عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

ملف: ماجد أبو شرار

شهادة جابر سليمان

ذكريات عن زمن ماجد أبو شرار


ماجد أبو شرارفي الذكرى السنوية الخامسة والثلاثين لاستشهاد ماجد أبو شرار، أستعيد بعض الذكريات ذات الصلة بموقفه في المؤتمر الثالث للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، وعلاقة هذا الموقف بالحسابات السياسية المتصلة بالمؤتمر الرابع لحركة فتح، هذا بالإضافة إلى ذكريات شخصية أخرى:

عقد المؤتمر الثالث للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين (بيروت، فندق البوريفاج، أبريل/نيسان 1980) قبيل انعقاد المؤتمر الرابع لحركة فتح. وكان ماجد عضوا في الأمانة العامة للاتحاد منذ العام 1972.

وكانت الفصائل الفلسطينية قد تمكنت منذ ذلك الوقت من تحويل الاتحادات الشعبية إلى أطر حزبية ضيقة لكوادرها تفتقد إلى أي قاعدة شعبية تمثيلية حقيقية. وتطبيقا لهذا النهج مارس يومها المرحوم أبو عمار ضغطا كبيرا على أعضاء المؤتمر عبر ممثلي حركة فتح والفصائل الفلسطينية، وفرض على المؤتمر أمانة عامة للاتحاد اختارها هو بنفسه خلافا لرغبة الغالبية العظمى من أعضاء المؤتمر (من دون الخوض في الأسماء). وهذا ما وضع ماجد في وضع كان عليه أن يوفّق فيه بين ما عرف عنه من احترام للديموقراطية وحرية الرأي وبين التصادم مع إرادة القيادة. ولكن ماجد اختار يومها عدم التصادم، وهو الذي لم يتردد يوما في إشهار خلافه في الرأي مع قيادة فتح عندما تقتضي الضرورة الوطنية ذلك.

ولا زلت أتذكر كلماته في المؤتمر التي حاول فيها شرح موقفه، حين قال عبارته الشهيرة: «حياتنا الديموقراطية سليمة، وهي وإن تعكرت للحظات لا تلبث أن تصفو».

لم يتفهم العديد منا يومها موقف ماجد هذا، ومنهم أنا، حتى أنني كتبت تقريرا في مجلة شؤون فلسطينية/مركز الأبحاث عن ملابسات المؤتمر وما جرى فيه من تدخل فجّ في مسار العملية الانتخابية الديموقراطية، منتقدا تلك العبارة بالذات.

بعد أيام قليلة من صدور عدد مجلة «شؤون فلسطينية» هذا، التقيت صدفة بماجد في مصعد البناية التي تضم مكاتب الإعلام الموحد، فبادرني بابتسامته العريضة المحببة ووجهه البشوش الذي لا يعرف الضغينة قائلا:

«بعض الناس لم يفهموا موقفي في المؤتمر. ولزاما عليّ أن أوضح لك بأننا لا نريد في التيار الديموقراطي أن نفتح معركة جانبية قبل الأوان تؤثر على معركتنا الأساسية التي تنتظرنا في المؤتمر الرابع للحركة الذي كان على الأبواب».

ربما كان ماجد على حق، حيث تمكن بتكتيكه السياسي هذا من كسب معركة المؤتمر الرابع.

وكان انعقاد المؤتمر الرابع لحركة فتح عام 1980 محطة هامة بالنسبة لما أصطلح على تسميته بتيار «اليسار» أو بمعنى أدق « التيار الديموقراطي» في حركة فتح، لجهة تعزيز تمثيله في الأطر القيادية للحركة.

وفي ذلك المؤتمر بالذات تمّ انتخاب ماجد في اللجنة المركزية لحركة فتح، كما تم وصول عدد لا بأس به من رموز التيار الوطني الديموقراطي إلى المجلس الثوري للحركة.

وقد لعب ماجد قبيل انعقاد المؤتمر جهدا محوريا في توحيد الاتجاهات المتنافسة وغير المتجانسة التي يتشكل منها ذلك التيار. وقد نجح بفضل شخصيته الكارزمية الاستثنائية في رصّ صفوف التيار وكسب معركة المؤتمر الرابع.

خرج التيار الديموقراطي من معركة المؤتمر الرابع موحدا ومنتصرا. وأكاد أن أجزم لو أن ماجد لم تغتاله أيدي الغدر عام 1981 وظل حاضرا إلى ما بعد معركة بيروت لاتخذ الخلاف في حركة فتح بعد الخروج من بيروت شكلا آخر غير شكل الانشقاق الذي حصل عام 1983 أو ما أصطلح على تسميته «الانتفاضة». إذ كان بوسع ماجد بما عرف عنه من حكمة سياسية ونفاذ بصيرة وتأثير على قيادات التيار من إدارة الخلاف الداخلي بصورة مختلفة، وتوجيه الدفة إلى وجهة أخرى، من شأنها تعزيز الإنجاز الذي حققه التيار الديموقراطي في المؤتمر الرابع.

توطدت علاقتي الشخصية والعملية بماجد في أعقاب المؤتمر الرابع. وكنت قد كلفت والزميل صبحي طه في العام 1981 بتأسيس «مركز التوثيق الفلسطيني» الذي ارتبط يومها بوكالة «وفا»/الإعلام الموحد، بعد أن تمت إعارتنا من مركز التخطيط/م. ت. ف للقيام بهذه المهمة.

وقدم لنا ماجد كل الدعم والرعاية والحماية، في وجه أصحاب المصالح الضيقة والأنانية الذين كانوا يتصدرون مؤسسات الثورة وأجهزتها. واستمرت تلك العلاقة في التنامي إلى اليوم المشؤوم لاستشهاده.

وارتبط استشهاد ماجد عندي بمناسبة شخصية وحميمة، وهي ذكرى زواجي عام 1981. وكان ماجد قد عرض عليّ المشاركة في مؤتمر التضامن العالمي مع فلسطين في روما، فقلت له إني ذاهب إلى قبرص لأتزوج.

ابتسم ماجد وقال: «إذن لتكن مناسبة لتصطحب زوجتك معك وتتزوجان في روما ولتشارك في المؤتمر في آن»، فأجبته مازحا: «لا أقوى على القيام بالأمرين معا». ضحك حينها ضحكته المعهودة التي تشيع الفرح في المكان، وقال نلتقي إذن بعد عودتنا.

وشاءت الصدف أن نسافر في اليوم نفسه. وكان لقاؤنا الأخير في صالة الانتظار بمطار بيروت، حيث ذهب كل منا إلى وجهته. ولم أكن أتوقع يومها أنني لن أعود وألتقي ماجد في بيروت، وإن غيابه عنا سيطول كل هذه السنوات العجاف.

في قبرص، بينما كنا نتمشى، زوجتي زينب وأنا، في أسواق لارنكا، سمعنا صباح يوم 6/10/1981 بخبر اغتيال السادات. أحسسنا بالفرح والنشوة لنهاية كهذه يستحقها كل من خان القضية. ولكن القدر كان يخبئ لنا مفاجأة فاجعة، حين بلغنا نبأ استشهاد ماجد بعد أيام قليلة (9/10/1981).

بكت زينب يومها بحرقة لم أشهدها من قبل. أما أنا فأصبت بصدمة شديدة ولم أقو يومها على البكاء. قررنا على الفور العودة إلى بيروت وساعدنا الصديق أحمد جابر الذي كان يعمل ملحقا ثقافيا في مكتب منظمة التحرير الفلسطينية حينها على حجز تذكرة عودة فورية. وشاركنا في جنازة ماجد وفي توديعه إلى مثواه الأخير في مقبرة الشهداء.

وبعدها قررنا في مركز التوثيق إعداد ملف توثيقي عن ماجد ليصدر في ذكرى الأربعين. وعمل كادر المركز بدأب كبير لإنجاز الملف قبل حلول الذكرى. وبالفعل صدر الملف المكون من 261 صفحة في الوقت المحدد، واحتوى على معظم الشهادات التي كتبت عن ماجد من رفاقه ومحبيه بعد استشهاده، فضلا عن ما كتب عنه في الصحف والمجلات العربية والعالمية حتى يوم 5/11/1981، بما في ذلك أقوال الصحف الإيطالية يومي 9 و10/10/1981. هذا بالإضافة إلى ملحق تضمن مقتطفات من أبرز تصريحات وكتابات وخطب الشهيد ماجد خلال عامي 1980 و 1981. وقد أشرفت على إعداد الملف وكتبت مقدمته. وقد بات ذلك الملف اليوم أحد المراجع عن سيرة الشهيد ماجد أبو شرار.

وفي العام 1983 أعاد الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين/دمشق إنتاج نسخة مجتزأة من الملف تضمنت الشهادات من دون سائر الملاحق. وعمل الأخ نزيه أبو نضال على إعداد هذه النسخة بعد تحويل مقدمتي إلى شهادة ضمن الشهادات الأخرى داخل الملف، وكتابة مقدمة جديدة له باسم الاتحاد موقعة من الأخ يحيى يخلف. أنوه هنا إلى هذه المعلومة لأن وجود الملفين خلق نوعا من الالتباس بخصوص أيهما هو المصدر الأصلي؟! وقد راجعني بعض المهتمين بكتابة سيرة ماجد عن هذا الأمر، وهذا ما دفعني هنا إلى هذا التنويه.

واليوم بعد خمسة وثلاثين عاما مرت على استشهاد ماجد، استعيد بعض الفقرات من مقدمة هذا الملف:

«قالوا إنك لوركا الفلسطيني الذي أصّر على تعلم إطلاق الرصاص في معسكر الشعر أو التدرب على الكتابة في ميدان الرماية. نعم يا أبا سلام فقد كنت طائر النوء الذي يصفق للعاصفة ويقتحم الأمواج هازئا من النوارس التي تنشد الأمان المشبوه قرب رمال الشواطئ. كيف لا؟ وأنت من جئتنا من قاع البحر الفلسطيني الواعد. رحلت يا طائر النوء، يا ابن العاصفة، رحلت أيها المثقف الثوري والقائد الوطني الديموقراطي. كنت كالمطر الصحراوي الذي يهطل فجأة بعد طول انتظار فتزهر الأرض وينتشي رحمها بالحياة وتحتضن بذور المواسم الآتية طوال سنين القحط والجفاف. ولكن سيهطل المطر من بعدك يا ماجد وتنتشي الأرض الفلسطينية بالزغاريد، فأرض الثورة دائما خضراء».

كلمة أخيرة: خمسة وثلاثون عاما مرت على غيابك يا ماجد، ولكن ذكراك لم تغب ولن تغيب عنا أبدا، فكلما أمعنت في الغياب أمعن فينا حضورك.

شعار مؤسسة ماجد أبو شرار

D 1 كانون الأول (ديسمبر) 2016     A عود الند: ملفات     C 0 تعليقات