عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

فنار عبد الغني - لبنان

ما وراء الصمت


فنار عبد الغنيمن بين الخطوط الشفافة، المتعرجة، الطويلة، الصاعدة والهاربة من بين شفتيه، ومن بين الخطوط المتعرجة بشكل أفقي على جبهته السمراء، ونظراته المتأرجحة بين بحيرتين: بحيرة الوله وبحيرة الحيرة. بحيرتان ضاعف صمته المفاجئ وغير العادي من اتساعهما، فبدتا كأنهما عالمان من الدوائر المتشكلة خلف بعضها البعض. دوائر من الحيرة تخفي في تيهها هوّات من الحزن والسكون. من خلال تلك الملامح، كانت وحدها تستطيع قراءة ذهنه المتوقد عادة فكرا عميقا.

الرجل الوقور، المتزن عقلا وشكلا، والذي يغزو بفكره أفكار الآخرين، كان يجلس ملتفا بهدوء مقلق وغريب عنه، وبالكاد كان يفتح فمه ليخرج الدخان. صمته كان غير عادي ونظراته السابحة في المدى وباتجاه واحد لم تكن مألوفة لديها.

اليوم هو ذكرى مولده. أصرت أن تراه رغم الخوف الذي ينتابها كلما طلب منها لقاء. كانت قد أحضرت له هدية مميزة شغلت تفكيرها أياما.

أرادت أن تهديه شيئا مميزا. أرادت أن تدخل السرور على قلبه. أرادت بقوة أن ترتدي شيئا مميزا لهذه المناسبة المميزة. ارتدت ثوبا ربيعيا بلون الليلك، تتربع على جهته اليمنى ورود جميلة، ووضعت بعضا من عطر كان قد أهداها إياه.

أثار حزنها عندما لم يعلق على هيئتها الخارجية، رغم أنه لا يكف عن التغزل بها كلما أطلت عليه كالبدر المترقب على حد تعبيره. كان لا يخفي إعجابه بحسنها ولطفها وثقافتها ورجاحة عقلها. الآن لا ينطق بحرف وهو الذي يلفت انتباهها لتورد وجنتيها ويغدقها بقوله "إنها وردة فريدة من نوعها".

ذات يوم اصطحبها في نزهة إلى غابة جنوبية، وبينما كانت تنظر مبهورة إلى كم الورود والأشجار الضخمة والفراشات الملونة، جذبها جمال شكل وردة لم تعرف اسمها. سألته:" ما اسم تلك الوردة الفاتنة؟"

قال لها بصوت رقيق وهو يثبت نظره في عينيها: "أي وردة حبيبتي؟"

أشارت بيدها نحو الشمال وقالت:" تلك الوردة الرائعة الجمال، التي تحط عليها النحلات، وأيضا بالقرب منها كانت فراشة كبيرة رائعة الألوان".

قال لها بثقة عالية، ودون أن يزيح نظره عنها: "لا يوجد هنا وردة سواك".

أسعدتها كلماته وبهرتها أكثر من تلك الوردة التي أسرت إعجابها.

اليوم يجلس قبالتها دون أن يسترسل في الكلام، دون أن ينتقل في الكلام من موضوع إلى آخر، ومن قضية إلى أخرى.

عندما ناولته الهدية لم يستلمها، أشار إليها أن تبقيها في حقيبتها، وتعيدها له قبل مغادرتها. خاب أملها لأنها لم تتوقع ذلك التصرف منه. لقد توقعت أنه سيمسك بالهدية بشدة ويشمها كما يفعل عادة عندما تعطيه شيئا ما كقلم أو مناديل ورقية أو كتابا أو جريدة، أو حتى قنينة مياه معدنية.

أجفلها صمته المذهل وعدم رغبته في الكلام، وأنبأها قلبها بأن ثمة خطبا ما يدور في ذهنه. كانت تشغل الوقت كله بالكلام. أخذت تتحدث عن يومها في العمل. وأطالت الحديث واستطردت بينما بقي هو معتصما بصمته.

شعرت أنه لا يليق به الصمت. شعرت أيضا أنه يخفي أمرا جللا وراء صمته. تابعت كلامها دون توقف ثم سكتت وأمسكت بكوب العصير، وشرعت تشرب العصير بتمهل، مانحة نفسها وقتا كافيا ترتاح فيه من عبء الكلام وتمنحه فرصة ليرتاح من عبء الصمت.

ماذا بعد الصمت؟

غادرا المكان المتربع بين أكتاف الجبال الخضراء. ومضى كل واحد منهما في سبيله، لكن قلبها ظل هناك يسرح داخل المطعم الريفي الجبلي المطل على بحيرة ذات مياه متلألئة كنظرات عينيه في تلك اللحظات التي لا تنسى في حياتها، والتي ظلت تستعيدها من وقت لآخر محاولة فك رموزها.

تبحث فيما وراء الصمت، فيما وراء تلك النظرات المتأرجحة بين الحيرة والغربة عن الذات. ظلت روحها رهينة الصمت، سجينة الحيرة. ظلت تطمح أن تطلق سراح تلك اللحظات الأليمة التي كانت ميلادا لمغادرة الطمأنينة من روحها والولوج في دوائر الظنون المؤلمة والمظلمة.

بعد ثلاثة أشهر من الصمت، تلقت منه مكالمة هاتفية تنبئها بأنه سيغادر إلى كندا.

JPEG - 12.7 كيليبايت
عود الند: تصميم خاص بالعدد الفصلي الرابع
D 1 آذار (مارس) 2017     A فنار عبد الغني     C 25 تعليقات

14 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

كلمة العدد الفصلي 04: الصحافة وأزماتها في عصر الإنترنت

«السفير»: مذاق قهوة الصباح

خبر ومقالة عن توقف المجد عن الصدور

مكتبات بلا زمان

الغازي غازي