني: «وتعتمد الخلاصة في الحكي على سرد أحداث ووقائع يفترض أنّها جرت في سنوات أو أشهر أو ساعات، واختزالها في صفحات أو أسطر أو كلمات قليلة دون التعرض للتفاصيل»[13].

تحكي قصة «لقاءات بحرية» حياة ثلاثة عجائز يلتقيهم بطل القصّة على شاطئ البحر فتنشأ بينه وبينهم صداقة ساهمت في بوحهم إليه بآلامهم ونظرتهم للواقع الحاضر والمستقبل، وقد قدّم الراوي ملخّصا عن حياتهم ومن ذلك هذا المقتطف:

«عرفت من بعض الناس أنّه كان صيادا ماهرا على متون السفن، وأنّه كان في بعض الأحيان ينتقل صوب مرسيليا لابتياع الألبسة الصينية الزرقاء ويعيد بيعها لبعض الذين يختلفون إلى المقاهي المطلّة على الأميرالية على غرار عمال الأرصفة في هذه الجهة من البحر الأبيض المتوسط»[14].

لخّص الراوي حياة هذا الصياد العجوز الذي يبلغ ثمانين سنة في أربعة أسطر. كما يقدّم الراوي في قصّة «البحر يشيّع جنازته» أمثلة على بعض الفقراء والمشردين من مجتمعنا الجزائري ومنهم هذا الشاب المسكين الذي فقد حياته بطريقة مريعة، يقول الراوي في هذا الصدد:

«في هذه الأثناء، لقي شاب مصرعه تحت عجلات سيارة في الشارع المطلّ على البحر. ما كان له أهل هو الآخر، بل جاء من مدينة مروانة، شرقي الجزائر وعمل في حراسة السيارات. لكن مأساته هو أنّه مضطرب العقل، ويتّضح ذلك من عينيه الحولاوين. صدمته سيارة في قلب الليل، ولم يتوقف صاحبها. وجد نفسه جثّة هامدة لا يسعى أحد إلى دفنها»[15].

حاول الراوي هنا أن يلخص حياة هذا الشاب الفقير المشرد في خمسة أسطر وكيف لقي مصرعه بطريقة مؤلمة تحت عجلات سيارة يقودها شاب طائش. وقد ساهمت الخلاصة عموما في المرور السريع على فترات زمنية طويلة وكذلك في تقديم الشخصيات.

الحذف: هو تقنية سردية تعمل على تسريع السرد فهي تقوم بإسقاط فترة زمنية من القصّة وعدم التطرق لما جرى فيها من أحداث. يضيف حسن بحراوي: «يلعب الحذف إلى جانب الخلاصة دورا حاسما في اقتصاد السرد وتسريع وتيرته، فهو من حيث التعريف تقنية زمنية تقضي بإسقاط فترة، طويلة أو قصيرة، من زمن القصّة وعدم التطرق لما جرى فيها من وقائع وأحداث»[16].

والحذف ينقسم إلى نوعين: حذف محدد أو معلن؛ وحذف غير محدد أو غير معلن.

حذف محدد أو معلن: أي تحديد الفترة الزمنية بصورة صريحة ويكون هذا التحديد بعبارات موجزة جدّا لحجم المدّة المحذوفة من القصّة «أي على نحو بارز لا يجد القارئ معه أدنى صعوبة في متابعة السرد. فما عليه هنا سوى خصم هذه الفترة من حساب القصة ومواصلة القراءة وكأنّ شيئا لم يقع»[17]، كما يشرح حسن بحراوي.

حذف غير محدد أو غير معلن: فيه ينتقل السارد من فترة إلى أخرى وهو غير مبال بتحديد حجم المدّة الزمنية المتخطاة «فتكون فيه الفترة المسكوت عنها غامضة ومدّتها غير معروفة بدقّة (بعد سنوات طويلة؛ بعد عدّة أشهر) ممّا يجعل القارئ في موقف يصعب فيه التكهن بحجم الثغرة الحاصلة في زمن القصّة»[18]، كما يرى حسن بحراوي.

في قصّة «بهية» يلاحظ أنّ زوج بهية لا يتذكر من ماضيه سوى يوم عرسه حين عاتبته زوجته بسبب سيارة العرس التي كانت تخلو من الورود التي غالبا ما تزين بها سيارات الأعراس، فالراوي هنا حذف مسافة زمنية طويلة قدرها خمسة وثلاثون عاما لم يذكر فيها حياة بهية بل لم يتذكر إلا ليلة زفافها فقط:

«من باقة الورود إلى رائحة السردين مسافة زمنية قدرها خمسة وثلاثون عاما هي العمر الذي قضته في بيت الزوجية»[19]. هذا حذف محدد معلن مدته خمس وثلاثون سنة مرّت على هذا الزواج، وقد أسقط الراوي الحديث عمّا حدث في هذه السنوات الطويلة كونه لا يخدم السرد.

ومن الحذف المعلن والصريح أيضا ما جاء في قصة «لقاءات بحرية» حين غاب صديق بطل القصّة ثلاثين سنة ثم التقاه بعد ذلك وقد أصبح عجوزا:

«وشاءت الأقدار أن يختفي عن أنظاري مدّة ثلاثين عاما بالضبط وعندما التقيت به للمرّة الأخيرة، كان ذلك في ميناء سيدي فرج الترفيهي الواقع غربي الجزائر العاصمة. لم يفارقه البحر طيلة حياته لكأنّما هو أمه التي ولدته وظلّت ترعاه. كان قد بلغ السابعة والثمانين، لكنّه ظلّ على نظافته الجسدية وأناقته»[20].

هذا حذف معلن محدد دام ثلاثين سنة حذفها الراوي كونها لا تخدم النص القصصي، فما يهمّ هو معرفة ما آلت إليه أحوال هذا العجوز بعد هذا الغياب الطويل.

وثمة حذف معلن ومحدّد آخر في قصّة «ذات العينين الشهلاوين» حيث ذكر بطل القصّة كيف انتقم عمّه من قاتل أبيه : «أبصر بالقاتل وهو ابن ثمانية أعوام، انتقم لوالده بعد أن بلغ ستّة عشر عاما»[21]. هناك فترة زمنية محذوفة قدرها ثمانية أعوام رأى الراوي أنّها لا تخدم السرد فحذفها.

وهناك حذف آخر في قصّة «البحر يشيّع جنازته»، فبعد آخر لقاء للراوي بالفتاة المتشردة التي طردت من الحانة بعد أسابيع لم تذكر مدّتها ازدادت صحّة هذه الفتاة سوءا ما أدّى إلى وفاتها: «ومضت بضعة أسابيع قبل أن يبلغني الخبر المفجع. وجدت الفتاة المسكينة جثة هامدة فوق كتلة من الورق المقوّى»[22]. هنا حذف غير معلن ومحدد يبلغ مجموعة من الأسابيع فقط.

=ب= تقنيات إبطاء السرد: المشهد والوقفة

هما الطرف الثاني المقابل لتقنيات تسريع السرد. يقول عنهما حسن بحراوي: «إنّ المشهد الدرامي والوقفة الوصفية هما النقيضان العضويان، من جهة زمنية، للسرد التلخيصي ولتقنية الحذف»[23].

المشهد: وهو أحد تقنيات الإبطاء السردي التي تعمل على كسر رتابة السرد من خلال الحوار الذي يسند من خلاله السارد الكلام للشخصيات، للتعبير عن آرائها المختلفة وتوجهاتها وردود أفعالها، ومن خلاله يستطيع الباحث كشف الطبائع النفسية لكلّ شخصية. وكما يشرح بحراوي، «يقوم المشهد أساسا على الحوار المعبر عنه لغويا والموزع إلى ردود متناوبة كما هو مألوف في النصوص الدرامية. وقد لا يلجأ الكاتب إلى تعديل كلام الشخصية المتحدثة فلا يضفي عليه أية صبغة أدبية أو فنية وإنّما يتركه على صورته الشفوية الخاصة به»[24].

ومن المشاهد الحوارية التي دارت بين الشخصيات ما جرى بين بطل قصّة «لقاءات بحرية» وأحد العجائز الذين التقى بينهم في الأميرالية:

«خطا بضع خطوات للعودة من حيث أتى، فابتدرته مرّة ثانية، سائلا إيّاه: هل تريد حاجة معينة في هذا المكان؟ (...) قال دفعة واحدة: لقد تاقت نفسي إلى تـناول بعض القواقع البحرية! وعدني أحد الفتيان بأن يستخرجها لي من أعماق البحر ولكنّه لم يف بوعده، ضحكت عندئذ وقلت له مطمئنا إياه: أذلك كلّ ما تريده من هذه الجهة البحرية؟ هزّ رأسه أن نعم كأنّه يتحداني أن أحقّق له رغبته»[25].

كشف هذا المشهد عمّا يجول في نفس الشخصية، وكان هذا الحوار وسيلة تحقّق بها أمل هذا العجوز في تناول بعض القواقع البحرية.

ومشهد آخر من نفس القصّة وكان أيضا بين بطل القصّة وعجوز آخر تعرّف عليه على شاطئ البحر:

«حين بلغنا آخر البلدة البحرية سألته: أتراك تحتاج شيئا آخر؟ أتريد أن أشتري لك علبة من السجائر؟ (...) كرّرت عليه السؤال: أتراك تريد شيئا آخر؟ وردّ عليّ قائلا: إنّني أريد قبرا في أسرع وقت! ما عادت الحياة تحتملني، وما عدت أحتملها بدوري»[26].

وقد ساهم هذا الحوار أيضا في كشف نفسية هذا العجوز الذي بدا يائسا من حياته إلى درجة أنّ أمنيته الوحيدة كانت رغبته في الموت.

في قصة «الخروج من البرزخ» تصادفنا مشاهد كثيرة ولكنها عبارة عن مونولوجات عبّر من خلالها بطل القصّة عن خوفه وقلقه من فشل العملية الجراحية التي قامت بها زوجته في فرنسا:

«لمن تكون الغلبة، يا ترى؟ هل يقضي عليها المرض؟ هل تعود سليمة معافاة بعد أيام؟ هل تلفظ الروح تحت مباضع الجراحين في باريس؟ وما الذي سأفعله بأطفالي الثلاثة في حال موتها؟ هل أتزوج مرّة ثانية؟ هل ستكون الزوجة القادمة أهلا للاضطلاع بأولادي، أم إنّها ستكون على غرار جميع الزوجات اللواتي يتعين عليهن القيام بشؤون أطفال ليسوا من أصلابهن؟»[27]

هنا ساهم المونولوج في الكشف عن نفسية هذا الزوج وإظهار مدى قلقه وخوفه على زوجته المريضة وعلى مصير أبنائه إذا توفيت.

ومونولوج آخر يلاحظ في قصّة «البحر يشيّع جنازته» عبّر من خلاله بطل القصّة عن أسفه على المجتمع الجزائري الذي فقد الكثير من المعاني الجميلة كالتآزر والتعاون والرحمة: «وهل تحسب نفسك عمر بن الخطاب، يا هذا؟ إذا كان عمر اعتبر نفسه مسؤولا عن بغلة تعثرت في الطريق بالقرب من بغداد، فذلك شأنه، أمّا أنت فلا يمكنك أن تلقي بالتبعة على أحد فيما يتعلق برحيل الفتاة والفتى»[28].

ومن وظائف المونولوج داخل المجموعة القصصية أنّه ساهم في الدخول إلى أعماق الشخصية وفهم ما يجول في داخلها.

الوقفة: وهي الحركة الأخرى التي تعمل على إبطاء حركة السرد، فالوصف بمثابة قطع لتسلسل الأحداث في الرواية حيث يتوقف السارد فاسحا المجال للوصف الذي يحيط بالأماكن والشخصيات.

يقول حميد لحمداني: «أمّا الاستراحة فتكوّن في مسار السرد الروائي توقفات معينة يحدثها الراوي بسبب لجوئه إلى الوصف، فالوصف يقتضي عادة انقطاع السيرورة الزمنية، ويعطل حركتها»[29].

من خلال دراستنا للمجموعة القصصية نجد أنّها مليئة بالوقفات الوصفية فلا يكاد مرزاق بقطاش يمرّ على شخصية من شخصيات روايته إلاّ ووقف معها وقفة وصفية ليوضح بعضا من خصائصها الجسمانية والنفسية، ولا يكاد يتوقف على مكان إلاّ وقدّمه لنا بوصف دقيق لكلّ زاوية من زواياه.

في قصّة «بهية» يتوقف الراوي عن السرد ويشرع في وصف بطلة القصة بهية ويركّز على شكلها قائلا: «أشدّ ما يلفت الناظر إليها وجهها المدور، كيف اكتفت العينان باحتلال مساحة ضيقة بالقياس إلى الجبهة المسطحة العريضة والخدين المكتنزين؟ لكنها عوّضت عن هذا النقص بلسانها الذرب الطليق. فكلّ من يخاطبها في هذا الشأن أو ذاك ينجذب إلى صوتها الذي يخرج متسارعا من حلقها كأنّما تريد أن تسابق عليه الوجود كلّه»[30]. هنا جاء وصف لملامح بهية بدقّة كبيرة.

كما يتوقف عن السرد ليصف أحد العجائز في قصّة «لقاءات بحرية» الذين تعرف عليهم في أميرالية البحر. وكانت هذه الوقفة الوصفية شاملة للشخصية على كلّ المستويات:

«طويل القامة، نحيفها، لكنّه، ما زال صلب العود، وفيه بقايا من قوّة جسدية سابقة. على وجهه لحية خفيفة تكشف عن آلامه وأحزانه أكثر مما تفصح عن شيخوخة ما عاد يتحملها، يضع سترته على كتفيه دون أن يدخل فيها ساعديه، ويحدث له أن يضع عقب سيجارة على أطراف شفتيه دون أن يشعله. تلك هي عادته التي درج عليها إذ أنه ما كان مدخنا كبيرا، يحب القهوة المرة، ويحب تعريض رأسه للشمس في الصباح الباكر»[31].

الوصف في هذه الوقفة لا يتوقف عند حدود الملامح الجسدية، وإنّما يلجأ إلى الدخول في أعماقها، والكشف على ما تحتويه في داخلها.

ويلاحظ كثرة الوقفات الوصفية في قصص مرزاق بقطاش خاصّة إذا تغلّق الأمر بالشخصيات الرئيسية في القصة للكشف عن حياتها وعن جوانبها النفسية والفكرية كما هو الأمر مع شخصية أعمر في قصّة وخلت الطريق:

«أراه صباح كل يوم يصعد السلالم الضيقة التي تقوم بين داره الصغيرة والشارع الرئيسي في حينا، نفس البرنوس البنّي الذي تعاورته أشعة الشمس وعصفت به رياح الخريف والشتاء. نظارتان سوداوان تغطيان عينيه لكي يتفادى ضوء النهار وغبار الطريق الصاعدة، يقف في نفس المكان دائما وأبدا، ولا يحبّ الاختلاف إلى بقعة أخرى حتى وإن كان فيها بعض من معارفه القدامى من أهل الحي. (...) كان يمضي ما يقارب ساعة في وقفته بالرغم من أنّه تجاوز السبعين من العمر وقلّما يرد التحية على من يسلّم عليه»[32].

هنا يبدو جليا إحاطة الراوي بشخصية أعمر في جميع تفاصيل حياته. كما قد يتوقف الراوي عن السرد ويشرع في وصف مكان معيّن وخاصّة البحر والميناء وأميرالية الجزائر كما حدث في قصّة «لقاءات بحرية» عندما يقول:

«الأميرالية ما زالت متينة البنيان بطابعها العثماني مع بعض التحويرات التي أدخلها المهندسون الفرنسيون عليها. تقف منذ خمسة قرون صامدة، وتواجه البحر حين يسخط ويثور في معركته الأبدية مع كاسرات الأمواج. قبل قدوم الغزاة الفرنسيين، كانت بنايات الأميرالية بمثابة قلعة عتيدة في مواجهة قراصنة أوروبا. وجاء زمن فصارت لبضع سنوات موئلا لبعض الذين خانهم الزمن، وادلهمت الخطوب في وجوههم»[33].

هنا وصف جميل للأميرالية يجعل القارئ يسافر بعيدا في الزمن للكشف عن تاريخها العريق. ومن أمثلة وصف المكان أيضا ما يلاحظ في قصّة «ذات العينين الشهلاوين» من وصف لمنظر جميل في البيت الذي يسكنه بطل القصّة:

«رحت أتأمل شجرة التين التي تتوسط صحن الدار. راقني منظر الأوراق وهي تصفر فيما يبقى بعضها يصارع وطأة الخريف وقطرات المطر التي تساقطت خلال الأيام الأخيرة»[34].

هنا يقدّم الراوي وصفا لفصل الخريف وتأثيراته على الطبيعة وعلى شجرة التين الموجودة في فناء منزله، ويحاول الربط بين تساقط أوراق هذه الشجرة ووفاة عمّه في الغربة. وقد أدّى الوصف وظيفتين: الأولى جمالية تمثلت في كونه كان استراحة في وسط الأحداث السردية، كما هو الأمر حين تطرّق الروائي إلى وصف بعض الأمكنة في المجموعة القصصية. أمّا الوظيفة الثانية فكانت تفسيرية، حيث ساهم الوصف في الكشف عن الأبعاد النفسية والاجتماعية للشخصية.

وختاما فقد أدّى الزمن دورا مهمّا في بناء قصص مرزاق بقطاش، فقد ساهم انفتاح قصص بقطاش على الأزمنة الماضية في الكشف عن عمق ما تعيشه الشخصيات من اضطراب وقلق. وسمحت الاستباقات بنوعيها باستشراف مستقبل الشخصيات والإعلان عن قلقها اتجاه ما سيأتي به المستقبل. وحظيت القصص بنصيب وافر من تقنيات تواتر السرد من حيث السرعة أو البطء، فقد لخّص الراوي الأحداث الثانوية في عدّة جمل وأسطر، كما لجأ إلى الحذف للتخلص من الفترات الزمنية غير المهمّة، وقدّم مساحات كبيرة للمشاهد لإبراز توجهات شخصياته المختلفة وإظهار وجهات نظرها. كذلك، تنوعت الوقفات الوصفية في القصص الموجودة في المجموعة، وساهمت في تبطيء حركة السرد.

= = =

الهوامش

[1] حسن بحراوي، ببنية الشكل الروائي (الفضاء- الزمن- الشخصية)، المركز الثقافي العربي، بيروت- لبنان، ط1، 1990م، ص 121

[2] المرجع نفسه، ص 125-126

[3] مرزاق بقطاش، «بهية» (مجموعة قصصية)، دار الأمل للطباعة والنشر والتوزيع، تيزي وزو- الجزائر، دط، دت، ص 04

[4] المصدر نفسه، ص 10

[5] المصدر نفسه، ص 73

[6] المصدر نفسه، ص 113 [

[7] حسن بحراوي، ببنية الشكل الروائي (الفضاء- الزمن- الشخصية)، ص 132

[8] المصدر نفسه، ص 70

[9] المصدر نفسه، ص 70

[10] المصدر نفسه، ص 84

[11] المصدر نفسه، ص 89-90

[12] المصدر نفسه، ص 88

[13] حميد لحمداني، بنية النصّ السردي من منظور النقد الأدبي، المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر والتوزيع، ببيروت- لبنان، ط1، 1991 م، ص 76

[14] مرزاق بقطاش، بهية، ص 45-46

[15] المصدر نفسه، ص 117

[16] حسن بحراوي، ببنية الشكل الروائي (الفضاء- الزمن- الشخصية)، ص 156

[17] المرجع نفسه، ص 157

[18] المرجع نفسه، ص 157

[19] مرزاق بقطاش، بهية، ص 03

[20] المصدر نفسه، ص 57

[21] المصدر نفسه، ص 74

[22] المصدر نفسه، ص 118

[23] حسن بحراوي، ببنية الشكل الروائي (الفضاء- الزمن- الشخصية)، ص 165

[24] المرجع نفسه، ص 166

[25] مرزاق بقطاش، بهية، ص 47

[26] المصدر نفسه، ص 53-54

[27] المصدر نفسه، ص 81-82.

[28] المصدر نفسه، ص 120

[29] حميد لحمداني، بنية النصّ السردي من منظور النقد الأدبي، ص 76

[30] مرزاق بقطاش، بهية، ص 03

[31] المصدر نفسه، ص 51

[32] المصدر نفسه، ص 67

[33] المصدر نفسه، ص 43

[34] المصدر نفسه، ص 73

D 1 حزيران (يونيو) 2017     A فريال طيبون     C 0 تعليقات